الخميس، 16 فبراير 2023

الهدايا المسمومة



الهدايا المسمومة. 

الهديّة لا تُرفض، لكن قبولها لا يعبّر عن جودتها، قد تكون الهدايا نافعة في الظاهر، لكنها تُبطن سمًّا قاتلا. ذلك السم لم يكن مقصودا بالضرورة من الذي أهداك إيّاها، لكن الإعانة في ذاتها مسمومة. نحن في زمن الإعانات غير المحدودة، المعلومة التي تنزل إلينا بنقرتين، ألاف القنوات والحسابات التي تُبسّط أكثر الأشياء المُعقّدة، المتعة في كل مكان، تجعلنا ننسى أحزاننا بسرعة، ترجمات، تكوينات، ألاف الأفاق المبسوطة في مجال الانترنت، إلى أين سنصل بهذه السهولة؟ 
اجتماعيا، نعرف تحولا محسوسا، ذلك أن الشاب اليوم يملك هدية فوق الهدايا، وهي منحة البطالة، مبلغ مالي لا يتطلّب من صاحبه سوى شرطان تعجيزيّان جدا في عصر الكسل، الأول أن تكون وضعيته إزاء الخدمة العسكرية واضحة، والثاني أن يقبل أي عمل يُعرض عليه –أو أن تكون له شهادة تكوين مهني في مجال ما-، الأمر جلل كما تلاحظون.
ما الذي دفعني للكتابة حول هذا الموضوع؟  الذي دفعني لهذا تراكم الملاحظات لمن يريدون استقبال الإعانات بشكل غير مشروط، كهؤلاء الذين يرددون دائما –هذا حقنا من البترول-، منذ أن خُلق آدم، لم يكن للإنسان حق في شيء في الذي تعبَ من أجله، فكيف وصل بنا الحال أن نطلب حقًا ونحن ممدّدين في الأرائك؟!  في الحقيقة ليس هذا هو السبب الرئيس الذي دفعني للكتابة حول هذا الموضوع، لكنني أراوغ كي لا أصل إليه بسرعة. مُعظم الهدايا مسمومة، هذا هو الواقع، لأن الهديّة ليست كالمكافئة، المكافئة تأتي بعد جهد، فلا تسمى هدية –يمنّ الهادي بها عليك- بل هو حقٌّ جاء مقابل عمل. الهديّة تعلم الكسل والتخاذل، لأن الهديّة تشوّش على الفرد منطق الحياة والواقع، الحياة والطبيعة قاسيان جدًا، الطبيعة قاسية ومؤلمة وصعبة، هي لا تكافئ المجتهد كما يجب، فكيف تهديه من لا شيء؟  -يُقال إن بعض أرباب الأعمال قد ترعرعوا في ظروف ساعدتهم على التكوّن بطريقة عملية، أن يكون أبويهم أثرياء أو مثقفين كفاية، لكن القائلين بهذا يتغافلن عن شيء يسمى -المحافظة على المكاسب-  لأن الوارث له قدم في التفوق هذا صحيح، لكن المحافظة على التفوق أصعب من الانطلاق من الصفر، لأن لا شيء تحت الصفر لمن هو صفر من الأساس، لكن الوارث إذا لم يحسن التعامل مع المصنع الذي ورثه عن أبيه، فهو سينزل إلى تحت الصفر، سيصبح مديونا وقد يعاني كثيرًا. ما الهديّة التي يجب أن نرفضها؟  الجواب هو أن الهدايا لا تُرفض، لا يجب أن نستعملها لتسهيل مهامنا في الحياة، بلغة أخرى، السهولة سمّ قاتل.
في سبعينات القرن الماضي، حاول أطبّاء و علماء اختراع حقن مغذّية تستبدل الأكل من الفمّ و الهضم التقليدي، حيث أنّ حجّتهم في ذلك ربح الوقت في العمل أكثر والإنتاجية، لكن العملية لم تنجح، لان الدراسات الإنسانية تقول ان اذا تخلّى الانسان عن عضو من اعضاءه اي ، يتوقف عن استعماله ، فسوف يفقده مع مرور الزمن، إذا التحقين قد يُفقد الإنسان أسنانه و عدّة أشياء قد تأثر على نطقه.
