الأحد، 27 فبراير 2022

النظرية الفرنسية French Theory



النظرية الفرنسية عبارة عن مَفهوم يُطلق على مجموعة من الأفكار المترابطة والمتشابهة في الغاية، جاءَ بها ثلة من الفلاسفة الفرنسيين بين سنوات الستين والسبعينات. 
ظهرت "النظرية الفرنسية" في الجامعات الأمريكية في سنوات السبعينيات، بعدَ أن سافرت أعمال هؤلاء المفكرين بين الشرق والغرب، ثم عادت الى فرنسا بصيغة النظرية الفرنسية.  ولا يعني "بالنظرية" أنهم عملوا على انشاء فكرة مُوحّدة ومُعيّنة ارادياً، انّما تُسمى كذلك لتقارب أفكار المؤلفين وغزارة أعمالهم، فقد خضعَ جُلّهم الى ما يسمى الفلسفة التفكيكية. 
 قوبلت أعمالهم بحماس كبير، خاصة في كليات الآداب الأمريكية، حيث ساهمت في ظهور دراسات "تفكيكية" جديدة على رأسها "النوع الاجتماعي" و"دراسات ما بعد الاستعمار"، عكس الدراسات السابقة التي كانت "تجمع"، سوف أشرح الفرق بينهما في صدر المقال. 
كان للنظرية الفرنسية أيضًا تأثير قوي في عالم الفنون بكل أصنافه، من الحسيّة الى الماديّة، وذلك بعد غزوها لذهنيات الفنانين بالتفتّح الكامل في جميع الميادين، وعلى رأسها التفتح "الجندري". 
أما عن هؤلاء المؤلفين الرئيسيين المرتبطين بهذه الحركة فهم أسماءٌ يعرفها الكثيرون، بينما لا يعرفون أنهم عبارة عن كُثلة بالنسبة للمنظور الفكري والاجتماعي الجديد، من بينهم لويس ألتوسير، وجان بودريلار، وسيمون دي بوفوار، وهيلين سيكسوس، والفيلسوف الكبير جيل دولوز، وكذا أب التفكيكية المعاصرة جاك دريدا، وصاحب الإسلام والثورة الإيرانية ميشيل فوكو ، وفيليكس جواتاري، ولوس إيريجاراي، وجوليا كريستيفا، والمختص النفسي الكبير جاك لاكان وغيرهُ، أما في الولايات المتحدة، فهناك جوديث بتلر، وغاياتري شاكرافورتي سبيفاك، وستانلي فيش، وإدوارد سعيد، وريتشارد رورتي، وفريدريك جيمسون، وأفيتال رونيل، ودونا هارواي.
ما الاستثناء الفلسفي الفرنسي؟
الانتقال بالعالم الفلسفي من البُنيويّة الى التفكيكية.
يوجد بالفعل في فرنسا تقليد فلسفي، خاصة للفلسفة الألمانية، فقد تأثر الفرنسيون بشكل صارخ بثلاث أعمدة في الفلسفة الجرمانية، هيغل، نيتشه، وهايديجر. لكن للفلسفة الفرنسية ولغتها علاقة وطيدة التي تعود إلى الفيلسوف والرياضياتي رينيه ديكارت، خاصة بعدَ أن كان اول من قرر الكتابة بلغته الأم، وليس باللاتينية. سيطَر الفكر الفرنسي على الساحة الفلسفية طوال مدة عصر التنوير. لكنها عرفت تراجعا طفيفاً مع بداية القرن التاسع عشر، حيث برز فيها فن الرواية كبديل عن المحاولات الفلسفية، وأخذَ الجرمانيون مشعل الفلسفة الى غاية الحرب العالمية الثانية. بعدها، "ابتكرت" فرنسا موقفًا فلسفيًا فريدًا في مواجهة تقليدها الفلسفي لألمانيا نيتشه وشوبنهاور وهيغل وابمانويل كانط قبلهم. فقد ابتَكَرَ مجموعة "النظرية الفرنسية" ما يسمى التفكيك، معتمدين دائما على الفلسفة النيتشاوية في "التمرّد" عن الأخلاق. فصنعوا تياراً ابتَعَدَ عن المفاهيم التقليدية رويداً رويداً، فقد جاءوا بفكرة التحرر الجـ،ـنسي بكل أشكاله، التفتح على الثقافات، انهاء مفهوم الاختلافات العرقيـ،ـة، التمرد على التقاليد العرفية والأخلاقية، الاستهزاء بالديانات، دعم تحرر المرأة اللامشروط، وغيرها من الأفكار الما بعد حداثية. النظرية الفرنسية انطلقت من قاعدة يمينية محافظة، وانتهت الى اليسار المُتـ.طرّف. لذلك أول نقد كان ولا يزال موجّه لها، هو كذبها الصريح وتقويل الفلاسفة التنويريين والألمان ما لم يقولونه، وشرح ما قالوه بطرق تتلاءم وما يريدون الترويج اليه. مثل استعمال ثغرات الفلسفة النيتشية في نقده للأديان، وجعلها دعوة للانسلاخ التام عن كل القيم التي كانت تجعل المجتمع متماسكاً وطبيعياً في مسلكه.  
وهكذا صنع الفرنسيون نظرية ما يسمى "الاستثناء الفرنسي"، فقد عملوا على تفكيك الأسرة والقيم، والعمل على تجزيئ المجزأ، عكس الفلسفة التجميعية، التي كانت تنعي غياب القيم.  
يمكننا القول إن فرنسا قد وجدت طريقة للوجود الفكري بعد الجفاف الذي أصابها. وقد جعلت مادة الفلسفة الزامية لجميع طلاب الباكالوريا، كي تحافظ على هذا التقدم. ورغم الصبغة النقدية في مقالي، الا أن هناك بلا شك مكانة استثنائية للفلسفة في فرنسا. سواءً فلاسفة القرن الرابع عشر الى القرن التاسع عشر، أو هؤلاء الذي جاءوا في الخمسينيات والستينيات بفكر "جديد". 
الفلسفة في فرنسا لا تتمتع بتخصص عكس ألمانيا، انما تتميز بالاستثناء. فقد قرّر مفكّرو الستينيات أن لا "موضوع مُهم للدراسة، انما مصطلحات داخل مصطلحات"، رغم أن فوكو نفسه انتهى الى دراسة "الموضوعات". قرّروا فكرة موت الانسان القديم وعرض فكرة جديدة للإنسان. 
في الأخير، كل ما يذهب الى الولايات المتحدة، ويُقابل بالقبول، يَعودُ سلعة تلسع العالم، فهم من صنعوا منها "نظرية".

