الاثنين، 31 يناير 2022

أمركةُ العالم وبداية التحوّل



الاغراء الرأسماليّ، الاغراء في الرأسمالية، أو، الرأسمالية المُغرية، ورأسماليّة الاغراء، كلها عناوين تقترب من معنى العُنوان الأصلي لكتاب ميشيل كلوسكارد Le Capitalisme de la séduction ، الذي تحدّث فيه عن دخول الرأسمالية بنسختها الامريكية الى السوق الأوروبية، ومن خلالها، الى العالم. تحدّث عن ذلك من الجانب التاريخي، بما فيه الجانب السياسي والاقتصادي، ثم الاجتماعي والنفسي، واللذان يعتبران نتيجة حتميّة. 
كلوسكارد في الأساس رجل رياضيّ، لكنّه أكمل مشواره الدراسيّ في سنّ الأربعين، وأصبح متخصصا في علم الاجتماع، وبدأ في دراسة الظاهرة الرأسمالية في فرنسا، بما أنه انخرط في الحزب الاشتراكي. لكنّه ومع ميوله الاشتراكي، فهو يختلف جذريا مع الفكرة اليساري، خصوصاً المنفتح، المتمثّل فيما يُسمّى في فرنسا السيتّينيون les soixantehuitard ، أي أبناء سنوات الستينات، إشارة الى مظاهرات ماي 1968، والتي كانت مفصليّة في السياسة الفرنسة، وخاصة في جانبها الاجتماعيّ والقانوني.
حيث أصبحت فرنسا بلداً غير محافظاً، أي، يساريّ بالمُطلق، ومن أبشع ما انتجه هذا الفكر هو تبنّي فكرة البيدوفيليا، ولو بحثتهم في أرشيف الصحف، لوجدتم انّهم لم يكونوا يعتبرون ذلك الوسخ امراً سيّئا، بل تفتحا جنسيا –ليبرتار-أي –تحرّرا جنسياً-. فراح ميشيل يدرس سبب هذا التقهقر في كتابه، وسوف أشرع في وضع اهم النقاط التي تناولها.
يقول انّ أوروبا وبعد دمار الحربين العالميّتين، عمدت على طلب المساعدة من الو.م.أ، أو، لنقل أن الو.م.أ كانت تريد أن تساعد النهضة الأوروبية لأهداف طويلة المدى. فوقّعوا على مشروع مارشال، الذي يعود للجنرال الأمريكي جورج مارشال، وقد كان هذا طريقاً 
مفتوحاً لأمريكا في أوروبا من الجانب الدعائيّ ضد الاتحاد السوفييتي، وكذا من الجانب الاقتصادي، فقد طغت المواد والسلع الأمريكية في السوق الأوروبية، الجينز، اللبان، الات الموسيقى، الشعر الطويل.. بل وأكثر من ذلك، تم الاتفاق على عرض الأفلام الأمريكية بمقابل مسح الديون في فرنسا. 
هذه الأمور التي أسماها –الرأسمالية المتسامحة-عمدت على تغيير العمود الفقري عند الفرد الأوروبي، مما جعله –لعوباً- Ludique، مثل الطفل، واللعوب هو الفرد المُستهلك، أي الذي يشتري كل شيء، بما فيها الأمور غير المهمة وغير الأساسية.  أيضا شكّل ما أسماه الفرد المهووس بالليبيدو –Libidinale-، أي تنمية المحركات الجنسية والاستثارة المستدامة، دائما أكثر، المزيد من اشباع الرغبات دون توقّف. يقول إن سراويل الجينز هي المثال أكبر على تحوّل المجتمع الأوروبي الى مجتمع مُأمرَك، ذلك أن هذا السروال وحّد الجميع في نوعٍ واحد من الألبسة، نساءً ورجالاً، وبالنسبة للنساء، كان تسويق الجينز لها مثل التدخين، لكي ترى نفسها حرّة مثل الرّجل تماما. 
بالنسبة للشعر الطويل، فربما تجدون أن المثال سخيف، لكنّه كان يمثّل نقلةً نوعية، لأن الشعر الطويل كان موضة الثوريين مثل تشي غيفارا، هو إذا نوع من أنواع التمرّد، لكنّه تمرّد على العادات والتقاليد والدين، أي تمرّد على كل ما هو محافظة على القيم والأخلاق.  عملت امركَة أوروبا على صناعة العصابات، على طريقة المافيا في الو.م.أ ذات الأصول الايطالية، وهي مجموعات تعمل هرمياً، وهذا ما حثّ الشباب على صناعة المؤسسات لغرض الرئاسة والتحكّم. بالنسبة له، ما 1968 كان ترجمة لكل ذلك الفساد مع تواجد "فلاسفة ومفكرين" يدعمون التحرر المُطلق والتمرّد على كل القيم.
دون نسيان طغيان موسيقى الروك والديسكو اللذان طمسا الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية. شاعَ أيضاً تعاطي المخدّرات، الحقن المنشطة في كمال الأجسام والرياضات، دخول عقلية الموضة وضرورة شراء ألبسة وأفرشة جديدة كل سنة لمواكبة العصر، ما يعني أن من لا يفعل ذلك سيتأخر عن الركب، ويصبح أضحوكة الجميع، تعدد الماركات جعل الانسان في هوس دائم لتجديد خزانته واثاثه وسياراته. 
وقد قدّمت أوروبا لأمريكا خدمة جليّة عندما نشرت بلدانها تلك الثقافة في مستعمراتها القديمة.

#عمادالدين_زناف 
المقال 262

الجمعة، 28 يناير 2022

تجاوز الذات Überwindung



"الانسان فكرة يجبُ تجاوزها، فماذا فعلتم كي تتجاوزوها؟" "جئتُ أعلّمكم الانسان الأعلى." "انني أعلمُ خَطَرَكُم، لقد حان الوقت كي يولدَ نَجمُكُم الرّاقص" نيتشه –هكذا تكلّمَ زرادشت-.
عندما نتحدّث عن علم النفس، يجب أن نتحدّث عن كارل غوستاف يونغ، الفيلسوف السويسري 1875م-1961م، المُسافر، المتفتّح على الثقافات. انّه الوجه الآخر، وفي بعض الأحيان، الوجه الأكثر بروزاً في المجال مع سيجموند فرويد، وقد كانت الخصومة بينمها محلّ بعثٍ لنظريات نفسية أكثر عمقاً وأكثرَ استثارة، مثلما أحدثت قطيعة نيتشه وريشارد فاغنر فوضى وثورة في فلسفة الفنّ، في فلسفة العدمية القاتلة وفلسفة الانسان الأعلى، انسانٌ يتعالى على سذاجة الانسان المثالي، بين لاوعي فرويد، وبين 
لاوعي شخصي، ولاوعي جمعيّ، وسُلطة الظّل عند يونغ. 
عنما نتحدّث عن يونغ، نجدُ أنّه من الصّعب أن نلخّص أفكاره في مقالة لا تحتمل كل تلك التفاصيل العلمية، ومن حسن الحظّ أن يونغ نفسه من قام بتبسيط الأفكار النفسية المعقّدة، في رواياته ومحاولاته الأدبية، فقد تكلّم كثيراً عن الهند ودياناتها، وعن افريقيا، ودرس فلسفة نيتشه، وتكلّم عن سيرته ومحطّاتها، وربما أبرز كتاب قدّمه كان بعنوان الكتاب الأحمر. تحدّث يونغ عن عدّة تفاصيل تخصّ نفسية الانسان، متأثراً بفلسفة نيتشه، وأعمال فرويد، وكذا بحضارات الشرق والغرب، وبالطّبع أثّر في عديد الشخصيات في التخصّص النفسي، الفلسفي، الفني، السينمائي –فيديريكو فيليني، جون بورمان..- شخصيات عديدة تأثرت في أدوارها بشخصيّته، مسلسلات استمدّت من تحليلاته، وأثّر خاصة في عالم الأدب مثل الكاتب هرمان هس، هربرت جورج ويلس، فيكتوريا اوكامبو، وليونارد باكون، فاليريو ايفنجيليستي.. وغيرهم بالمئات.
🔸تكلّم عن الانطواء والانبساط النفسي، حيثَ حلّل شخصية المُنطوي اجتماعيا، الراغب في العُزلة، الانبساط، وهو الشخص المتوجه كلياً نحو العالم الخارجيّ، معرضاً عن كل ما هو داخليّ في نفسه. لكن من درسوا يونغ، يعلمون أنّ أبرز ما جاء به هو 
🔸النماذج الأصليّة في اللاوعي الجمعي Les Archétypes. يُمكننا جمع اثنا عشر نموذجاً قدّمه:
 الحكيم – البريء – المغامر – المسيطر – المبدع – المدافع – الساحر – المحب – التافه – اليتيم – المتقنّع persona- الأنيما والأنيموس.
هي نماذج حدّدها يونغ لصناعة جسم يعيه الوعي –العقل-، وهو عبارة عن حبل يربط بين الوعي واللاوعي عند الفرد نفسه، وكذا هي نماذج تُمثّل اللاوعي الجمعي، أي ما يتشارك فيه الناس جميعا. 
🔸قسّم يونغ الانا الى شطرين، شطر أسماهُ الأنا الجسدي Le somatique، والانا النفسي Le Psychique. وقدّ عبّر عن أن تداخل اللاوعي في الوعي أمر ضروري لصناعة الأنا المُكتمل Totale، وليس صناعة الكمال La perfection.
ان اللاوعي هو القائد والمُحرّك الأساسي للإنسان، ما أطلق عليه نيتشه اسم الفوضى Le chaos، "يجب أن تحمل في داخلك تلك الفوضى، كي تستطيع تقديم للعالم نجماً راقصاً".
🔸تحدّث يونغ عن الظّل l’Ombre، وسلطته، وقوّته. حيث أكّد أن على الفرد أن يبحثَ في ظلّهِ كي يجد جواباً للأمور التي تثير انتباهه، وقد تعمّق نيتشه في حوار افتراضيّ في كتاب انساني مفرط في انسانيته، قصة اسمها –المُسافر وظلّه-، ربط يونغ فكرة الظّل بالوهم، حيث قال، علينا أن نطرح عدّة أسئلة لمعرفة ما الوهم، لماذا أشاهد هذا؟ لماذا أحبّ هذا؟ لماذا أفعلُ هذا؟ بماذا أشعر؟
الصراع مع الظّل! يقول يونغ، اما أن تكونَ سيّدَ ظلّك، أو ستبقى عبداً له. الضعفُ هو ان تبقى ضحيّةً لظلّك، ان مواجهة الوهم ضرورة كي لا يسيطر عليك. 
بعدَ ذلك، سيصل الانسان الى صناعة أخلاقه الخاصة، تأتي هذه العملية بعد دراسة الوعي، ودراسة الوعي تمر بدراسة النماذج، أو النموذج الذي يُمثّل الفرد، واذا تحدّثنا عن نموذج بيرسونا –المتقنّع-، فإننا سنجد أن مُعظم الناس لا يمكنهم تجاوزه، ذلك أنّه يمثّل حماية الانا الخاصة بهم في المجتمع، بيرسونا هي شخصية مقنّعة مصنوعة خصيصاً للمجتمع، وما لم يدرس الانسان لاوعيه، ولم يبحر ويغص في أعماقه،  لن يستطيع السيطرة على ذاته –ظله- -وهمه-، وبذلك، لن يتمكّن من تجاوز ذاته، ولن يصبح ذلك الانسان الأعلى.