إليك مثالا آخر، منذ أن اخترع الإنسان اللباس، أصبح أقل كثافة في شعر جسده عن السابق، ومنذ أن لازمته القبعات أصبح أكثر عُرضةً للصلع، لأن الجسد يتخلى عن كل شيء لا يحتاجه.  كذلك أراد ايلون موسك اختراع شريحة تسهّل عمل الانسان في استيعاب العلم وتزويده بالبداهة بطرق آلية، لكنها عملية ستزيد من الطبقيّة والديكتاتورية والتباعد بين الناس، لأن الانسان سيخضع لتقييم آلي وسيصبح عبداً للمادة بشكل مفزع تماماً. لقد فقد الانسان حوالي 50 سم من طوله، وبذلك، فقد الوزن والكثافة العضلية أيضا إبّان تطوّر الحضارات، لأن مع تقدّم الحضارات، أصبح يعتمد على السهولة في البناء (جرارات وآلات) وأصبح يعتمد على السيارات والدراجات للتنقل عوض المشي، لذلك انبثقت أمراض عضلية وعقلية وعظمية جرّاء التخاذل البدني والانهيار الهرموني المستمر.   إن الانسان الأخير آثر السرقة والتقليد والنسخ واللصق على الابداع والاجتهاد والتعب، آثر انتظار الهدايا عوض الجوائز.   فقد بدأت بوادر السرقة العلمية في عصر اليونان، حيث ألقوا بمصادر أفكارهم الشرقية إلى أقرب القمامات، وجعلوا يتغنون بعظمة فكرهم. اعتمد العديد من الناس على سبل حرق الأشواط، في الاعلانات والاشهارات، يريدون الفوز بأي طريقة كانت، حتى بانتظار السماء أن تمطر عليهم ذهبا وفضة! بالرغم من أن التدرّج هو الحكمة الاجتماعية الثابتة، لأن جمهورك وشهرتك وجب أن تتماشى وأعمالك وقاعدتك الإنتاجية، أما البحث عن جمهور أكبر من الأعمال، فقد أحدث اختلالا صارخاً. 
اعتمد الرياضيون منذ سبعينات القرن الماضي على طرق غير اخلاقية في ابهار بعضهم البعض، و استسلموا أمام فكرة الفوز والابهار بالعمل، حيث اختاروا طرق الحقن المنشطة بشكل مباشر، وذلك لكي يبهروا أنفسهم كذباً و زوراً، ورغم المصائب التي تأتي من جراء هذا الفعل، إلا أن للعديد منهم، نظرة الإعجاب تلك أهم من مرض يأخذهم شباباً، نظرة الإعجاب تلك تلقي ابنائهم يتامى وزوجاتهم أرامل.  
-الطريقة السريعة والناجحة- هي ملاذ الجميع، إذا نجح الفعل مرة، فوسف يكرره كي يشعر بنفس شعور الفرح والراحة التي شعر بها في البداية.  ولكن الحياة أعقد من أن نضعّفها في كل مرة بقبول الهدايا دون جهد، وما هو ناجح اليوم، قد يستحيل من الماضي الطي يستحيل تكرار نجاحه، فوجب علينا اعتماد طرقٍ لا طريقة واحدة للنجاح المستمر. إن الاشتراكية قد ربت شعوبا تعتمد على بعضها البعض، والرأسمالية قد ربّت شعوبا أنانيّة بشكل كريه، ولكيلا نقع ضحيّةً لأي أيديولوجية، علينا أن نفتح أعيننا، أن نبقى يقظين طوال الوقت، وأن نرفض الهدايا المسمومة.