#عمادالدين_زناف 
المقال 269

الأربعاء، 16 فبراير 2022

مُعضلة سيراكوز



مُعضلة سيراكوز في الرياضيات، أينَ تُكسَر أسنان العباقرة.
هل تتذكرونَ مقالتي حول حَركة زوغزفانغ ZugZwang؟ قُلتُ أنّها تُقال عندما يخضعُ لاعب شطرنج الى اجبارية اللعب، وتلك الحركة التي سيقوم بها ستؤدي به الى الخسارة لا محالة، فـ زوغزفانغ تعني الحركة المُهينة، أي أن اللاعب أمام حلّين، اما اللعب والخسارة، أو الانسحاب والخسارة. 
في عالم الرياضيات، تحدّثتُ في المقال الأول عن مُعضلة بينروز الهندسية، أي استحالة تجسيد بعض الأشكال الهندسية، أما اليوم، سنتحدّث عن مُعضلة سيراكوز في الجبر، أو لنَقُل أنّها لغزٌ رياضيّ ادّعى العديدون أنهم قد قاموا بحلّه، وآخرهم المًفكّر ادريس أبركان، غيرَ أنّ الرياضيون أثبتوا لهُ أنّهُ لم يفعل. 
قبل التعمّق في المُعضلة، وباختصار، كتبت هذه الحدسية سنة َ1971 في مالبورن بأستراليا على يد الرياضي هارولد كوكسيتر، لكنّها اُكتشفت عشرونَ سنة قبل ذلك في كامبريج بـ الو.م.أ على يد لوتار كولاتز، لذلك تسمى أيضا مُعضلة كولاتز.. وأسماء عديدة أخرى مُرتبطة بها مثل معضلة شيزوو هاكوتاني أو هيلموت هاسي.  هذه العملية الرياضية ستنتهي بصاحبها الى قفص صغير لن يستطيع تجاوزهُ، وهو قفص الأعداد 4،2،1 ! ولو بدأ من أكبر أو أصغر عددٍ مُمكن. الشرح سيكون بالتطبيق ( يمكنك القفز الى آخر المقال، ولمن يشكك في العملية فليتابع الحساب بالآلة الحاسبة)
سنأخذ عددَ زوجي 22 وعدد فَردي 11. إذا كان العدَد فردي فيتم ضربهُ في ثلاثة زائد واحد.
11 x 3 + 1 = 34
إذا كان العدد زوجي يتم قسمته الى اثتنين
22 : 2 = 11
ماذا يحدُث لو كرّرنا هذه العمليّة؟ 
34 x 3 + 1 = 103
103 x 3 + 1 = 310
وصلنا الى العدد الزوجي 310، الآن 
310 : 2 = 155
عُدنا الى العدد الفردي، إذا
155 x 3 + 1 = 466
466 هو عدد زوجي، إذا
466 : 2 = 233
_
233 x 3 + 1 = 700
_
700 : 2 = 350
350 : 2 = 175
_
175 x 3 + 1 = 526
526 : 2 = 263
_
263 x 3 + 1 = 790
_
790 : 2 = 395
_
395 x 3 + 1 = 1186
_
1186 : 2 = 593
_
593 x 3 + 1 = 1780
_
1780 : 2 = 890
890 : 2 = 445
_
445 x 3 + 1 = 1336
_
1336 : 2 = 668
668 : 2 = 334
334 : 2 = 167
_
167 x 3 + 1 = 502
_
502 : 2 = 251
_
251 x 3 + 1 = 754
_
754 : 2 = 377
_
377 x 3 + 1 = 1132
_
1132 : 2 = 566
566 : 2 = 283
_
283 x 3 + 1 = 850
_
850 : 2 = 425
_
425 x 3 + 1 = 1276
_
1267 : 2 = 638
638 : 2 = 319
_
319 x 3 + 1 = 958
_
958 : 2 = 479
_
479 x 3 + 1 = 1438
_
1438 : 2 = 719
_
719 x 3 + 1 = 2158
_
2158 : 2 = 1079
_
1079 x 3 + 1 = 3238
_
3238 : 2 = 1619
_
1619 x 3 + 1 = 4858
_
4858 : 2 = 2429
_
2429 x 3 + 1 = 7288
_
7288 : 2 = 3644
3644 : 2 = 1822
1822 : 2=  911
_
911 x 3 + 1 = 2734
_
2734 : 2 = 1367
_
1367 x 3 + 1 = 4102
_
4102 : 2 = 2051
_
2051 x 3 + 1 = 6154
_
6154 : 2 = 3077 
_
3077 x 3 + 1 = 9232
_
9232 : 2 = 4616
4616 : 2 = 2308
2308 : 2 = 1154
1154 : 2 = 577
_
577 x 3 + 1 = 1732
_
1732 : 2 = 866
866 : 2 = 433
_
433 x 3 + 1 = 1300
_
1300 : 2 = 650
650 : 2 = 325
_
325 x 3 + 1 = 976
_
976 : 2 = 488
488 : 2 = 244
244 : 2 = 122
122 : 2 = 61
_
61 x 3 + 1 = 184
_
184 : 2 = 92
92 : 2 =  46
46 : 2 = 23
_
23 x 3 + 1 = 70
_
70 : 2 = 35
_
35 x 3 + 1 = 106
_
106 : 2 = 53
_
53 x 3 + 1 = 160
_
160 : 2 = 80
80 : 2 =  40
40 : 2 = 20
20 : 2 = 10
10 : 2 = 5
_
5 x 3 + 1 = 16
_
16 : 2 = 8
8 : 2 = 4
4 : 2 = 2
2 : 2 = 1
العدد التصاعدي الأكبر في المنحنى هو 9232، وهو ما يمثّل نقطة التقهقر الى الرقم 4 ثم 2 ثم 1.
أي أن المُعضلة لم تُحل بعد.
القضية تشبه فلسفة العود الأبدي إلى نقطة البداية، لكن الرياضيات تعرض ثلاث نقاط أسياسية للعودة:
العدد الأول، العدد الأكبر، الهبوط أو التقهقر.