#عمادالدين_زناف 
المقال 261

الأحد، 23 يناير 2022

التنمية البشرية "بريكولاج" أدبي

 


لماذا تُعتبر التنمية البشرية والتطوير الذاتي أسلوباً.. لمن لا أسلوبَ له!
التنمية البشرية عبارة عن مزج بين التجارب الشخصية، الاحصاءات، تجارب الآخرين، قليلا من علم النفس، قليلاً من الفلسفة، قليلاً من الدين للمجتمعات المتدينة، قليلاً من اللادين بالنسبة للمجتمعات الأخرى، كثيراً من الأمل، قليلا من النتائج طويلة المدى.
لماذا تحظى التنمية البشرية بهذا النجاح؟
لأن التخصصات صعبة، وتحتاج الى ارادة حقيقية من الأفراد للنهوض بذاتهم، لنكن صريحين، من الذي يركّز مع علم النفس بشكل عميق، بشراء كُتب متخصّصة، بسماع المختصين النفسانيين، باقتناء كتبهم، بسماع محاضراتهم العلمية؟.. نسبة قليلة من الناس، لأن الاستماع لمختص علمي، يحثّك للبحث عن مصطلحاته المعقّدة، منشأها، فعاليّتها، العلم مُتعب كثيراً، لذلك المهتمين بالعلوم من الشعوب قلّة. من الذي يقتني عشرات من كتب للفلاسفة، لكي يستخلص فلسفته الخاصة بالحياة؟ من الذي يدرس كتب الفقهاء؟ من الذي ينبّش في كتب التاريخ؟ القلة دائماً.
أليس هذا تناقضاً مع دعمي المستمرّ للتعميم العلمي؟
لا، لأنني لم أدعو للاكتفاء بالتعميم العلمي، التعميم هو الباب الذي يقودك الى التخصص، هو أسلوب يجعلك تكتشف ميولاتك الفكرية والعلمية والفلسفية، باب للاستفزاز المعرفي، اما التنمية البشرية فهي لا تدعو لشيء ملموس، بل هي تدعو لشيء يخاطب المشاعر فحسب.
ما قيمة الحماس أمام السلوك؟
الحماس هو عبارة عن ردّة فعل هرمونية لتفاعل الفرد مع شيء مثير، شيء يحرّك باباً من أبواب الشهوات المتعدّدة في الانسان، لكن تصاعد الهرمونات لا يدوم، لأن دوامه يوقف القلب أو الدماغ. وان كنا نعتمد على التفاعلات الهرومنية للتحرك، فلن نتحرّك الا لربع ساعة في اليوم. ودون سلوك منهجي، فكري وفلسفي، فلن ينفع الحماس في شيء، بل سيكون حماساً مدجّجاً بالرغبات والاحلام دون أرضيّة ودون استراتيجية.
السلوك هو ذلك التنظيم غير المرئي المتواجد في العقل والقلب، وعلى عكس ما يظن البعض، البرنامج الأسبوعي أو الشهري أو السنوي للقيام بالرياضة، بالبحوث، بالسهر للنجاح.. لا يُعدّ سلوكاً أبداً، بل عملاً انسانيا محضاً، السّلوك هو قاعدة فكرية نمشي عليها، فلسفة معينة، تربية دينية، وهذه الأشياء تحتاج من الفرد -كما ذكرت أنفا- بحوثاً علمية، والبحث العلمي لا يتماشى والحماس، بل يتماشى مع الحب، الحب لا يعتمد على حماسنا للنجاح، الحب لا يعتمد أبداً على التحركات المزاجية والقدرات البدنية، الحب شيء لا يُترجم، حبك للعلم والتعلم يجب ان يكون مثل حب الام لابنها، بلا شرط، بلا قيد، بلا حماس، بلا قوة، بلا واقع، بلا منطق.
هل تعلمنا التنمية البشرية سولكاً معينا؟
لا، التنمية البشرية كما ذكرت، تقوم بخلط كل شيء لصناعة جملة شبه مفيدة، مفادها البحث عن النجاح، ما النجاح؟ النجاح وهم، لأن النجاح الحقيقي لا يجب أن تصل اليه، من يصل الى مبتغاه سيموت قبل طلاق روحه من جسده.
لماذا لا يدعو روادها الا الى انفسهم؟
لأن التنمية ليست سوى حيلة للدعوة الى الذات، رائد التنمية لا يحيلك الى العلماء، او العلم، بل يحيلك الى التجارب، التجربة كما أفردتها في عدة دروس على قناتي وفي مقالاتي، ما لم تكن علمية، أو ما لم تكن قابلة للتفنيد -كارل بوبر-، فهي فقاعة لا فائدة منها وان نجحت.
التجربة ليس دليلا علميا، ولا حجة منطقية، التجربة لن تُكرّر وان طبقنا نفس الخطوات.
لماذا تسخر التنمية البشرية من محبيها؟
السخرية هنا تكمن في جعل كل الناس بنفس الذكاء، بنفس المهارات، بنفس المنطق، بنفس التجارب، بنفس العمر، بنفس الثقافة.. كيف لا وهي توجه خطابا واحداً لكل هذه الانماط!
أبسط طالب في علم النفس يدرك ان هذا سخف وسذاجة، قد يكون هناك ما يسمى علاج الزوجين، أو مجموعة ضيّقة thérapie de groupe ليس فيها نصيحة واحدة للنجاح ولا للتطور، بل فيها ما يدفع الفرد، أو الزوجين لتخطّي مشاكلهم النفسية بأساليب علمية.
التحدث مع الناس على أنهم نسخة واحدة من البشر، هو استغباء، لكنه استغباء ناجح في نفس الوقت، لأن العقل الجمعي، العاطفة الجمعية، اللا وعي الجمعي.. يتفاعل بتطابق مع بعض المصطلحات، وهذا يشتغل عليه هؤلاء الدعاة من رواد التنمية والتطوير.
من لا يحب الخير، والمال، والمناصب؟
هو أسلوب طفولي مُغري، ناجح في كل وقت وحين.
هل هناك تنمية بشرية خفيّة.. ناجحة؟
نعم، قلتها من قبل، ان تجارب الشخصيات السياسية والرياضية وغيرها من الشخصيات الناجحة المتقاعدة غالبا هو أمر ضروري جداً بالنسبة للشباب، السير الذاتية هو أسلوب تنموي خفيّ وناجح، لكنه يصبح تجاريا وسخيفا وداعيا لعلم زائف اذا ما دعى انه ينمّي الأفراد ويطوّرهم، ذلك أن السير ليس هنا لتنمي انما لكي نستخلص منها.
لماذا ينتهج الشباب أسلوب التنمية والتطوير وهم دون تجربة؟
لأنهما أسلوب لمن لا أسلوب له، أسلوب لمن لا اطلاع له على العلوم، المختص في علم ما، صلب أو اجتماعي، لن يكتب عن الأمور العامة.. أمور تسمعها من أيّ كان، ولو كان لجدّاتنا شيء من الرغبة في الثراء، لكنّ أفضل من يقدن هذا النوع من الكتابات.
لا أنصح بكتب التنمية والتطوير الذاتي أبدا، أنصح بالتخصص في علم النفس، في الفلسفة، في الفقه، في العلوم، فهذا هو سبيل النجاح السويّ، وليس النجاح المشاعريّ والشّاعريّ.
المقال 260

الجمعة، 21 يناير 2022

مثلث بينروز.. الزاوية المستحيلة



الزاوية الميتة لمُثلث بينروز.

هو واحد من الأشكال الهندسية مستحيلة التطبيق، سوّق لها روجر بينروز، لمنها لا تعود له كعمل فنّي. هناك المربع المستحيل، الخماسي السداسي المستحيل.. المكعّب المستحيل، إلى آخره من الأشكال الهندسية غير القابلة للتركيب الواقعي.
 لكن، هي ليست عبارة عن تصميم فني مصنوع ليكون قابلاً للتطبيق، بل هي عبارة عن هندسة خيالية، أفلاطونية، تعبيراً عن بعض المستحيلات الفلسفية. لكن، هذا العمل، ورغم عمق معناه، إلا أنه غير مستحيل كما يُسوّق له الرياضيون والهندسيون، الأمر المُعجز فيه هو لا نهاية الخطوط بين الأضلع، أي أننا عندما نشاهد الشكل ببُعدين، لا يمكننا ابقاف مسار قاعدة المثلث أو ضلعه، لكن إذا ما شاهدناه بطريقة ثلاثية الأبعاد، يمكننا اكتشاف الخدعة البصرية من الشكل الهندسي. 
الرسمة الفنية تقضي باسقاط العملية بطريقة ثنائية الأبعاد مثل الصورة، وهذا ما يجعل منه مستحيلاً، لكن المجسّم قابل للتطبيق، لكن علينا أن نتحرّك بطريقة تسمح لنا بمشاهدة الشكل كاملا، أي أننا مضطرين لتغيير زاوية النظر، لكي نشكّل نحن ذلك الشكل، وهنا تكمن الحيلة اابصرية التي نقع فيها، أو نصنعها، لا ندري.. إذا أننا نصنع المثلث بزاوية النظر التي يفرضها هو، بينما يكون المثلث العادي مثلثاً من أي زاوية يُرى منها مثل مجسم الهرم بالجيزة. 
زاوية النظر هي من تصنع الشكل، أو، هي من توصلنا لقراءة الشكل، الكثير من الناس يصنعُ بمخيلته وجهاً بالسُحب، أو في رغوة القهوة، أو بالأرضية المزخرفة، الكثير منا يرون خريطة بلدهم في الأكل، يرون شكل الحيوانات في الظلال، يُسهل العقل على الانسان عملية اسقاط الأمور الهندسية، خاصة عند هؤلاء الذين يملكون ذاكرة تصويرية، هذا ما يساعدهم على الابداع اافني غالبا، أي، القدرة على اسقاط وتصميم الذاكرة في الواقع.
واذا ابتعدنا قليلا عن الهندسة، يمكن للانسان أن يستعمل طريقة ”هزّ الرأس“ لكي يرى الأمور من زاوية أخرى، فقد تكون الزاوية التي يرى منها الأشياء ميتة، عبارة عن نظرة ثنائية الأبعاد لا تقرأ الأحداث التي تكون تفاصيلها لا نهائية مثل أضلع مثلث بينروز..
قد يكون الواقع مستحيلاً، لكن عملية بسيطة مثل البحث عن زوايا مناسبة لرؤيته..قد تساهم في تركيب صورة نمطية في مخيلة المُلاحظ، وقد ترى شيئاً تعرفه يساعدك على فهم ذلك المستحيل، ومن يدري، قد لا يكون مستحيلاً كما تظن، بل كانت زاويتك مغلقة فحسب.