المقال 341
#عمادالدين_زنافعمادالدين_زناف

الثلاثاء، 14 فبراير 2023

ماتريكس وفلسفة هوليود



ماتريكس وفلسفة سينما التسعينات.

الذين تخطّوا سن الثلاثين، يتذكرون -حسب درجة اهتمامهم بالسينما- الأفلام التي كانت تُنتج أواخر التسعينات وبداية الألفية. إذا أردنا تقسيم الأنواع الثلاثة التي كانت تحتل المشهد هي، الخيال العلمي، الأفلام التاريخية، والأفلام النفسية الغامضة (السوديّة). 
في تلك السنوات عرفت الشعوب ثورة الإنترنت، لم تكن لديهم فكرة كيف يستخدمونه وما الفائدة منه. في تلك السنوات، ساهم الانترنت في تقريب بعض المفاهيم العلمية إلى الشعوب، ما أنتج شيئا يسمى pop-culture.  استغلت هوليود هذه الظاهرة للتربع على الموضة الجديدة التي تغزو العالم، ولكي تريَ الناس ما يحب أن يرون من خلال الانترنت والعالم الإفتراضي، صحيح، اعتمدت كثيرًا على أعمال الفلاسفة أمثال إسحق عظيموف، خبير الروبوت، نوستراداموس القرن العشرين فيما يخص الآلة، وكذا تصورات سابقة مثل ما جاء به الروائي والمغانر الفرنسي جول فيرن، وآخرون في علم الإجتماع مثل جون بودريار. لكن الأفلام لم تكن وفية للرسالة، لأن السينما لا يمكنها أن تكون أخلاقية، لأنها تخاطب من لا يبحثون عن الأخلاقية.  طوال فترة الثمانينات والتسعينات، إلى غاية 1998، عجت السينما الأمريكية بأفلام الخيال العلمي، على رأسها starwars، والتي سأذكر العديد منها بعد قليل، إلا أن ماتريكس، الذي ظهر سنة 1999 كانت له الكلمة العليا والترويج والنجاح الأكبر، بالرغم من أنه لم يكن الأول في مجاله، في عديد التفاصيل السينمائية وكذلك الفكرية!  
أول ترويج لفيلم ماتريكس اكتفى المخرجان فيه بترك سؤال واحد للمشاهد: ما هي المصفوفة؟ ?what is the matrix.
بعد أن ظهر ماتريكس، راحت عديد الأفلام تحاول تقليده مباشرة، مثل فيلم art of war لكريستيان دوغاري وفيلم equilibrium. لكن ماتريكس نفسه كان قد أخذ العديد من التفاصيل من أفلام سبقته، مثل الحركة البطيئة عند المواجهة، وذلك من فيلم perdu dans l'espace لستيفان هوبكينس،  أو من فيلم blade لستيفان نورينتون، ومن فيلم wing commander.  كذلك، نجد أن فكرة déjà-vu التي استعملها ماتريكس، كانت قد ظهرت قبل ذلك في فيلم men in black لباري سونيفيلد، والأمر الذي سيصدم محبي ماتريكس حتما هو أن فكرة القرص الأزرق والأحمر لم يكن أيضا فكرة المخرجين واشوفسكي، فقد سبقهم في ذلك فيلم total recall مع بطله شوارزينيجر سنة 1995، سأعود لهذا لاحقا.
ماتريكس اعتمد على شيء ذكي جدا، وهو وضع قدم في الماضي وقدم في المستقبل، استعمل والمخرجان كل الاشارات التي تلخص سينما التسعينات، كنوع من الاشارة على نهايتها، بداية الألفية الجديدة!   - هوليود عالم من التقليد، وعالم من صناعة الموضة، وعالم من صناعة التفكير والفلسفة لكل عقد، ذلك أننا فخصنا كل عقد سينمائي، لوجدنا أن كل حقبة تتميز بأفلام متشابهة، الستينات مع أفلام الواسترن، السبعينات مع الرومنسيات، الثمانينات وبداية التعدد السينمائي الأمريكو-أوروبي والهوكونغي (الفنون القتالية)، إلى أن عدنا إلى الإنغلاق الذوقي في سنوات التسعينات كما أشرت أول المقالة.   سنة 1999 كذلك عرفت عودة سلسلة ستار وارز، ورغم التباين الكبير بين النوعين، إلا أن هنا تلاق كبير في بعض الجمل، ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت هوليود فعلا تعمل على وضع خطوط عريضة للرسائل الفكرية. 