#عمادالدين_زناف 
المقال 268

الخميس، 10 فبراير 2022

وفاة التطوير الذاتي 1920-2022


ان من أبرز علامات التدهور والانحطاط الأدبي -اذا ما حصرنا حديثنا عن الأدب- في العالم هو صدارة كُتُب التطوير الذاتي والتنمية البشرية كأكثر الكُتُب مبيعاً.  هذه الظاهرة تَشرح مدى نزول المستوى الثقافي عندَ الأفراد والمجتمعات، تشرحُ كذلك مدى الكَسَل الذهني والفكري عند جيل تربّى على تَقليد الآخرين، وكذا نزول قيمة العلوم الماديّة والنفسية وكذا الأجناس الأدبية التي بُنيَت على أسسها الصُّلبة حضارات وشعوب. 
انّ تفوّق كُتب التطوير الذاتي على غيرها من الكُتب يُعتبر إشارة على أنّ الأدب يعرفُ تراجعاً مُرعباً من الناحية الفكريّة في كل العالم، وأنّ السّهولة أصبحت المُراد والغاية عند المؤلفين والقُرّاء، بعدَ أن كانت السّهولة شيئاً مُعاباً في كلّ الحَضارات. 
في هذا المقال، سأعملُ على هَدم التطوير الذاتي بكل بساطة. اعتماداً على بعض الحُجج العلميّة والمنطقيّة، واعتماداً أيضا بشكل عام على كتاب (التطوير غير الذاتي: نجاح الخَديعة) للمُفكّرة الفرنسية جوليا دي فوناس. 
 في بداية الأمر، "التطوير الذاتي" ليس بنوعٍ أو جنسٍ أدبي، فلا علم النفس تطوير ذاتي، ولا الفلسفة تطوير ذاتي. هو عبارة عن نصوص نَثرية، عبارة عن مقالات تَصُبّ في نفس الفكرة، عرَف بدايته سنوات العشرين في البدان الأنجلوساكسونيّة، "ترسّمَ" هذا المفهوم كدخيل في سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي الى غاية ظهور ما يسمى PNL (برمجة لغوية عَصبيّة) في سنوات السبعينات، الأمر الذي صعّد وأشهر التطوير الذاتي الى ضعف ما كان عليه.
كما شرحت في مقالٍ سابق عن دجل التنمية البشرية، التطوير الذاتي لا يختلف عنها في نسخ ولصق عدّة أفكار فلسفية ونفسية ودينية بطريقة عشوائية توهم بأن المُتحدّثَ مُلمّ بكل تلك الأشياء، المؤلّف في التطوير الذاتي يضع نفسه محل "المُعالج النّفسي"، زيادةً على أنّهُ لا يملك شهادة في علم النفس، هو يستعمل فوق ذلك ما يُسمّى "علاج نفس المقاهي" psychanalyse de comptoir.
ربّما لا يتعمّد الكثيرُ منهم في مخادعة القُرّاء، قد نجد الكثير منهم يُريدُ فعلاً تقديم شيءٍ ما، لكنّ لا يستطيع التكلّم في الطبّ سوى الطبيب، ولا يستطيع أن يقوم بالجراحة سوى الجرّاح، حتى لو كنا نملك ثقافةً طبيّة، فذلك لا يضعنا في محلّ الطبيب والجرّاح، ولن يقبل أحدٌ أن يتمّ شقّ بطنه أو جمجمته من شخصٍ يملكُ ثقافة طبيّة، مكان طبيبٍ مُختصّ. فلمَ يختلفُ الأمر مع الفلسفة وعلم النفس والفقه؟ لمَ يتساهل الناس في القراء لأشخاصٍ يدّعونا الإحاطة بأشياء تحتاجُ اختصاصاً حقيقيا؟
يقولُ ابنُ رشد، اللحية لا تنصعُ الفيلسوف، ونقول، المئزر لا يصنع الجرّاح، والثقافة النفسية لا تصنع الأخصائي العياديّ. 
المؤلفين في التطوير الذاتي يُشبهون مازج الأغاني في الحَفلات، فهُم يظهرون بشكل العارف بالموسيقى، غير أنّهم ليسوا هم المُغنّين، بل كلّ ما يقومون به هو مزج الأغاني مع إضافة تعليقات سخيفة في أغلب الأحيان. 