#عمادالدين_زناف

الثلاثاء، 18 يناير 2022

ZugZwang



عندما تَكونُ مُلزماً على الخسارة..

وضعية ZugZwang هي من أسوأ الوضعيات في لعبة الشطرنج، يعود أصل المصطلح إلى اللغة الألمانية zug حركة zwang ضرورية، أو إلزامية. وهذه الحركة غالباً تكون ضدك، لكنك ملزم على تنفيذها، كل وضعية تقوم بها ستكون في صالح خصمك، فإما أن تواصل اللّعب، أو أن تعلن انسحابك.
هناك وضعية أهرى لهذه المُعضلة، هل تتذكرون جملة ”الماكلة سيف“ عندما كنا نلعب الدامة؟
عليك أن تتخطى بيدق خصمك، هي حركة إلزامية، فيها نصرٌ لك، لكنك بعدها ستتعرّض لإذلال قد يصل لخسارة ثلاث بيادق في حركة واحدة، ذلك أنك لم تُحصّن خطوطك قبل أن تضع نفسك في موقف المُنتصر.
الوضعية الثالثة أكثرهم تعقيداً، تتذكرون منطقة كُنا نسمّيها ”الوادي“ وهي خط مستقيم يربط منطقتك بمنطقة خصمك، عندما يبقى لكل واحد منا بيدق واحد، تُدعى تلك الوضعية ”طابلة“ أي ”طاولة“، وأوّل من ينقض على منطقة الوادي، يتحرّك بسهولة من أقصى نقطة عنده، إلى أقصى نقطة عند خصمه. معضلةُ هذه الحالة هي شبه استحالة انتهاء اللعبة، إلا في حالة مغامرة من أحد الطرفين، إما الخروج من الوادي، أو محاولة حصر بيدق الخصم بطريقة عشوائية.
زوغزوانق، ظرف مررنا به، وسنمرّ به دائما، لا مناص من الخسارة في مغامرةٍ ما، هناك حركة يجب أن نقوم بها إذا ما أردنا عدم الانسحاب.. ولا يكسر قاعدة zugzwang إلا القدر، شيء ربّاني لا منطق بشريّ فيه.
لقد تعرّضت لهذا في السنة الماضية، وجدت نفسي في مكانٍ خال في وقت المغرب، وبينما اعتقدت أن هؤلاء الشباب أرادوا مساعدتي فعلا، إذ بهما أخذاني لمكان مُظلم واشهر أحدهم خنجره طالباً هاتفي. هنا سنرى المشهد من القمر الصناعي، الآن تخيلوا العملية كأنه تحدث في طاولة دامة، هناك بيدقان للخصم، وبيدق واحد لي، أي حركة سأقوم بها ستعتبر Zugzwang، أي هي حركة كئيبة وخاسرة، لكن مع ذلك وجب القيام بها، انزلوا إلى الأرض مجددا، عندما أشهر خنجره، مباشرةً مسكت محفظتي بقوّة، والتفت وانطلقت بسرعة البرق أجري بخط مستقيم في ذلك الطريق السيار، حاولت عدم النظر خلفي كي لا تقل سرعتي، وأن لا أجهد نفسي بالصراخ، كل ما كنت أقوم به هو الاشارة للسيارات بالوقوف، حركة خاسرة لكنها حركة حياة، حركة بقاء.
لا أعلم كيف ركضت بتلك السرعة، لا أعلم كيف لم يلحقا بي، لا أعلم كيف لم ينقضا عليّ عندما وقعت من طولي عندما خذلتني طاقتي، وخذلني صوتي للصراخ، لكن ذلك ما حصل، توقفت سيارة في وقت فقدت الأمل بأن يقف لي أحدهم، وعندما حصل ذلك، اختفى الشابان بدراجتهم.. 
كانت تلك هي حركتي، كنت أكرر الشهادة لأنني اعتقدت أنني لن أفلت منهما أبداً في ذلك المكان الشبه خال، لكن حدث عكس ما كدت أن أستسلم له.
نعم، zugzwang حركة كئيبة، في كل الألعاب، هي حركة خاسرة، إلى في الحياة، عليك أن تتحرك وإن توقعت الخسارة، فالله يرعاك إذا شاء، وسيحملك في الهواء إذا تطلب الأمر، لن يفهم كلامي هذا إلا من مرّ بتجربة كان فيها قاب قوسين أو أدنى من الهلاك.

#عمادالدين_زناف 
المقال 259

الشعور بالذنب.. لا طبيب له



الشعور بالذنب ..لا طَبيبَ لهُ.

هو شعور يقود الفرد إلى الانقلاب على نفسه. برغم كل المحاولات التي جاء بها العصر الحديث ليخفي أعراضه، محاولات تغطية الخراب بالزينة، محاولة العصر لإخماد النيران بأوراق الأشجار. يبدو أن الطب لا يستطيع علاج كل شيء، هذه هي الحقيقة التي يستكبرها الانسان.  في اليابان وإسكندينافيا، يقودُ الشعور بالذنب الى الانتحار، فمن المهم استكشاف أصل هذه المشاعر التي تنخر الانسان، حتى نتمكن من فهمها والتحكم فيها.
الشعور بالذنب هو الشعور بالندم العميق، ندم مؤلم لا حلّ له، فهو مفهوم مرتبط بالخير والشر، ومن المعلوم أن مفاهيم الخير والشر تطورت مع تطوّر الشعوب والحضارات، الخير والشر عرفا تحوّلاً منذ أن جاءت أحكام جديدة تقود الانسان، فقد خضع الى مرحلة أن من يُصنّف الخير هو القوي، وبالتالي كل ما هو ضعيف يُعتبرُ شرّاً، ثم الى مرحلة الدين، وأنه هو من فرّق بين الخير والشّر، دون الأخذ بعين الاعتبار من القويّ ومن الضعيف، وأخيراً، مرحلة الانقلاب على المرحلتين السابقتين، أي، قوانين تقتضي بفرض ما يراه العامّة خيراً، وان كان شرّاً على الخاصّة، الخاصّة النجباء والأغنياء والحكماء.  وبالتالي فإن الشعور بالذنب هو المرض الذي تنتهجه البشرية اليوم، لأن الانسان يمشي عكس طبيعته الأولى والثانية.
اعتبر نيتشه أن الضمير السيئ أو الشعور بالذنب هو المرض العميق الذي يغرق فيه الإنسان تحت ضغط التغييرات التي يمر بها بشكل عام، التغيير الذي يحدث عندما يجد نفسه أسير قوانين المجتمع وأسيراً لمفهوم السلام.
عندما غادر الإنسان البرية، تلك الحياة الخارجة عن القانون، ليدخل عالمًا جديدًا، المسمى بالحضارة والمدنية، وقع في صدمة. صدمته في أن غرائزه القديمة أصبحت لا قيمة لها.  يقارن نيتشه التغيير الجذري الذي مر به الإنسان، بالتغيير الذي حدث من قبل للحيوانات البحرية الأولى، التي شعرت بالرغبة للزحف نحو اليابسة، الأمر الذي حدث بدافع الضرورة، لأن الحيوانات المائية أُجبرت إما على أن تصبح حيوانات برية أو أن تهلك. ان الذي حدث لهذه الحيوانات هو مضمار طويل من محاولة التأقلم، هي التي تعودت على الحرب والتشرد تحت الماء، وفجأة، كما حدث للإنسان، وجدت كل غرائزها مُحطمة القيمة ومعلقة بلا معنى. وتحولت تلك الحيوانات –مثل الانسان-الى اجبارية التفكير، والاستنتاج، والحساب، وتدبير الأسباب والنتائج، والشعور بالتعاسة، والشعور الضمير، والشعور بأعضائهم الفقيرة والضعيفة، وأصبحت –كما أصبح الانسان-أكثر انفتاحًا على سوء الفهم منها على الفهم.
أصبح الانسان ملزماً بأن يتخلى عن غرائزه اللاواعية، ليسترخي على الضمير العقلاني، لكن غرائزهُ الجامحة لم تختف عكس ما يعتقد، بل على العكس، فقد اضطر إلى قلب غرائزه إلى الداخل، في أعمق غرفةٍ من نفسه، ذلك أن قوانين المجتمع الجديدة تنهى عن التعبير عنها بأي شكلٍ كان. ويعود "الفضلُ" في هذا إلى تنظيم الدول للحماية من غرائز الحرية القديمة للإنسانية. 
كل هذه الغرائز للإنسان البرّي، الحر، المتجول، المتشرّد.. ستنقلب على نفسه. وبعد أن يقلب غرائزه القاسية على نفسه، يبدأ الإنسان في إغماء نفسه بكل الطرق، هذا التحوّل هو أعلى "الشرّور" الذي عانت منها الانسانية على الإطلاق –وستعاني منها كثيراً- ، هو مرض لم يشف منه الإنسان، ولن يُشفى منه أبدًا.
الانسانُ المعاصر يعاني من قلة الأعداء والنقص الفادح للمقاومة من الاعتداءات الخارجية، انهُ ينضغِط في نُظُم الأخلاق المفروضة ووجودها، يمزّق نفسه، يعذّب نفسه، يقضم نفسه، يشنقُ نفسه، يعامل نفسه بوحشية باحثاً عن إرادة القوّة التي كانت يوماً سبب سعادته. إنه باختصار مرض الإنسان المتحضر.
يجب تجاوز الشعور بالذنب، لأن المُذنب الحقيقي لا نعلمهُ، هذا الشعور هو نكرانٌ للحياة ببساطة، ذلك أن هذا الشعور كاذب، غير متعلق بخطء مُقترف، انما هو شعور يُثقل كاهل كل انسان، بعد ان سلبوهُ غرائزه، ورحّلوه عن طبيعته.