«انهض نيو!».
ماتريكس ومن سبقه أبناء ما يُسمى بالسايبر بنك Cyberpunk، هذا النوع المتفرع من الخيال العلمي عرف بداياته في الثمانينات، تحديدا مع رواية neuromancer للروائي ويليام جيبسون، الذي يسمى أب السايبر بنك في الرواية، لأنه سُبق سينمائيا سنة 1982 في فيلم blade runner، من الأفلام المتأثرة باسيبر بنك نجد فيلم programmé pour tuer سنة 1995 للمخرج بريت ليونار، مع النجم راسل كرو.  لقد ساهم ويليام جيبسون في صناعة فكرة انترنت يشبه ما نحن عليه، والذي أسماه -ماتريكس-!
كما تعلمون، الشباب المهوسون بفكرة الريد بيل والبلو بيل، يشرين دائما إلى لقطة مورفيوس وهو يحمل واحدة في كلتا يديه، يعرض بذلك على نيو أن يختار، إما الحبة الزرقاء، التي تجعله يعيش في الكذب والمحاكاة في حالة اليقظة، أو أن يبتلع الحبة الحمراء ليرى الحقيقة العالم كما هو فعلا لكن وهو حالم. الحقيقة أن فيلم توتال ريكال استعمل نفس الأسلوب، بنفس الأقراص، لنفس الهدف! ذلك أن البطل كان يحلم بالعودة لكوكب المريخ، لكنه لم يستطع، فقام الباحثون بعملية تجعله يعيش رحلته اعتمادا على ذاكرته وهو نائم، بيد أنهم اكتشفوا أن ذاكرته قد مُحيت، وقد أصبح مجرد عميل للمرخيين.  وبعد عدة مغامرات، زار البطل دكتورًا جعله يشك فيما اذا كان فعلا كما يظن أم أنها مجرد تخيلات، أخبره أن ما يعيشه مجرد حلم، فأعطاه قرصا أحمرًا ليشربه ويعود بذلك إلى الواقع.   كذلك الفكرة مأخوذة من أليس في بلاد العجائب. 
هل يعتبر ماتريكس سارقا للأفكار، أم هو مجرد ملمّ ومشير لها؟
أعتقد أن ماتريكس هو خلاصة ذلك العصر كما أشرت، فالقضية ليست سرقة بل هي إشارة أن كل ما يجب أن يقال حول الخيال العلمي جمعه ماتريكس، وأشار أنه قد انتهى، لننطلق إلى عالم آخر لا يمكننا أن نمثله في تلك الفترة! ماتريكس يقول أن المستقبل مستحيل حاليا، ما يجعله في عيني فيلما عبقريا من الجانب الفكري.
حذاري، روعة ماتريكس لا تجعل منه فيلما ذا أفكار صحيحة، لأنني كما أشرت، الأفلام ليست وفية تماما للفلسفات التي استلهمت فكرتها منها، كذلك هاذا لا يمنعه من السرقة الفكرية المُزعجة جدا للمخرجين الآخرين، فقد واجه ماتريكس حملة شديدة جدا من مخرج فيلم dark City سنة 1998، فالفيلمان متطبقان بشكل صارخ ومزعج، إلا أن ماتريكس 1999 نجح، والآخر لا، من يريد أن يتحقق، فليشاهد الفيلم المذكور، أو يمكنه أن يشاهد المقارنات الموضوعة في منصة يوتيوب.
في الأخير، أرى أن فكرة ماتريكس كانت رائعة في تلك السنوات، فهدم نجاح ماتريكس 4سنة 2021 عائد إلى أن فلسفة العالم قد اختلفت، بالرغم من أن ماتريكس الأخير حاول أن يغير بعض الأفكار وأن يواكب الموضة الحالية، إلا أنه لم ينجح لأننا كمحبي لماتريكس الأصلي، أردنا أن نشاهد نفس الأشياء لكن بكريقة مختلفة، وليس إختلاف كل شيء.. مفارقة مستحيلة تجعلني أشكك في كل مرة أن نجاح فكرة تتباع الأفلام هو خاضع للصدفة، لأن في الغالب تلك التتابعات لا تحمل جديدا، بل تواصل في استغلال نجاح العمل الأول.