مُحاربة السلبيّة، العمل على التفكير الإيجابي، أو ما يُسمى "علم النفس الإيجابي" هو هدفهم الأسمى، غير أنّ هذه العمليّة تنكر الواقع، وتُبعد صاحبها عن الحقيقة بكلّ أبعادها.  نُكران أو استنكار الواقع فكرة عدميّة تقودُ الى الجنون، ونحنُ نرى في العالم الغربي ان محاربة الواقع هو في الحقيقة محاربةٌ للطبيعة، فقد قادَ هذا التفكير الى كُل الانحرافات التي نعيشُ في أحضانها اليوم. مٌحاربة الواقع بالتسويق للإيجابية المطلقة يقود الى تغيير وتحريف الواقع، تحريف العلوم والأفكار والأديان لصناعة واقع جديد يتماشى مع الرّبح المادّي البحت. 
عوضَ مواجهة الواقع، يصنعونَ ما يسمى ديكتاتورية الفرح، فرض الإيجابية بالقوّة، عكس الحقيقة التي تتربّع على التراجيديا، أنّ كلّ شيء فانٍ، سواءً كان جيداً أو سيّئاً. هذا ما يُذكّرني في فيلم equilibrium، حيثُ يُصوّر لنا مجتمع المستقبل الذي يَعتمد على تعاطي الحُقن لإماتة كل أنواع المشاعر، وبإماتة المشاعر بالمُطلق، فرحاً كانت أو حزناً، كما يصوّرون، تنتهي متاعب الانسان وخاصة "أحزانُه".
يُقال دائماً ان التطوير الذاتي يُساعد ويُريح القُرّاء، أي يُشعرهم بالتحسّن، فلمَ يتم انتقاده؟ 
حُجّة " الشعور الجيّد" هي حُجّة سيّئة جداً فلسفياً وحتى دينياً. ذلكَ أن الذي يتعاطى المُخدّرات أو الكحول أو التبغ يشعر كذلك بالسعادة والراحة، المختل يشعر بالسعادة عندما يستفعل بالنساء أو الأطفال. ليسَ لأنّكَ تشعر بالسعادة والراحة يعني أن ذلك الأمر جيّدٌ في ذاته، يقول سبينوزا: لا نختارُ الجيّد لأننا نحبّه، بل لأننا نُحبّهُ سنعتبرهُ جيّدا. إذا حكمنا على كلّ ما نحبّه بأنه أمرٌ جيّد فستكون الحياة سهلةً على الجميع، بل وأسوأ من ذلك، ستصبحُ خراباً حقيقياً، انّ كثيراً من الذي نعتبرهُ جيّدا عن حبّنا لهُ ينقلبُ مضرّا ومهلكاً. باسم الجيّد والمُريح صنع الانسان المآسي في الأرض.
يتغنّى مؤلّفو التطوير بالذات وتطويرها، مُستعملين في ذلك استدلالات فلسفية –في غير محلّها-، كتكرارهم لمقولة منسوبة لسقراط –اعرف نفسك بنفسك-، غيرَ أن فلسفة اليونان لم تَكن تدعو لتطوير الذات بهذه المقولة، بل كانت تدعو لمعرفة الذات وسط المحيط والعالم الذي يحيط بك، وهذان مفهومان مختلفان تماما، فالإنسان الاغريقي الحكيم يبحث عن مكانته في –الكوسموس- ولا يبحثَ على أن يتسيّد الكون. كذاك يستعملون الفكر الرّواقي للتسويق للتأمّل، غيرَ أن الرواقية تخالف منهجهم جذريا، ذلك أن الرواقية تدعو لقبول الواقع كما هو، اما التطوير الذاتي يدفعك على نكران الواقع، الرواقية تدعو الى تجاوز ما لا يمكنك تغييره، بينما التطوير يدفعك على تغيير كل شيء، بمجرّد استعمال حجّة في غير محلها وهي "الإرادة"، هل عليّ أن أشرح بان ارادتك في التحليق لا تكفي كي تطير حقاً؟