#عمادالدين_زناف 
المقال 258

الاثنين، 17 يناير 2022

النفسجسمية psychosomatique



النَفسَجِسميّة، بسيكوسوماتيك، أو المرض النفسي الجسمي، كلها تسميات لما يُعرف بانتقال المُعاناة النفسية الى مرض عضوي جسدي. أكثر أنواع السيكوسوماتيكية هي الصّداع النصفي، والقولون العَصبي، هذا ما يُشير أيضا بطريقة مباشرة للعلاقة الوطيدة بين الروح والجسم، وهذا ما يطرد أيضاً نظرية عدم وجود الرّوح. 
غالباً، لن يَجد المُشخّص أي مَولد لهذه الأمراض، فقد نستطيع اتّهام تذبذب تناولنا للكافيين، للنيكوتين، لقلّة النوم، لكن الى متى؟ العلاقة بين سوء التغذية والمرض تكون حلولها بالعودة الى النظام الغذائي المتوازن، لكن الكثير منها مولدها نفسيّ بحت. لا أستطيع أن أتذكّر أنني حادثتُ شخصاً لم يصب بصداع مزمن أو بالقولون العصبي، آلام المفاصل، السكري، الضغط، وفي حالات مؤسفة، أمراض القلب، السرطان، والمرض العضال..
صرتُ أكلّم أشخاصاً مصابين بأمراض بهذه القساوة، بالرّغم من غياب تلك الأمراض عن العائلة، أي أنها غير متوارثة. في علم النفس، يشخّص المعالجون تلك الحالات غالبا وحسب مطالعتي الى صنفين، الصنف الأوّل يعاني فعلا من آلام عُضويّة حادّة، وهنا يمكن القول إنه في مرحلة النفسجسمية، أو، الصنف الثاني الذي يتهيأ له أنهُ يعاني من آلام، وقد تكون أحد أعراض الهيستيريا.  
هذه معلومات أوّلية وعامة عن هذه الظاهرة التي أضحت علمية ولا مجال لتفنيدها، ذلك أن مُعظم الناس يتعرّضون او قد تعرّضوا لهذه الظاهرة، لديّ نَظرة خاصة بهذا الشأن، وليست لهذه النظرة أي علاقة بتجربة علمية أو نفسية، بل هي عبارة عن فكرة فحسب، الفكرة أننا عندما نتعرّض لاضطرابات نفسية، لضغطات متراكمة، لصدمات، حالة الغضب أو الحزن أو الرّفض التي نعيشها تؤثّر في شقّين، الشّق الاوّل اضطراب عصبي في الجسم، اضطراب في الدورة الدموية، مما يؤدي الى تصاعد او تباطء في دقات القلب، صعوبة في التنفس أو تنفس سريع، ما يربك العملية العامة للحياة البيولوجية، هذا ما يؤثر بشكل مباشر في المناعة، أي يضعفها، ونحن نعلم أن الأمراض تنقض على الشخص في فترة نزول مناعته، وما يضعف المناعة أيضا، هو خلل في التدفّق الهرموني، غالبا ما يتأثّر الدماغ بسوء الوضعية الجسمية، ونحن نعلم أن الـHypothalamus  المتواجد في الدماغ، هو المسؤول الرئيس –وليس الوحيد- عن الإشارات لتدفّق الهرمونات، فاذا تعرّض لخلل ما –قلّة النوم- خاصة، يصبح من الصعب أن يقوم بمهامه، لـAxe Hpta 
الذي يتحكم في ميزان ومعدّل تدفّق الهرمون الذكوري أو الأنثوي يختل شيئا فشيء، وكل هذا يحدث إثر صدمة أو حادثة غير مُدارة بطريقة صحيحة في آنها. هذا في الشّق الاوّل، أما في الشّق الثاني، والذي يكون عبارة عن توابع للشق الأول، وهو الصيام غير الصحي، نعلم جميعا أن الانتقال السريع –غير المتدرّج- في معدّلات السّكر والملح يُحدث مشاكر كبيرة في القلب والدماغ، هذا الأخير، يعتمد بنسبة كبيرة جداً على الكلوكوز للعمل بشكل طبيعي، فضرب نسبة تعاطيه في اثنين –بتعاطيه او بنقصانه- يُرّضنا حتما الى صداع، الى ارهاق ونقص إرادة كبيرين. وذلك الإحساس بالضعف، يتطابق تماما مع الشعور بالكآبة المُبكّرة premature.
بالنسبة للكآبة، فهي تعود بشكل كبير جدا الى الاختلال الهرموني، النّاجم طبعا عن أسباب نفسية، أو، عن أخطاء طبيّة، أو حُقن مُنشّطة يستعملها الرياضيون، أو المخدرات وبعض الأدوية.  للأسف، الحزن، والكآبة، والرّفض، كلها أمور تعرف كيف تغذّي نفسها بشكل ذكي، فهي مثل الوباء الذي يتحوّر باستمرار للهروب من أي مضاد، الحزن يأخذ أشكال مختلفة دائما، فهو ينتقل من النفس الى الصداع الى المرض العضوي الى محرّكات سلبية مثل محركات الموت أو العداوة، ويبقى هكذا يتحوّل ويختفي ما لم نعالج السبب الرئيس الذي وضعنا في هذه الوضعية الحرجة.
يرى الكثير من أطباء النفس، أن العملية النفسجسمية ردّة فعل طبيعية، قد تكون صحيّة Bénin، فكثير مننا يشعر بتحسّن بعد القيئ، أو بعد ليلة عانى منها من حمى وتعرّق شديدين، ذلك أن العلمية مرّت بسلاسة بين الصدمة النفسية والجسمية، ولم يكن لها أثر كبير. الخطير هو ردّة افعل المنعدمة أو المتأخّرة، الكثير من الناس يعانون من غياب ردود الفعل مثل الضحك أو البكاء أو الصراخ، أو حتى المرض أو الصداع، قد يتمتع هؤلاء بما يسمى dédoublement émotionnel  أي القدرة على تخطّي المشاعر السيئة أو المرور سريعا الى شيء آخر، لكن الغالبية لا يملكون ذكاءً عاطفيا متطوّراً، ذلك أن معظم الناس لا يجلسون لينصتوا الى أنفسهم بعمق. 
كل ما يمكنني أن أقوله ختاماً، أننا لا يجب أن نعتبر أنفسنا خارقين وغير معرّضين لهذه الأمور، الانسان كائن ضعيف رغم كل القوة التي ينتجها، فهو يحتاج الى تجديد الإرادة وتجديد نفسيته للمواصلة، باختصار، يجب التواصل مع الأخصائيين في حال تعرضنا لأي حادث نفسي معيّن، لا ضرر في معاينة بسيطة، في محادثة مع أخصائيين كرّسوا حياتهم لهذه التفاصيل التي، اذا اعطيناها حقها، خرجنا منها بأقل الأضرار، واذا ما تغاضينا عنها، فلن يتضرر أحد غيرنا، خاصة اذا كنا أناسا طموحين لا نريد الوقوف في منتصف الطريق.

#عمادالدين_زناف 
المقال 257

الخميس، 13 يناير 2022

انسى المرأة قليلاً..





انسى المرأة قليلاً..

مشكلة الشباب اليوم، يريدون النتيجة ”الحصول على المرأة المثالية“ مباشرةً، لم تكن الحياة هكذا أبداً، من يريد أن يُثير انتباه أحسن النساء، عليه أن لا يبحث عنها، من الآخر: لا يجب أن يبحث عنهن؛
عليه أن يصنع حياةً مثالية له، هدفاً شخصياً طويل المدى، أن لا يكون هدفه أمراً عَرضياً، المرأة رفيقة الهدف وليست الهدف عينه، هي هدف جميل، لكن تسبقها أهداف للحصول عليها، عندما تصبح المرأة هدفاً للرجل، ويظهر عليه ذلك، سيفقد كل محاسنه، سيصبح طارداً لهنّ تلقائياً، لأن المرأة لا تثق في الذي لا هدف له سواها، لا تريد أن تكون هي الهدف، بل تريده أن يصحبها إلى عالمه..، إلى الشباب، ضع النساء جانباً الآن، لا تخجل من رغباتك، الرغبة هي الدليل على أنك سويّ جسدياً ونفسياً، حاول ألا تتسرع، اصنع عالمك وانسى نفسك فيه.
السبب الرئيس لتعمال الشباب مع النساء بشكل عنيف وغير مُحترم، هو ذلك الإحباط من الرفض النسوي المتكرر لهم، ذلك أنهم لم يستوعبوا بعد أن النساء لسن هدفا، ولا تردن أن تكون هدفا لهم، هي تحتاجك لتنقلها من عالمها، ولا تريد أن تدخلك إليه.. 
توقف عن إرسال الطلبات للتعارف، توقف عن تضييع وقتك، لن ينجح الأمر، وسوف يزيد احتقارك للمرأة يوما بعد يوم.. والسبب فيك وحدك.
توقف عن الغزل العبثي، توقف عن التظاهر باللطافة، توقف عن التظاهر بالفحولة، توقف عن شتم هؤلاء اللذين يثيرون النساء، كن مثلهم مثيراً فحسب..
توقف عن فعل كل شيء موجه للمرأة، المرأة أبسط من هذا بكثير؛ اصنع نفسك، اصنع مشاريعك، انغمس فيها، لا تخادع نفسك بايهامها أنك لا تأبه لهن، كن مقتنعا فعلا أنك لست بحاجة لهن الآن، أنت بحاجة إلى نفسك.
الوصول إلى الأهداف الشخصية، سيجلب معه الرفيقة تلقائيا، كن متيقنا من هذا، وبها ومعها، ستواصلون نحو أهداف أجمل.. أما كونها هي الهدف، فعندما تبلغه، ستصبح شخصاً بلا هدف، أي، شخصاً بلا معنى، شخصاً متوفى إجتماعياً، والأسوأ: متوفى في نظر من تحبها.