المقال 340
#عمادالدين_زنافعمادالدين_زناف

الاثنين، 6 فبراير 2023

The matrix المصفوفة- جون بودريار




أعودُ بكم لـ the matrix مجددا في هذا المقال،  لشرح العالم الوسطي الكائن بين الحقيقة والخيال،  تحليل مُفصّل لكتاب simulacres et simulation، الكتاب الذي يجب أن يطالعه الجميع.
يُعد كتاب المُصطَنع والاصطناع لجون بودريار هو الكتاب الأب والأم وكل ما يوحي للأبوّة لفكرة المصفوفة الذي ركّزتُ عليها كثيرا هذا الأسبوع، وكذلك في كتابي الشفق سابقا. لكنني لم أضع تحليلا مخصصا للكتاب عينه، وها قد أتت الفرصة لتأخذ فكرة عمّا فاتك، إذا لم تكن قد اطّلعتَ عليه بعد.  قبل الحديث عن الكتاب، عليّ الإشارة أن فكرة فيلم ماتريكس برمّتها جاءت من رحم أفكار هذا الفيلسوف الفرنسي، الذي ينتمي بشكل أو بآخر للفلسفة التفكيكية، وبشكل عام لمجموعة الـfrench theory الذين خصصتهم بمقال في السابق يمكنهم مطالعته في مدوّنتي.   يبدأ فيلم ماتريكس بمحادثة كتابية بين من ستُعرف لاحقًا بـ ترينيتي، واندرسون (نيو)، في نفس ذلك المشهد يظهر لنا في الشاشة كتاب & simulacres   simulation،كإشارة واضحة لصاحب الفضل في هذا التحليل الخطير لما سيصبح عليه واقعنا اليوم.  في نفس المشهد، رأينا إشارة ثانية عبقريّة، وهو أن نيو استعمل ذلك الكتاب كصندوق يخفي فيه أقراصه وبعض المال، وذلك بصناعة فراغ من صفحاته، أما الصفحة المقابلة فهي تتحدّث عن "Nihilism العدميّة" التي هي تمثل خلفية كل هذا العالم الجديد. لحدّ الآن ما زلت أتحدّث عن الأمور الشّكليّة، لأن فيلم ماتريكس لم يكن وفيا لفلسفية وتحليل بودريار، كما جاء في تصريحاته قبل وفاته سنة 2007.  الحديث اليوم عن الكتاب وليس عن فيلم ماتريكس، لكن علي أن أجيب سريعا لمَ لم يكن ماتريكس وفيا في أوّل ثلاثة أجزاء (الجزء الرابع الذي صدر سنة 2021 ورغم عدم نجاحه لكنه أكثر جزء وفيّ للكتاب والفكرة الأصيلة). بشكل عام، يقول بودريار أننا سنعيش في عالم لا نفرق فيه بين الحقيقة والخيال، بالمحاكاة التي ستشوّش علينا اليقظة والحلم. بينما في ثلاثيّة ماتريكس، عالم ماتريكس مستقل عن العالم الحقيقي، فلم يوفق المنتجون في ايصال ذلك التشويش، ما عدى الجزء الرابع كما أسلفت، أين لم يكن واضحا لنيو أين هو.  الآن وبعد أن انتهينا من الفيلم، سنتحدّث عن الكتاب. 
Simuclares هو الاصطناع، نعيش في زمن الرمزية، فالعديد من الناس ذهبوا ضحيّة القالب لما انتشر من منافع الباطن، كيف ذلك؟ في السابق كان الناس يشترون القهوة، ثم انتقلوا شيئا فشيء إلى أنواع عديدة من القهوة، ومن تمّ طغت عديد المؤسسات التي استحوذت على المجال (المقاهي) مثل starcbucks، فأخذت هذه المؤسسة وغيرها تغير من شكل ولون القهوة، ثم بدأت تُخلط القهوة بعديد الأشياء الأخرى، مع اعتقاد الناس أنهم يشربون القهوة، إلى أن تغيرت المادة الأولية من القهوة إلى خليط من الأسماء عند هذه الماركات العالمية. Simulation هي المحاكاة، والمحاكاة هنا تعني محاولة تقليد الطبيعة، بيدَ أننا نعلم أن المحاكاة عند أفلاطون تشوّه الطبيعة ولا تقلدها، وهي عند بودريار وسيلة للتشويش في رؤية الحقيقة، خاصة إذا لم يظهر الفرق بينهما عكس ما أراد فيلم ماتريكس اظهاره، أن تشرب القهوة ليس مثل أن تظن أنك تشرب القهوة، وأن تشرب القهوة، ليس كما تشتري "ماركة" تستحوذ على مادة القهوة، كل هذه اللعبة تدون بين المُصطنع والمحاكاة أو الاصطناع.  