يعمل المؤلفون في التطوير الذاتي الى صناعة "الشعور بالذنب" لدى مُريديهم، لأن الباحث عن تطوير ذاته يجب أن يحتقرها أولا كي يبحث عن تطويرها، فلا يبحث عن التطوير المُتكوّرُ يلفاً. وهذا ما يعملُ عليه كل المدربين، فهم يسوقون العادات السيئة "الإنسانية" لكي يرى القارئ نفسه فيها، قبل أن يسردوا لهُ القواعد الجديدة كي يصبح خارقاً. وهذا ما يجعل أكثر مريدي التطوير الذاتي من باحثين عن تطوير ذاتهم الى باحثين عن معالج نفسي ينقدهم من الكآبة التي صنعوها في أنفسهم اتّباعاً لتلك الأفكار. فالباحث عن تطوير ذاته مقلدا لكل ما يقوله مدرّبه، سيشعر بالكآبة أكثر من غيره لأنه يعتقد أن كلّ الظروف الماديّة موجودة حوله، لكنّه أفشل مما كان يعتقد، فيدخل في دوّامة أكثر خطورة.
يستدرجون مريديهم بقول أن فيهم شيءٌ مميز يجب أن يعملوا على إبرازه، غير أننا المميز كغيره يحتاج إلى علم وليس لمعرفة ميزته. 
يسوقون فكرة استرجاع الأمور والتحكم فيها، غير أننا لا نتحكم في شيء إلى في الأفعال الآنية.
يعدون مريديهم أنهم سيكونون أكثر جرأة في اتخاذ القرارات، غير أن القرارات تحتاج إلى معرفة وعلم أكثر من الجرأة، تستطيع أن تتهور بقول لا أين يجب قول نعم، لكنك لن تحسن إدارة النتائج.
تسويق الإرادة على أنها كلّ شيء يعمل عكس مفهوم الإرادة، لان إرادة القوّة عند نيتشه لا تعني إرادة المناصب والمال والنجاح في تكوين مؤسسات وإدارة الأعمال والزواج بأحسن النساء، ليست هذه الإرادة فلسفياً، الإرادة تتجاوز المادة، ذلك انّ الانسان خليط بين الغايات المادية والغايات الروحانية المشاعريّة، وكما يقول بروس لي، لا تُفكّر بقدر ما تَشعُر. الانسان عبارة عن مركّبات مُعقّدة لا تعقل تلك السهولة في الإرادة المادية، وان المادّة والنجاح أبسط بكثير من تركيبة الانسان المعقّدة. 
خديعة "الصداقة" بين المؤلف والقارئ تنجح في كلّ مرّة، لأن المؤلف يلبس ثوب الناصح، مع اعتماده على طريقة الأخ الأكبر الذي يحتقرك ويحتقر تركيبتك كانسان مستقل لتجاربه دون ان تشعرَ بانه يفعل ذلك. يختار الناس الصديق للنصيحة لأنهم يخافون من الحُكم، ولا يحبّون سلطة العالم والمُتمّكن، لأنهما محقّان، والناس تخشى الحقيقة. ان يذهب أحدنا الى الطبيب النفسي عوض صديق يعني أنه قبل فكرة أنه يُعاني، غير أن من ينحرفون الى التطوير الذاتي لا يقبلون فكرة أنهم يعانون نفسيا بل يعانون ماديا. 
هدم التباين بين المستويات العقلية والقدرات النفسية والاختلافات الثقافية في أسطر التطوير الذاتي، تجعله تطويرا آليا غير ذاتيّ بالمرّة، فهو يخاطب الآلة أكثر مما يخاطب جنس البشر، وهذا نوع من احتقار الاختلافات، الأمر الذي لا تقوم به العلوم تماما. 
مرض التطوير الذاتي أصبح يولد لنا براعم لم يتطوّروا بعد، لا ذهنيا ولا جسدياً ولا تجريبياً، فقد أصبح المطوّر الذاتي نجماً في ذاته وليس ناصحاً لهم، وكل هدف البراعم الآن هو أن يصبحوا ناصحين ومدرّبين هم كذلك.
وبهذا، أعلن شهادة وفاة التطوير الذاتي اليوم 10.02.2022 
فانا لله وانا اليه راجعون.