#عمادالدين_زناف

الاثنين، 10 يناير 2022

أتحبون الأشرار؟




لا يجب أن نُعطي الشيء السيئ منظراً يوهم بعظمته وقوّته، بقدرته الخارقة أو انبهارنا بعدم قدرتنا على فهمه. في كثير من الأحيان، كل ما يبحثُ عنه هؤلاء هو العِرفان، أن يُرون كأنهم أساطير شريرة مدجّجة بالعبقرية والكاريزما، وان كان الامر كذلك، لا يجب أن نساهم في تضخيمها أكثر من ذلك.  نُشاهد عديد الأفلام والمسلسلات، ونقرأ الكثير من القصص والروايات، وصفاً مليحاً للأشرار، وصفاً لن يحظى به غيرهم، ذلك كي نُبرّر أفعالهم وأن من الضروري أن نوقفهم. لكن في خضمّ تلك المحاولات، ننسى أن الجماهير تنبهر بالدماء وأكثر مما تمدح الأشخاص الذي ينظّفون المكان منها، وأن تلك المحركات الغريزية للعنف والحرب والموت، تجد متعتها الكاملة في إطالة تلك المشاهد. غالبية الأفراد، يحملون في أعماقهم تلك الرغبة في تقليد أحد الأشرار الذين يشاهدونهم، ذلك أن الشرير يحمل صفات لا تتوفر في الأخيار والعاديين من الناس، ومن أبرزها الجمال، الفصاحة، الذكاء، والثقافة بشكل عام. لا يستطيع أي أحد أن يقوم بأعمال سيّئة، لمدة طويلة، دون ان تتوفر فيه كثير من هذه الأمور، التي تطيل عمره اجتماعيا، فالمرضى النفسيين، هم الأكثر نجاحاً في لعب الأدوار الملائمة مع الناس العاديين. فتخيّل أن يُصوّر لك انسانٌ، يشبه كثيرا من صفاتك الاجتماعية "الطيّبة"، وفي نفس الوقت، يقوم بأشياء مُعقّدة، ولا يُكتشف أمره. كل تلك التناقضات التي نراها في الأفلام والكتب، تُعجبنا الى درجة محاولة تقليدها في مخيّلتنا، ونتمنى دائما لو كان ذلك "غير حرام"، أو "قانوني". وتر القانون، الذي استعملته سلسلة أفلام مثل The Purge، أين حاولت تجسيد تلك الرغبة الجماهرية في تشريع القتل ليوم واحد دون معاقبة.

وقد شاهدتُ عديد المسلسلات، أخفق فيها كتاب السيناريو في إيصال الشهوة الى ذروتها بالنسبة للمشاهدين، ذلك الإخفاق الذي صرتُ أراه نجاحاً انسانياً باهراً، ذلك ان المُنتج فيه نوع من الحسّ النفسي، سأعطي مثالاً سريعاً. في سلسلة the mentalist، تابعنا حلقات باتريك جاين وهو يحاول أن يصل الى القاتل المتسلسل RedJohn، ذلك المجرم الذي قتل زوجته وابنته مبررا ذلك بأن باتريك جاين قد احتقره في التلفاز أمام الملايين من المشاهدين. في هذه السلسلة شاهدنا كل شيء له صلة بالعبقرية والذكاء من الطرفين، باتريك وريد جون كانا مثالاً في الخير القويّ والشرّ القويّ، وقد وصل بنا الأمر كمشاهدين لدرجة البحث عن الخبايا والتفاصيل لاكتشاف من الرجل الذي يختفي وراء هذا الاسم المستعار، المسلسل الى حدّ الآن أوصلنا الى ما كان منشوداً، أصبنا بهوس البحث عن القاتل، وفي نفس الوقت، بتنا نتساءل، هل هناك بشريّ يملك هذا القدر من العبقرية لكي يفلت في كل مرة؟ وهل يمكنه ان يكون مجرماً، وفي نفس الوقت يملك حساً فنيا، وكذا قدرة عالية في كسب ثقة الجميع، بل وولائهم له! لم نصل اليه، الا بعد ان قام المخرج بتفكيك هذه الشخصية، وتفكيك طريقتها، وانزالها من درجة "القداسة"، الى درجة الإنسانية والخطأ، بل والى درجة السذاجة، فقد قام مخرج السلسلة بعمل نفسيّ تفكيكي جبّار، لكي يخلع من عقولنا فكرة كادت أن تُضاف الى عدة تخيّلات بأن الشرير رجل جذّاب لا يخطئ.

وقد كانت ملاقاة الرجلين، باتريك وريد جون، عبارة عن مسرح عظيم جدا من هذا الجانب، وصادم جداً بالنسبة للذين كانوا يعظّمون "ريد جون". كنا نريده كما خُيّل لنا، لكن المخرج كان أذكى من ذلك، لا أعلم ان كان يدرك أو لا يدرك ذلك، لكنّه عمد على انقاد الجميع من حبّ ذلك الرجل النتن.

هل تعلم كتبا ومسلسلات كُتبت لتعيب الشّر، فأصبتم محبين للأشرار؟ انّه الإخفاق النفسيّ الكبير، والخطير، بالنسبة للمشاهدين والقرّاء، وهو الربح العظيم، بالنسبة للذين يستعملون نقد الشّر لكي يبجّلونه بطرق ملتوية. ربما ذكر الشّر كما هو، ما هو الا تسويقٌ له، يجب إهانة ذكر كل انس وجنّ سيئين، لأن أي خطوة غير هذه ستعكس رسالة المؤلّف، فاذا كانت مرجوّة، فهؤلاء أخطر شيء في الوجود، وإذا لم تكن مرجوّة، وجب الانتباه لهذا، لأن الشّر في نظر العامة، أكثر اصارة للاهتمام من الخير.   

الخميس، 6 يناير 2022

الحدس الكاذب



الحدسُ الكاذِب.. فِخاخ الذكاء البشري.

الحدس مَلَكة إنسانية وحيوانية، تُسمّى الغريزة عند هذا الأخير، وقد نُعنا بها أيضاً إذا اعتبرنا أنفسنا من نفس عائلة الأحياء فوق الأرض، دون فوارق فاصلة. غريزة الحيوان أعلى حَيويّة بكثير من غريزة الانسان، لأن الحيوان معرّض للخطر بنسبة كبيرة جداً، ذلك أنه عاجز على تحليل الحِيَل غير المُباشرة، الحيوان عاجز على تحليل مفهوم الكذب. إذا كان الكذب وسيلة إنسانية بَحتة، فهو بذلك يملك الأفضلية دائماً، توقّع الأشياء، وعدم تكرار التجارب السّابقة. قد يكون لبعض الحيوانات ذاكرة غريزية حيويّة عالية، تجعلهم يتذكّرون الخطر، لكنّها لا تكفي كي لا يقعون في فخّ تكرار المُخاطرة، ذلك أن غريزتهم هي التي تتولى قيادة سلوكهم، وأن فكرة عدم القيام بالواجب الغريزي لا تخطر في بالهم للحظة.  وقد تربط بين الانسان والحيوان في هذه النقطة، حيث ان هناك أصنافاً من البشر تتحرّك غرائزياً، رغم مَعرفة العواقب، وكذب الواقع الذي يعيشونه، الا انهم يصمّمون على تكرار التجارب. الشيء الذي يفكّ الرباط مُجدّداً بين الانسان والحيوان، هو الضمير، النّدم، الحسرة، الغضب من الذات، الحزن العميق، الشيء الذي لا يشعُر به الحيوان إذا ما كرّر تجربته الغرائزية وفشل فيها، أو كاد ان يفقد حياته عند فعلها، ذلك أنه لا يرى نفسه الا في تلك الأفعال، بتلك الطريقة. أما الانسان، فهو يملك الاختيار في القيام بأمور أخرى، بأقلّ مجازفة، وأكثر دقّة. 
يتعالى الانسان عن سائر المخلوقات بملَكة التفكير فيما سيأتي وتوقّعه والقدرة على تفادي المخاطر في كل مرة، عدم القيادة في حال ضباب كثيف، المشي فوق الرّصيف، النظر يميناً وشمالا قبل قطع الطريق، عدّ النقود بعد اشتراء الأغراض، والنظر فيما كان طرحُ البائع صحيحاً. كلها سلوكيات إنسانية لا يتقاسمها مع أي مخلوق، غير ان حماية هذه القدرة لهُ تبقى نسبية، أمام نسبة نباهة عالية من انسان آخر مثله، أو أمام حيوان يستعمل أسلوب المباغتة، فالعديد من البشر يتوقّعون المخاطر بالحدس البشري للأشياء، بينما يجب أن يفكّروا أيضا من وجهة نظر وغريزة الطبيعة أيضاً. 
الانسان يترك لنظيره الانسان فرصة اثبات أنه أمين ومُخلص، يترك مجالاً للشّك في نواياه ومقاصده، يترك له مساحة التعبير عن كينونته وعن أفكاره، مجال ليستعمر كثيراً من مساحته الحيوية، قد يقاسمه غرائزه، وقد يقاسمه مشاعره، نستطيع القول ان الانسان له خاصية تسليم نفسه للإنسان الآخر دون أي خوف، أو على الأقل ليس دون مبرّر فعلي. ذلك ما لا تجده عند أغلب الحيوانات، أقول أغلبها لان الحيوانات الأليفة قد طوّرت مع مرور العصور غريزة التأقلم مع الانسان ومحيطه، لمصلحتها الباطنية الحيوية، للتكاثر والأكل بأمان، قد تعتبر الانسان حيواناً مثلها، حيوانٌ غير مؤذٍ. الحيواناتُ غالباً لا تُصادق بعضها الا نادراً، تتربّصُ لبعضها، تُهاجم بعضاً بأبشع الطُرق، هي لا تكذبُ لا في حقدها ولا في مودّتها، هذا ما يُفسّر تسليم الحيوان نفسه للإنسان المُسالم، تسليماً كاملاً، أو، مثل الجوارح والنمور، تسليما مؤقّتا قبل أن تُمزّقه في ساعة الحاجة، وذلك لا يُعدّ كذباً، اذ أن الحيوان لا يَعدُ أحداً، ولا حتى الحيوان الآخر. 
يعتقد الكثير من الناس أن الثقة الإنسانية جزءٌ من ضُعفه ورحمته، غير أنها أمرٌ طبيعي لا يُمكن تجاوزه، فقد طوّر الانسان من نفسه ومن محيطه بثقته الكاملة بعشيرته وأهله. لا يمكن أن تتصوّر أن الأم أو الأب، في عالم الحيوان، قد يترك أبناءه لحيوان آخر لكي يدافع عن محيطه في الغابة، ذلك أن ليس هناك اتّحاد بينهم لحماية رقعة ما، وان حدث، لن يأتي غسق ذلك اليوم الا وتصارعوا ضد بعضهم لمن يملك ويقود تلك المساحة. 
ما الحدسُ غير الشعور بأن الآخر يخبئ شيئاً مريبا لا يعكسُ سلوكه الخارجيّ، وما هو غير أننا نشعر بأن الامر سينجح رغم كل العوامل المادية التي تشير الى عكس ذلك، الحدس أعلى درجة من الغريزة، لكن الغريزة أكثر فاعليّة وأكثر منطيقّة من الحدس. ذلك أن الغريزة الحيوانية تعتمد على عوامل سلوكية متكاملة الأركان قبل الشروع في الهجوم، أو الهروب، أو التزاوج، أو المكوث. لكلّ صنف من الأصناف الحيوانية قواعِدَ دقيقة للقيام بخطوات حيويّة، الغريزة الحيوانية، بمنظورنا البشري، هي عمليّة علميّة، وليست عمليّة تخمينيّة، لا يُخيّل للحيوان الخطر، أو السّكون والراحة، بل هو يجزم بذلك، وبالأدلّة. 
 بينما يستعمل الانسان في حسه على بعض الأمور، غالباً ليس لها أي أساس علميّ ولا مادّي، أغلب حدسيات الانسان ترتكز على الخبرات والتجارب، ودوافع نفسية عميقة مثل الخوف والرهاب، أو سوابق علمية. 
ونحن نعلم علماً يقيناً أن الذي يعلم، غير الذي لا يعلم، فالذي يستعمل الحدس، سيعتمد على كل ما كسب، وسيعتمد أيضا على كل ميوله النفسي ودرجة رهابه وخوفه أو أمله وتمنياته، واذا افترضنا أن الفوارق الانسية تكمن في درجة قربه من الصواب في كل مكتسباته وخبراته ومشاعره، فانّه حدسه في صواب كبير اذا ما كانت معدلات الأمر التي ذكرتها مرتفعة، وفي خطر كبير جداً، اذا كانت معلوماته خاطئة، تجاربه سيّئة، مع اعتماده على مخاوفه التي قد تكون اضطرابات نفسية عميقة وليست واقعاً، زيادة على رغبته في حصول ما يضنّهُ حدساً وليس الهاماً كما يريد أن يتصوّرهُ!
ان ما أكتبهُ لكم ليس الا محاولة وضع الحدس في مكانه الصحيح، وليس الاستغناء عنه، لأن الاستغناء على ملكة الحدس، هو استغناء عن الذكاء البشريّ.  لكن علينا أن نعلم بأننا لسنا سواسية في فهم الأمور، وفي درجة الذكاء، وأن الأنا هي غالبا ما تتحكم في حدسنا، تمنيّاتنا قد تشوّش لنا الواقع، وتجعلهُ تجسّد أمامنا كما نطمح أو نهاب، فنخطئ خطئا فادحاً.