هذا بالنسبة للعنوان، أما عن الكتاب، فقد تحدث عن تدفق المعلومات الذي أفقد المعلومة مفهوميّتها وقيمتها. فقد تحدثت في منشور سابق عن خطورة تيك توك وأساليبه السريعة، وتداخل المشاعر والمشاهد المنهمرة كالشلال، الذي يجعلنا لا نعطي الحدث والمعلومة والعواطف حقها، ما يجعلها غير حقيقية، بل مجرد محاكاة لما هي عليه، لأنها تمر عبر عدة أشياء الكترونية، والتفاعل معها لا يكون سوى بنفس الطريقة الالكترونية.  الأخبار التي كانت تغزوا التلفاز والكمبيوتر لم تعد تُقاس مع تلك التي تغزو المواقع و الهواتف، مع قدوم ثورة الذكاء الاصطناعي، لم تعد القضية في المعلومة المشوشة والمدكوكة بشكل مزعج، بل في فهم المعلومة، لأن المعلومة دون معلم وشارح لها لا معنى لها ولن تُسفر عن تقدم معين للذي تمر من أمامه تلك المعلومة، يقول بودريار أن الكثير من المعلومات يقتل المعلومات، لأن هذا لا يتماشى مع أسلوب العقل الانساني في الوعي والادراك والهضم والتفعيل بعد ذلك. المحاكاة عوضت الواقع، مثلا صرنا نبحث عن الرضا الالكتروني أكثر منه الواقعي، فجعل الآخر يعتقد أنك في ايطاليا صار أحسن من الذهاب لايطاليا حقيقة، وفي يومنا، تستطيع أن تقول أنك هناك، مع إثبات ذلك عن طريق صناعة صور وفيديوهات مفبركة، وبالتالي لا حاجة لأي عمل حقيقي، واذا أسقطنا هذا لاشيء في أمور أخرى فسوف نجد أن من يريد أن يظهر كمفكر سيسرق أفكار غيره ويُحوّرها ليجعلها تبدو كأنها له، وإذا أردت أن استفزّ أكثر، سنرى أن الروايات لم يتبّق منها إلا القالب، ومنه تلك الإشارة الذكية من فيلم ماتريكس عندما صوّروا كتاب simuclares مُفرغا من محتواه، وفي مكانه أقراص ونقود. تشعّب المعلومات أفرغ الحياة من المعنى، لأن المعلومات أرقام متتابعة، لكن سريعا ما تصبح الأرقام خالية من كل مشاعر، فالضحايا والتضخمات والخسائر والزيادة والنقصان عبارة عن أعدادا تتوالى حتى أصبحت لا تزعج أحدا، والدليل المعروف هو الفلسطينيين وعدد ضحاياهم المتكرر منذ عقود، الأمر الذي أصبح شيئا عاديا عند المشاهدين، وقليل ما يؤثر عليهم ذلك لاعتيادهم.  إذا، نفهم أننا في قلب عالم جديد من المحاكاة للواقع، وليس واقع حقيقي، وهي المصفوفة التي يمثلها نيو وفريقه خير مثال، وكل هدفه هو الخروج منها بأقل الأضرار.  الخطر الذي أشار إليه بودريار هو التطابق الخطير بين الواقع والافتراض، لان الافتراض هو توهم الواقع في حياة الكترونية رقمية، ونحن نعلم أن الأرقام معرضة للتخريب والتشويش والاختراق والفيروسات، وبهذا سوف يفقد الإنسان قدرته في السيطرة على محيطه المادي، بعد أن كان صانعه وسيّده. التحكم في الافتراض أصبح صعبا جدا، لأن المصفوفة لا تفتأ تلاحق صاحبها حتى تُدخله إليها بالكامل، فيصبح مسجونا فيها وهو لا يعي ذلك، فكل من يستعمل تيك توك لا يدرك أنه داخل المصفوفة، وغيرهم من تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة.
هذا المقال لا يدّعي أنه قد ألمّ بكل مواضيع الكتاب، بل هو حثّ للأصدقاء ليطالعوه لأنه من الكتب الثقيلة جدا والصادمة بالحقائق، دون أي استعمال لنظرية المؤامرة أو ما شابه، بل هو كتاب فلسفي واجتماعي بحت.

المقال 336
#عمادالدين_زناف