#عمادالدين_زناف 
المقال 267

الجمعة، 4 فبراير 2022

اكذب عليّ Lie To Me



توقّف! لست امزح معك.. توقّف حالاً.  اقرأ هذا!

مقال اليوم سيتحدّث عن موضوع مُميّز جداً في علم النّفس، سنتكلّم عمّى يُسمّى –التعبير الدقيق-Micro-Expression، لكن قبل أن نتحدّث عن التفاصيل، يجب أن أعرّج على شيئين، الأوّل هو صاحب هذا الفرع الجاد في علم النّفس، المُصنّف من بين أكثر علماء النّفس المؤثرين في القرن العشرين، والثاني هو المسلسل الذي صُنع لُيسقط كل دراساته للجمهور –Lie To Me- -اكذب عليّ-.
▪بول اكمان، عالم نفسي أمريكي مواليد 1934م، حالياً هو في سنّ الـ87 سنة. درس في جامعة نيويورك ثم جامعة أديلفي، في سنة 1971م تلقى جائزة المؤسسة الوطنية للصحة العقلية NIMH، ومنذ 50 سنة والمؤسسة تدعم كل أبحاثه في مجال التعابير الدقيقة، وكيفية اسقاط الكَذبة.
في سنة 2000، التقى بـ الدالاي لاما، وكانت تلك الملاقاة مفصلية للأخصائي، حيث وصف الأوّل أنه يحمل تعابير وجه شاب بين العشرين والثلاثين من عمره، وكذا الغياب الكلّي للرسائل المثيرة من وجهه. 
▪يقول بوب اكمان في أبحاثه أن تعابير الوجه ليس مرتبطة بثقافة ما، يتقاسم كل البشر نفس ردود الفعل، نفس التعابير، نفس مخارج المشاعر، نفس لغة الجسد. وهذا يدعم أو لنقل يتماشى ونظرية داروين، وعلى إثر أبحاثٍ قامَ بها، استطاع ان يُحدّد التعابير الدقيقة المُوحّدة عند البشر:
غضب، اشمئزاز، خوف، سعادة، حزت، تفاجئ، احتقار.
▪يقول بول بأن دراسته المسماة بـ التعبير الدقيق قادرةٌ على اكتشاف كذب أي شخصٍ في أي وضعية كان.  فهو مختصر في السلوك اللا شفهيّ، القائم أيضاً على مراقبة لغة الجيد زيادة على تفاصيل الوجه في لحظات سريعة. كانَ من الأوائل الذين اكتشفوا كذب الرئيس السابق بيل كلينتون في قضية اختصابه/تحرّشه بمونيكا ليفنسكي، حيثُ أشار الى أن بيل كلينتون قام بإشارة بيده اليمنى تتنافى وما كان يتحدث به، ما سمّاه اللغة المتباعدة.
🔹يحمل الوجه 43 مجموعة عضليّة، تتواجد تحت الطبقة الرفيعة للجلد، تستطيع تلك المجموعة صنع آلاف التركيبات والحركات الدقيقة، كل منها يعبر عن مشاعر معينة، أصعبها للتحليل هي تلك من تحمل نفس التركيبة.
ينخدع معظم الناس بكلام بعض الشخصيات، لكن ليس المختصين، الذين يلتقطون التناقض بين القول ولغة الجسد، بين الكلام وحركة الكتف، الفم، الحاجبين د، الركبة، اليد، اتجاه البصر.. تفاصيل صغيرة تخدع صاحبها، ولن ينجو منها أحد إلا إذا تدرب لسنوات طوال كي يستطيع تمشيق لغة جسده مع أقواله وتعابيره ومشاعره.
▪يعمل الدكتور اكمان في مجلة Greater Good في جامعة كاليفورنيا، أبحاثه تتضمن أيضا قضايا جذور الغيرة والتعاطف والسلام البشري.  يعمل مع الدكتورة ميتاكساس، المختصة في الملاحظة للتعابير الدقيقة عبر الكمبيوتر. وهذا يقودنا للحديث عن المسلسل الذي كان مخصصاً لهذه القضية، مسلسل Lie To Me  الذي دام لثلاث مواسم 2009-2011، القليل منا من يتذكرهُ، كان ينافس بقوة مسلسلات مشابهة مثل The mentalist و Criminal Minds، لكنه لم يُعمّر طويلاً، لنُقص الجماهريّة، او ربما لأشياء أخرى.
⭐ مثّل الفنان تيم روث دور الدكتور لايتمان المتأثّر مباشرة بشخصية بول اكمان، وتساعده في ذلك الدكتور فوستر، التي تمثل دور الدكتورة ميتاكساس، يعمل الفريق على مساعدة الـ FBI  في التحقق من مدى صحة أقوال المتهمين والشهود عن طريق الملاحظة والتدقيق في تفاصل لغة جسدهم وأوجههم.
▪حدّد الدكتور اكمان قائمة لمشاعر وتعابير أخرى في سنوات التسعينيات، لكنها ليست مرتبطة بتعابير الوجه، وهي :
المرح، الرضى، الانزعاج، التشهّي، الذنب، التفاخر، الارتياح، التلذذ، الخجل.
لاقت دراسته عدّة انتقادات أيضا، لاسيما عندما اُستعملت في المطارات لكشف المشتبه بهم، ولم تفلح العمليات دائماً، مما جعل العديد من العلماء يشكّكون فيما إذا كانت دراسته علمية أو مجرّد علم زائف.