#عمادالدين_زناف 
المقال 254

الأربعاء، 5 يناير 2022

علم النفس عند بيار داكو


الكتاب الذي سأشرع في تحليله هو لـ بيار داكو، وهو مُعالج نفسي بلجيكي ولد سنة 1936م وتوفى سنة 1992م، هو أحد أبرز طُلاب كارل جوستاف يونغ. مُعظم مؤلّفاته تتحدّث عن علم النفس التحليلي، فهو فرويدي بامتياز، خاصّة عندما يتناول موضوع اللاوعي والآليات التي تكُوّنه، كان يُدافع عن فكرة التعاطي مع الانسان بطرق مُختلفة plurifactorielle، للوصول الى كماليّة الانسان. اعتمَدَ أسلوب التعميم العلمي في شرح علم النفس وفروعه، في الحديث عن الأمراض النفسية، في تبسيط المفاهيم المعقدة او تلك التي تختلط علينا عادةً. من الضروري أن تكون لدى الشعوب ثقافة مُحترمة في علم النفس، وكذا تفضيل المعالجين النفسيين ابتداءً وآخراً، على أساليب أخرى غير علمية، ما يُسمّى بالدّجل أو "العلم الزائف".  كُل ما سأرجهُ، سيكون ترجمةً بتصرّف لما كتبه داكو حول الموضوع في كتابه، les prodigieuses victoires de la psychologie الانتصارات العظيمة لعلم النّفس.
بماذا يهتم علم النفسي؟ 
ابان تجاربي في هذا المجال الرائع، اكتشفت ان لعلم النفس مليء بالخبايا والظلال، يُقال لي "ما هو علم النفس في نهاية المطاف؟"، "ما الذي يُعاجله؟"، العديد يعتقدون انه يتلخص في شخص يقوم بتجارب معيّنه مع الأفراد، أو هو مجرّد شخص يُدير النفسيات، أو ساحر يُذهب الأمراض بطريقة ما!  كل ما يُطلب مني في صورة تهجئة ثورة المراهقين، أو معالجة ألم ما، هي حتماً من مهامي طبعاً، ورغم أنني أفعل ذلك بطرق علمية، الا أننا نقوم بذلك بإيماننا بالإنسان. 
ما هو علم النفس باختصار؟ 
هو علم يدرس الروح أو النفسيات، الروح والنفس لهما تعريفات كثيرة، لذاك يبقى تعريفه بشكل قطعي عملية صعبة، صعوبة تفريق النفس من الروح في العلم. يقول جانت: علم النفس يلمس كل شيء، وهو في كل مكان. يمكن تعريفها بأنها دراسة سلوكيات الانسان الداخلية والخارجية، أيضاً، البحث عن مسببات تلك السلوكيات الداخلية والخارجية.
لماذا يثير اهتمام الكثيرين؟ 
الجواب سهل، تطور علم النفس بتطوّر الحاجة اليه، في عالم معقد كهذا، البحث عن الأجوبة يأخذ المساحة الأكبر. يجب أن يتوفّر للإنسان حقل كبير لإعادة البناء النفسي. من الصعب أن يتحقق لك أن العديد من الناس ليسوا بشيء.. بالمقارنة مع ما يمكنهم أن يكونوا، لذلك يبقى البناء النفسي الوسيلة الوحيدة لحياة أفضل. 
أهم شيء فيه؟
التوازن، يجب البحث عن التوازن الجسدي والعقلي عند كل انسان، بدون هذا الشرط، لا شيء يمكنه أن يُنجز. 
ما هي مشكلة الانسان المعاصر؟
مشكلة الانسان المعاصر في عدم التأقلم، وهذا ما يؤدي مباشرة الى القلق angoisse، بيد أن الانسان خلّة بين ما هو فعلاً، وما يعتقد أنه هو. 
الانسان متجمّد في عالمه؟ 
تخيّل ان انسانا ما، قد اكتشف محطّة ما، في مذياع ما، وهو يستمع لموسيقى ما، فيبقى يستمع لتلك الموسيقى، طول الوقت، هي كل شيء بالنسبة له. الى ان يأتي أحدهم، وبشكل مباغت.. يغيّر له المحطة، فيُصدم بسماع الاف اللغات، والموسيقى، والأحداث.. هو الذي كان يعتقد أن كل العالم يتمحور في تلك الموسيقى وتلك المحطة، بتلك اللغة. 
هذا هو الانسان، منطوي على فكرة واحدة، يكررها دائما، هي عالمه، لا يعلم أصلا ان هناك خيارات أخرى.. مع ذلك، يظن انه يعيش! الى أن يأتي اليوم، أين يغيّر أحدهم..
التعليم وعلم النفس؟ 
التعليم هو حلّ وسط للطفل، فيه يتعلم الحسن والسيّء، بينما تكمن تربيته في البيت، بين الأب والأم.
ما هي أساسيات النفس السويّة؟
الراحة والنوم. النوم ضرورة إنسانية، لكننا نعلم أن النوم في عصرنا لم يعد يُجدي للتخلّص من التعب المزمن، ذلك التعب الذي نتركه يتراكم يوما بعد يوم، فيتحوّل من تعب عادي الى مجهودات مضاعفة، ثم قسوة على الذات acharnement، ثم الى تعب مضاعف، فيتحول اما الى اكتئاب، ثم خلو الجسم من الطاقة، ضعف الإرادة، احتقار الذات.. ثم معاقبتها. أو، الى هياج Agitation، طاقة مُخادعة، إرادة كبيرة، اعجاب بالذات، انهيار.  لا يجب أن نقع في فخ تحقير التعب، علينا أخذ الراحة اللازمة دائما (هذه نصيحة مباشرة لي).
ما الذي يجب ان تعرفه حول الاكتئاب؟ 
- المكتئب يشعر بنقص فادح في الإرادة Aboulie.
- نقص فادح في التركيز، لدرجة تكرار نفس الفعل دون النجاح في فهمه او فعله. 
- الوسواس من كل شيء.
- عدم الاهتمام المبالغ فيه، لامبالاة. 
- فقدان الشهية الارادي، رفض الأكل.
- الخوف من الجنون.

 الاجهاد، تعب عادي أم انذار لاقتراب الاكتئاب؟ 
الاجهاد يأتي عندما نقدّم أكثر مما ينبغي، أي، نعمل أكثر مما وجب انه نعمله، وهذا لا يكون الا بدوافع نفسية ليست سويّة، فلا شيء يدعوك لفعل هذا، خاصة إذا كان في سبيل الترقيات وما شابه.
هل تعلم؟ حالة التركيز الكبيرة تمنع الامتياز والعبقرية.
نعم، الشيء الذي يمنع بعض الأفكار العبقرية والحكيمة هو كثرة التركيز، لان التركيز يُعطّل ثلاث أربع العقل، لأنها مشغولة في شيء بذاته، عوض التفكير في مجموع الأشياء. 

هذا مُلخّص لربع الكتاب (495 ص) ، باقي الكتاب يحتوي على تفاصيل "مُرهقة بعض الشيء"، لا يسمح بالتوسع فيها أي مقال كان، علمي، فكري، فلسفي.. ولا تعميم علمي. 
انصحكم باقتنائه لأنه يعتمد لغة مفهومة جداً لكل فرونكوفوني مُتوسّط.  

#عمادالدين_زناف 
المقال 253
*

الثلاثاء، 4 يناير 2022

مولد الأخلاق عند نيتشه



إذا كان كتاب ما وراء الخير والشّر قد سبب لنيتشه المتاعب من محيطه، مثلهُ مثل نقيض المسيح، وهكذا تكلم زرادشت، يبقى كتاب مولد الأخلاق، أو جينيالوجيا الأخلاق هو العدو رقم واحد لمُتديّني أوروبا. 
وعندنا نتكلم عن الدين، فنحن نتكلم عن النصرانية واليهودية حصراً، بما أنهما موضوع حديث نيتشه، بل هو حديث الأوروبيين، فلم يشكل غيرهما تحولاً ملموساً في هيكل الشعوب هناك.  نستطيع تقسيم كتاب نيتشه هذا إلى خمسة مراحل صنعت الأخلاق التي عليها القارة العجوز!
🔸 المرحلة الأولى؛
«الأقوياء جيّدون، الجيّدون أقوياء، هكذا كانت الأخلاق في عصر السادة والنبلاء، عند مجتمعات ما قبل الأخلاق»
هي صورة ملخصة لنظام الحكم في الإمبراطورية الرومانية الوثنية، السادة والنبلاء هم من يرون الجيّد والسيء، الخير والشر، هم من يصنعون ويحدًدون القيم، صاحب السلطة والمال، هو الذي يحكم على الأشياء بأنها طيبة فتعيش، أو سيئة فتُعدم.  كل القواعد تُبنى بما يليق مع نمرة الملوك والسادة وقادة الجيوش. مادون هؤلاء سيّؤون يمثلون الفوضى والإزعاج.
🔸المرحلة الثانية؛
ثورة العبيد، إن ثورة العبيد في الأخلاق تنطلق عندما يبدأ الاستياء نفسهُ في صناعة القيم، استياء هؤلاء العبيد، ردات فعلهم وأفعالهم كلها تتلخص في تعويض ضعف قدرتهم أمام السًادة، في الانتقام منهم بالخيال!
بعد أن تم احتقراهم من الرومان، عمد اليهود والنصارى الى صناعة أخلاق وقيم جديدة تتماشى واستحالة صعودهم في سلم الحياة الاجتماعية، والعملية، والعلمية، وبما أنهم قد وُصفوا بالسوء، فما يقي لهم إلا أن يصفوا أنفسهم بأنفسهم على أنهم صلحاء وطيبون وزاهدون بالحياة، يدّعون احتقار المال والمناصب حباً في الحياة الأخرى، يقول نيتشه، كمثل الذئب الذي إذا لم يصل العنب انقلب عليه ونعته بمرّ المذاق.
روّج هؤلاء لفكرة أن الحياة بما فيها حقيرة ومن يريد الحياة معرًض لغضب الرب، فالزهد والعيش البسيط أكرم من عيش الملوك عندهم، من هنا أطلق نيتشه مصطلحه أخلاق العبيد.
غرست هذه الأخلاق وتغلغلت في أوروبا لألف سنة، ما يسمى ثورة العبيد الأخلاقية، وقد كان اليهود هم قوّاد هذه الثورة، فإذا كنا لا نراهم اليوم، ذلك لأنهم انتصروا.
🔹 تجتمع أخلاق السادة وأخلاق العبيد في إرادة إنسانية واحدة، ألا وهي إرادة السيطرة والتملّك، التي أسماها لاحقاً بإرادة القوّة. الجميع يبحث عن القوة، من يصل إليها يكون سيّدا، هو من يحدًد معايير الخير والشر، وااذي يفشل فيعا، سيعمل على قلب القيم، ليحدد معاييره الهاصة للخير والشر. 
هؤلاء الذين لا يصلون إلى القوة، عادة ما يعادون الجمال والقوة وااسلطة والمادة،  ويجعلونها أمراً دنيوياً حقيراً لا يستحق المعاناة، ينغمسون في أحلامهم البعيدة. ولخصها نيتشه في قوله، النسور سيّئة جدا، نحن عكس النسور ولا نشبهها، لذلك نحن طيبون معشر الخرفان.
🔸المرحلة الثالثة؛
هي مرحلة  النهضة الأوروبية، نهضة علمية وفلسفية وفكرية حجّمت النصرانية [الكنيسة] واليهودية كثيراً، مع بروز النظريات وتوسّع الفكر وتعميمه، لم يعد لسلطة الأخلاق قوة تردع به هذا المدّ الإنساني الأصيل بقول نيتشه، العودة للإنسان اليوناني ما قبل سقراط.
🔸 المرحلة الرابعة؛
تكبّد العلم والفكر هزيمة نكراء في ليلة الثورة الفرنسية، وعادت السلطة للبابوية والمتدينين، وعاد الردع وترهيب كل من يخرج عن سياق الأخلاق التي رسمها المنتصرون!
وعاد حكم أخلاق العبيد، الذين ما كان لهم أن يتسلموا مقاليد الحكم يوماً.
🔸 المرحلة الخامسة؛
مع سيطرة حكم الأخلاق، وتجذرها في أوروبا، عادت كل ميولات الإنسان وقواه وإراداته إلى نفسه وذاته، لم تختفي بل أصبحت تمزًقه تمزيقاً، فلم يعد يستطيع التعبير عن إرادته وقدرته، فقد صار مثل النسر الذي يكسر منقاره ويخدش جلده، يجلدُ نفسه ويعذبها عوض أن يعبر عن ذلك بأسلوبه الذي جبل عليه، أي بالتنافس مع كل ما هو حي كما كان دائما.
الإنسان في ظل هذا الحكم مريض، كئيب، غاضب ومستاء من حالته.. ما قد يولّد دورة جديدة من ثورة العبيد ضد هذا الحكم الأخلاقيّ.

انتهى ملخّصي لأحد أعمدت كتب نيتشه.
#عمادالدين_زناف 
المقال 252

روائي الروبوت.. فلسفة الآلة عند عظيموف.


إذا، يبدو أن سيطرة الروبوتات على البشرية مسألةُ وقت؟ لتفهم ذلك، تابع المقال.

كان إسحاق عظيموف أو "أسيموف" بروفيسور في مادة الكيمياء الحيوية في جامعة بوسطن بالو.م.أ، وروائي مختصّ في الخيال العلمي، وصاحب توقّعات تكنولوجية "وروبوتيّة" معتبرة.  ألّف أكثر من خمس مائة كتاب، واُشتهر بسلسلة الأساس، وهي أشهر سلسلة أعمال في الخيال العلمي، وسلسلة الروبوت الكامل وغيرها. عُرف أسيموف بهوسّه الكبير بالروبوت، حيث لا تكادُ تخلو أعماله من ذكره، كانت التكنولوجيا آنذاك، بين سنوات الأربعين الى السبعينيات، مليئة بالتنظيرات والنبوءات والتطلعات للمُستقبل، ولم يكن مجال الأدب الا وسيلة أساسية من بين الوسائل التي كانت تُروّج لأفكار وتوقّعات وتنبؤات العلماء للمستقبل القريب والمتوسط والبعيد. 
نعلم أن في تاريخ الأدب، هناك عدة كُتّاب أّلفوا في التنبؤات التكنولوجية، قد يكون أشهرهم على الاطلاق ميشال دي نوسترادام "نوستراداموس"، وصاحب أدب الرحلة المعروف جول فيرن، وغيرهم الكثيرون، الذين رسموا أبعاد المستقبل، أصابوا فيما أصابوا واخطئوا فيما أخطئوا.  حديثنا اليوم عن عظيموف ونظرته لسنواتنا التي نعيشها، فقد تحدّث بإسهاب عن كثيرٍ من الأمور التي نراها اليوم أشياءً عادية، لكن في فترته، لم تكن سوى تصوّرات، وربّما كثيراً منها تخيّلات. 
في سنة 1964، كتب بأن العالم سنة 2014 سيستعملُ الألواح الكهربائية أكثر فأكثر، الحيطان والأسقف ستضيئ وتُغيّر لونها عن طريق التحكّم بالأزرار. تكلّم عن الآلات التي تحمّر الخُبز، تسلق البيض، تصنع القهوة، مأكولات مجفّفة محفوظة جاهزة للطبخ السريع مثل الاندومي، أو البيزا المُجهّزة، أو اللحوم المُغلّفة.  في سلسلته دورة الروبوت، كتب بالتفصيل عن مستقبل سيتعايش فيه الانسان مع الرجل الآلي، وكيف سيكون الأخير في خدمته، ولكي تبقى تلك الروبوتات في خدمة الانسان ولا تتمرّد عليه، وضع أسيموف قواعد وقوانين محدّدة:
1- على الروبوتات ألا تهاجم الانسان، دون بقاءها غير فعّالة، عليها ان تترك الانسان معرّضاً للخطر. 
2- على الروبوت أن يُطيع أوامر الانسان، الا إذا تعارضت تلك الأوامر مع القانون الأوّل.
3- على الروبوت ان يحمي وجوده، دون أن يتجاوز الشرط الأول والشرط الثاني. 