#عمادالدين_زناف
المقال 265

الأربعاء، 2 فبراير 2022

شرودينجر.. بين واقع الفيزياء وخيال الكم



أأهلاً بكم مُجدّداً.. أهلاً بكم في مقالة مُملّة  جداً وسط أخبار كرة القدم.
سأتحدّث عن معادلة شرودينجر، ستكون مقالة طويلة ومركّبة، لكنها تحمل تبسيطاً لقاعدة أساسية في فيزياء الكمّ، القاعدة التي بنيَ عليها مُعتقد العوالم المتعدّدة، رغم أنها لاقت انتقادا من أساتذة مثل ريشارد فينمان، اربطوا الحزام.. سننطلق! هذا الرجل المهووس بالفلسفة، رقم جديد أضفته في قائمة الأشخاص الذين جعلوني أهتم بالفيزياء لكي أطمح يوما ما، في زمن بعيد، ربما، أن أصيرَ فيلسوفاً، ولكي تصير فيلسوفاً، عليكَ أن تعقل قواعد الفيزياء ومستجدّاتها. 
🔸في سنة 1925، قرأ شرودينجر دراسة للعالم الفرنسي لويس دي بروجلي، دراسة مفادها أن الالكترونات التي كان يُعتقد انها جسيمات صغيرة، يمكنها أن تشتغل كذبذبات. مثّلت هذه الدراسة صدمة لشرودينجر، فقد كان يُعتقد أن عالم الفيزياء يتلخّص في ظواهر متموّجة. وما نسيميه الجسيمات ليسوا عبارة عن جزء متفرّد من المادّة، لكنها عبارة عن قمم من الزّبد   crêtes d’écumes في قطار من الذبذبات المتموّجة. 
في علاقة الربط بين الموجات تلك والمادة، قام العالم نيلس بوهر سنة 1913، بوضع نموج جديد للذرّة مقسّم الى نَظَريّتين، الأولى :
يتم تحديد مدارات الالكترونات في الذرة كمياً، ولكلّ منها طاقة محدّدة!
K2e/-13,6ve
L8e/ -3,39ev
M18e/ 1,51ev
N32e/ -0,85ev
O32e/ -0,54ev
P18e/ -0,37ev
Q8e/ -0,28ev
الثانية : ان الاشعاع المنبعث من الذرة عندما يمر الالكترون من مدار الى آخر، يصدر شعاعاً يحمل بالضبط الفروقات في الطاقة بين مُنطلق المدار ومدار الوصول.
الشعاع المنبعث من الذرة ليس متواصل بالطاقة، خياله متواصل بأشعّة "خاصة"، يقال أنها سريّة.
ورغم رواج فكرتيه، الا أنهما لم يكونا متّسقين عند الفيزيائيين، لأن الالكترونات ليس لهم مسار محدّد في الذرّة، اذا، لا يوجد هناك مدارٌ محدّد.
🔸في سنة 1920، احتفظ هؤلاء الفيزيائيون بشيء واحد من نموذج بوهر، بحيث لا يمكن  العثور على إلكترونات الذرة الا في حالات محددة فقط، تتميز بطاقتها فقط، وليس بمسار ما، بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح.
إذا اصطدمنا بالمدارات، فكيف نبني المحطة المؤقتة للذرة؟
فكر شرودينجر في موجات ثابتة قادرة على مجابهة مدارات بوهر المختلفة.
يمثلون الإلكترونات الحائمة حول نواة الذرة كأوتار مهتزة تلتقي طرفاها، وبالتالي تصبح الذرة نوعًا من الكمان الكروي، ووضع اهتزاز هذه الأوتار يصبح مؤشراً على الطاقة.
لم تعد هناك حاجة "للقفزة الكمية"، لأن الانتقال بين مستوى وآخر من الطاقة يحدث باستمرار، حيث ينتقل الوتر ببساطة من مدار إلى آخر، مُعدّلاً نمط اهتزازه بشكل دائم.
🔸نهاية سنة 1925، يقول إن ذرة الهيدروجين، هي الذرة الأبسط في الطبيعة، الكترون واحد يُسهّل الحساب، وقد وُفّق في ذلك، فقد وجد تماما مستويات الطاقة في نموذج بوهر
1.88ev_________2.54ev___2.85ev___3.01ev
وهكذا أصبحت معادلته هي المعادلة المُرتكز عليها في ميكانيكا الكم !
معادلته دقيقة فقط فيما يخصّ الجسيمات التي تكون سرعتها منخفضة على سرعة الضوء، باقي النظريات، فهي من اختصاص العالم بول ديراك ومعادلاته، كل هذا ولّد نظرية الأكوان المتعدّد، نظرية Everett، حيث يُقال انها شرح لميكانيكا الكم أكثر منها نظرية علمية مستقلّة. 
🔸في سنة 1935، حدثت تجربة تخيّليّة، ما هو معروف بنظريّة قطّ شرونينجر، والتي جاءت كردّ فعل "لتفسير كوبنهاغن" والذي يقول متهما ميكانيكا الكم.. انها لا تصف الظواهر الطبيعية بشكل موضوعي، بل تكتفي بالتعامل مع احتمالات الرصد والقياس".
أما عن تجربة القطة، فهي تتلخّص في التالي:
حبس شرودينجر قطه داخل صندوق مزود بغطاء، وقد وضع داخل العلبة عداداً وكمية ضئيلة من مادة مشعة، منظراً أن تتحلّل ذرة واحدة خلال ساعة تقريباً وتكسر القارورة ذات السم القاتل. إذا تحللت الذرة فان "عداد غايغر" سيحرّك مطرقة تكسر بدورها زجاجة تلك القارورة التي  تحتوي حامض الهدروسيانيك السام.. فيقتل القطة فوراً.
 فهل مات القط أم بقي حيا؟ حسب ميكانيكا الكم، القط في حالة مركبة بين الموت والحية، أو حالة كمّية، وهذا قبل تفقّد القطّ.
يُمثّل القط الفيزياء الكلاسيكية، بمقابل ميكانيكا الكمّ التي وضعها شرودينجر، بالنسبة للكلاسيكية، فالقط اما حيّ أو ميّت، وهذا يثبت تعقيد ميكانيكا الكم، لأن الالكترون يمكنه أن يكون في كل مكان في وقت واحد، بما أننا لا يمكننا ملاحظته، فتحركاته تُحسب بالاحتمالات، اذ نعبر ان هناك نواة محاطة بسحابة من الالكترونات لا نعرف مكانها..
هل فهمتم؟ يقول فرينمان، لا تقل فهمت ميكانيكا الكم أبداً، لأنك لن تفهمها. لكت علينا أن نعلم أن هناك تفسيرات للظواهر الكونية تفوق قدرة الفيزياء الكلاسيكية.

#عمادالدين_زناف 
المقال 264

الثلاثاء، 1 فبراير 2022

الأرواح المتمردة على مذا؟ خليل جبران



لست في مقام التعريف بجبران خليل جبران، فهو أحد أعظم كتاب القرن العشرين في العالم العربي، وواحد من أبرز الكتاب العرب المعروفين في العالم، ليسَ محلّاً للنزاع أن خليل جبران شخصية مليئة بالأناقة والهدوء والروح الفنيّة العالية، عدى العاطفة والشاعريّة المندفعة منه مثل مياه النّافورة. كذلك، ليسَ هناك محلّ للنقاش في أسلوب خليل جبران، أسلوبه راقٍ في التعبير، والسّرد والوصف، لنكن متّفقين، هذا حقّهُ، لكنني لست من المعجبين بأسلوبه، الأذواق والألوان لا يمكن النقاش فيها، العيب في ذمّ شيءٍ ليس في ذاته محلاً للذمّ، بل محلاً للذوق. 
قرأت لجبران كتاب النبيّ، وقد أعجبتُ به على عدميّته المفرطة، وقرأتُ الأجنحة المتكسّرة، ثم الأرواح المتمرّدة، فلم أستسغ ما قرأت في المجموعة القصصيّة للعنوان الأخير. كما توقّعت، خليل جبران لم يكن بدعة من المؤلفين الذين اختلطَت عليهم قُدسيّة الدّين مع قُدسيّة الحياة، فقد قرأت لعديد المُحافظين، أي أصحاب التيار اليميني، لا يُحسنون التوفيق بين الفكر النيتشيّ القاتل لفكرة الاله، والتديّن البحت الذي يبحثُ عن رضا الاله. لا يُمكن للفرد أن يلعبَ الدورين في نصٍّ واحد، وهنا، وفقط هنا اكتشفتُ في جبران ثغرة العاطفة التي تطمسُ الفكر والفلسفة وتضعها جانباً، تلك العاطفة والشاعرية المندفعة منه لها الأثر العظيم في التشويش بين حبّ الشريعة، والتمرّد عنها. انّه وكغيره من الروائيين ذوي الحسّ المرهف والفنّي، يميل مع ما يمليه القلب مثل ركوع السنابل صفاً مع النسمات، فقد تعبتُ وأنا أقرأ السطر تلو الآخر، وهو يختلق قصصاً لحالات شاذّة، ليبرّر أن المُشرّع يستعمل الشريعة لغرض سُلطويّ، بين هو ذاته مُذنب، ولو فتحنا الانجيل، فنجد أنهم يقولون على لسان عيسى عليه السلام "من لم يُذنِب منكم قَطُّ في حَيَاتِهِ فَليَرمِهَا بِأَوَّلِ حجر؟"، أي هو مع فكرة أن المُذنب لا يجب أن يُعاقب من مُذنبٍ آخر، وهنا نقع في فكر فلسفي قريب من المدرسة الآناركيّة، الآناركيون Anarchistes ، لا يعترفون بالنُظُم والدول، مشكلتهم الأساسية في الوسائل التشريعية، السماوية والوضعيّة، ولو صرّح جبران بأناركيّته لكانت فلسفته واضحة، فقد طغى في زمنه فكرة التمرّد على الدين، وكما ذكرت، لم يكن جبران نيتشياً خالصاً، ولا مدافعاً عن شريعة دينه، ومع ذلك، يريد ان يكون في الحياة اله.
تُزعجني فكرة ضبابية المؤلّف، واستعمال من كل بستانٍ وردة، ومن كلّ صبّار شوكة، ثم نمزج هذا لنضعَ نصّا يُغازل القراء، كيفَ لنصرانيّ ان يُسلّمَ بالزنا بحجّة الزيجة "جافة المشاعر"؟ّ، لنتّفق، هل الحبّ أولى أم الشريعة؟ هل يرّع جبران لنساء العالم الهروب من سقفهم الشرعيّ، للحبيب "الفقير المفعم بالحب والحنان"؟، هل تتذكرون عندما تكلمت عن الحريّة؟ قد قلتُ أنّها تحرّر من قيد من أجل قيد آخر، وهنا أقول، هو هروب من شريعةٍ لتشريعِ شيءٍ آخر. وكما أشرت، أقبل هذه النصوص من نيتشه وبرتران راسل وغيرهم من الملحدين الواضحين، الذين يضعون الدين بكامله في قفص الاتهام، بينما لا أستطيع فهم من يريد مسك العصى من الوسط. 
لم أقع في فخّ الأسلوب العظيم في السّرد، أنا باحث مُلحّ عن الفكرة، وفكرة أن الجائع يجوز له السرقة، وأن الحبيب يجوز أن يدخل غرفة امرأة متزوجة، وأن العروس تطعن حبيبها في يوم زفافها، ثم تطعنُ نفسها، لا أستطيعُ هضمها.
قرأت أن خليل متأثّر بنيتشه، وكان هذا واضحا فعلاً، لكنّه مدجّج بالعدميّة، بالاستياء من الناس والسلطة والتشريعات، مهووسٌ بالبحثِ عن الحجج للعاصي، دوّامة الغفران التي تمسّ مرتكب الفواحش، لستُ أعلمُ ان كان هذا المزج بين السمح النصراني الطاغي في نصوصه، مع فكرة التمرّد عن "كل شيء" تقريباً.. هو الشيء الذي جعلَ له القبول في الشّرق والغرب، الشيء الذي بقي عالقاً في ذهني، أنه لا يبحث عن الحلول في القصص، هو قيء مستمرّ ضد الظلم، غضب مُلتزم عفيف، غضب مُقدّس مبارك بنصوص انجيلية، لا تعترف الا بسقف العاطفة، وان كانت ذلك السقف هشّ. 
نعم، يجبّ المسيح ويحب الإسلام، وقرأت له أنه يرّق بين الرسالة والكهنة، كذلك فعل نيتشه وغيره، لكنه عجز كل العجز عن الخروج بحرف يفكّ شيفرة التناقض الذي يتصارخ بين أسطره، ولن يقرأ تلك التناقضات الا من قتل المؤلّف كليا، واعتنى بنصه فكرياً عناية جراحيّة قيصريّة، دون ان يسمح لنفسه ان ينام مغناطسيا مع قوة الكلمات.

#عمادالدين_زناف 
المقال 263