أثّرت هذه القوانين في عدّة معاهدات عالمية فيما يخصّ الذكاء الاصطناعي. 
كان يقول إن روبوت 2014 سيكون غير مكتمل التطور، لكنه سيحوي على كمبيوتر مُصغّر في رأسه، وبإمكانه ان يوبّخ الناس إذا ما رموا نفاياتهم في الشارع.  توقّع أسيموف أن أجهزة 2014 لن تكون مربوطة بأي خير كهربائي، لأنها ستكون مرفقة ببطاريات تُعوّض ذلك، وهو صاحب التوقّع ان الانسان سيبتعد عن الأرض في تنقلاته بخمسين متراً، أي باستعمال سيارات طائرة، ومع تأخر هذا، الا أن مشروع ايلون موسك Hyperloop  يعد بالجديد..، توقع أيضاً بقدوم ما يسمى مُحاضرة افتراضية، أي أن يكلّم الناس بعضهم بعاضاً عن طريق الشاشات، الامر الذي انتشر وشاعَ مع ظهور Skype، وكَثر استعماله آخر سنتين مع قدوم الوباء، اذا أصبح وسيلة للتدريس والامتحانات أيضاً. 
توقّع هروب الانسان من الطبيعة بكل أشكالها، ذلك ما يسببُّ حتما في فناء الحياة، الزراعة، الفلاحة، بشكلها الطبيعي ستختفي، سنُعوّض كل شيء بما يشبهه فحسب !، من يريد أن يفهم أكثر أفكار إسحاق، يمكنه مشاهدة فيلم I robot . توقع أن حرية التعبير ستأخذ منحنى تصاعدي لدرجة جنوني، اذ أن كل شيء وقرارا سيُعرض للانتخاب، الجميع سيعلم بالتفصيل بالمشاكل والحلول الممكنة، الكمبيوتر سيتطور ليصبح ذكيا، ربما أذكى من الانسان، لأن ستكون له نظرة أخرى عن الانسان، كيف ذلك؟ 
يقول ان الأرض عرفت تطورا لثلاث ملايين من السنين، نجى فيها كل كائن حيّ يتمتّع بالذكاء اللازم، وانقرض فيها الأقل ذكاءً، فمن الطبيعي أن تكون كائنات أخرى أكثر كمالاً منا هُنا لتُعوّضنا، سيكون لنا الشرف حتماً أننا نحن من صنعناها، لكننا لا نملك القدرة عن وضع المكونات التي تصنع عقولنا في الكمبيوتر، لا نعرف الكثير عن عقلنا، عقلنا مكرّب ومُعقّد لدرجة انه من الصعب على الانسان أن يفهم ميكانيزميّته..، نحنُ نحاول فهم العقل البشري بالعقل البشري، وان انجح الطرق لفعل ذلك هو جمع اكثر من عقل لفعل ذلك، فالعملية تحتاج حتما الى كمبيوتر، هذا الأخير هو من يترجم النتائج، اذا الكمبيوترات هي التي تساعدنا لفهم عقولنا، اذا ستكونُ أكثر كمالاً منا. 
في الأخير، يقول إن الانسان لديه الخيار، اما ان يسبب في خرابه ويُنهي وجود الحياة، أو يتقاسم الحياة مع الروبوت ويكون ثمنُ ذلك جزءً كبيراً من حرّيته، هل نستطيع أن نكونَ أحراراً وسُعداء؟ يقول إنه لا يملك الإجابة، فهو يكتفي بوضع المشاكل كما هي.

#عمادالدين_زناف 
المقال 251

الأحد، 2 يناير 2022

التنميط، فن دراسة الإنسان


التنميط، بين العفوية والاستعمال المتباين.
(المقال تفكيكي وبّناء.)

في هذه الصورة رسمة لي، لمُمَثّل ليس بتلك الشّهرة عند الشباب، نستطيع أن نُسمّيه مُمَثّل ما قبل نيتفليكس. هو ماندي باتينكين، المعروف بدور المُحلل النفسي السلوكي جايزون جايدن في أوّل مَوسمين (2005- 2007) من مُسلسل العقول الاجرامية، Esprits Criminels.
سلّط كلٌّ من المخرج والمساعدين وكُتّاب السيناريو الضوء على ما يُسمّى بتنميط الجاني، فقد كانت كل مواسمه عبارة عن مُلاحقة المجرمين، خاصة منهم القتلة المتسلسلين، بطريقة ما يسمى التنميط، ينقسم الفريق الى عملاء متخصصين في مجال معيّن، على سبيل المثال، نجد منهم من هو متخصّص في التحركات عبر المواقع الجغرافية، وفي السوابق العدلية والاجتماعية، في أنواع الجريمة (عاطفية، انتقامية، رُهاب، ساديّة..)، الاحصائيات وما يُعلم في الموضوع (مثلا في مُجرمي الحرائق)، وكذا طبعا تحليل السلوك الجسدي للمُجرم، أو السلوك النفسي. نقاط التشابه بين الضحايا هو أهم ما يوصل هؤلاء للجاني عادةً، فالمُجرم ورغم عبقريّته، لا يمكنه الا أن يُرضي رغباته، التي غالباً لا يمكنه مقاومتها، وبالتالي، فهو عادةً يكرّر نفس الأساليب والسلوكيات في كل مرّة، هذا ما يَدعو في كثير من الأحيان لاستعمال التنميط، عوض استعمال الأساليب التقليدية مثل البحث عن البصمات والدلائل الملموسة. 
عملية التنميط، أو ما يُسّمى عند الغرب بالـ Profilage، هي طريقة علمية في تشريح الشخصية التي تستوجب علينا هذا، أو مجموعات معينة مثل العصابات أو الطوائف الايديولوجية، أو في نطاق أكبر، الدول والحكومات والمجتمعات. وقد استعملت عدة دول قوية عمليات نفسية مُعقّدة، وتجارب غير إنسانية، مثل تجربة ستانفورد، وأخرى طُبّقت في سجون أبو غريب في العراق، للوصول الى تفاصيل النفسية الإنسانية وكيفية التحكم فيها بدقّة ودون خطأ. وعلى إثر ذلك التنميط، استعمل الخبراء النفسيون التابعون للدولة العظمى أشياءً مثل العلاج بالصّدمة، خاصة فيما يخص الاقتصادات، واستعملوا أيضا القوة الناعمة فيما يخص تمرير الأيديولوجيات، ومازالت هذه الأمور تعمل الى يومنا في صورة المواقع الاجتماعية. 
أما التنميط في عالم الاجرام، فقد ظهر في خمسينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، على يد الدكتور جايمس بروسل، الذي استعانت به الشرطة بعد سلسلة تفجيرات في قاعات السينما بنيويروك بين سنوات الـ40 الى الـ56، وبتحديد نمط المجرم، تم القبض عليه أخيراً. ومع نجاحها في كل مرة، الا ان القُضاة لا يعتمدون على أدلّة هؤلاء المحللين، لذلك فهم يعملون بجهد للوصول الى الأدلّة الكلاسيكية (بصمات وآثار) لكي يستطيعوا تحويل المُتّهم الى القضاء، فالحدس والمنطق التحليلي والذكاء لا يعتبرون دليلاً علميا، خاصة في أمور حساسة مثل القضاء، رغم كل ما يشير لنجاحهم.
قبل الحديث عن التنميط في حياة البشر، يمكننا تقسيمه الى نوعين، تنميط تخميني، أي يعتمد حصراً على حدس وذكاء وتجارب المحلّل السُلوكي، وهذا ما نجده في مسلسل The mentalist، أين يعتمد بارتيك جاين عن ذكائه الجينيّ في حل القضايا، بينما هناك تنميط علمي الذي تكلمت عنه في بداية المقال، وهو نقيضه، رغم انهما يفضيان الى نفس النتيجة ما لم يقدمان الأدلة الملموسة، الا ان التنميط العلمي لا يُمكن الا التسليم له كليا، أما التخمين، فلا يمكن الاعتماد عليه الا برغبة شخصية في تصديقه، أو تكرار نجاحاته في المجال. 
نحنُ نقوم بهذا كل يوم، نحلّل ونقوم بتنميط كل الأشخاص، هذه الدراسات السلوكية تعمل على استكشاف القوانين والمبادئ التي تتحكم في سلوك الأفراد، الا اننا نقوم بهذا بشكل عشوائيّ، وغالباً، بشكل غير علمي، فكلّ تحليلات الناس أساسها غير موضوعي، فالجميع يعمل على حماية ذاته أولا وقبل كل شيء، وهذا ميكانزيم نفسي دفاعي مهم جداً، لأننا إذا وثقنا بالمجهول، فالعواقب تبقى حبيسة الحظّ، ولسوء الحظّ، الأمور والمشاعر السيّئة منتشرة أكثر من الأمور الطيّبة. كذلك هناك من يقوم بتنميط ضحاياه، بمعنى انه يدرس نوعية الأفراد التي يريد التحكّم فيها لأغراض تجارية، مثل روّاد التنمية والتطوير وتجّار الانستاغرام وكل ما هُوَ مُغري للناس فاقدي البوصلة، أو لإشباع رغبات جنسية فيما يتعلّق بالمنحرفين.  ذلك أن التنميط عمليّة طبيعية متواجدة في كل ما هو حيّ، فالتأقلم على سبيل المثال، هو أسلوب الحيوانات والنبات في تنميط المحيط قبل المكوث فيه. 
هل التنميط عمليّة شرّيرة أم خيّرة في نهاية المطاف؟  -العلم بشكل عام، لا يخضع للتقييم الأخلاقي، بل ما يُفعل به هو الذي يخضع لهذا، اذ أن كل اختراع تكنولوجي في كلّ مجال هو تقدّم انساني لا يمكن الا الافتخار به، لكن الغرض منه هو ما يجعله خيراً أو شرّاً، كذلك استعمال الذكاء والعبقرية لأغراض معينة، إذا كانا في خدمة الحق فها أمر مُبارك، وإذا كانا في خدمة الشّر فهما ما نسمّيه بالشيطانيّة.  وفي سبيل تحقيق الرغبات، لا يقف العديد من البشر عند الخير والشر، فهم يُوظّفون التنميط غالبا في التحكّم في الناس. لكنّ التنميط في ذاته وسيلة مُميّزة بل وأساسية في تحقيق الأهداف النبيلة، فمن له تجارة معينة او منصبه يقتضي منه الكتابة والكلام، هو مطالب بعمليّة تنميط من يُوجّه لهم الحديث، فمن غير المعقول أن يكتب في الجريمة فب أدب الأطفال، ولا في قصص الأطفال للراشدين.. على سبيل المثال. 
تحديد الأهداف الشخصية هو أساس كل مشروع ناجح، لكنّ الأساس لا يكفي، فالأعمدة هي البداية فقط لبناء منزل، المنزل يحتاج لمختصّ في تركيب الغاز، والخيوط الكهربائية، وانابيب المياه، والطلاء، وقبل كل هذا، لهندسة مُميّزة حسب الغاية والميول.

#عمادالدين_زناف 
المقال رقم 250 🏅
#عمادالدين_زناف 
المقال رقم 250 🏅