الاثنين، 27 ديسمبر 2021

مرهفة السياسية حنة آرنت



اعتبرت حنّة نفسها وريثة الفلسفة الآرسطية البحتة، الذي أخذت عنه تعريف الإنسان بالحيوان السياسي. جدير بالذكر أن نفكك مصطلح حيوان، كي لا نفكر في تشبيه غير لائق بالدواب، الحيوان من حياة وحيوات، فكل ما فيه حياة هو حيوان.  يعي الإنسان إنسانيته وسط المدينة وقوانينها، لأن بذلك الفعل السياسي يتميّز عن باقي الكائنات الحيّة، بالكلام والمنطق.  فهما يشكلان قدرة للتفاعل، وبذلك يساهم الإنسان في صناعة العالم من حوله.  على عكس الذي يعتني بذاته وحاجياته، ذلك عند الإغريق ليس بإنسان. بنفس الطريقة، ترى أرنت بأن السياسة طريقة مناسبة للتعبير  عن إنسانيتنا، بل هي شرط أساسي لكل الحريّات، دون السياسة لا حريّة ممكنة، ودون حريّة، لا عمل سياسي نافع.
وهذا الفكر يعد نقيضاً للمدرسة الرواقية، التي ترى أن كل العمل الإنساني يكمن في دواخلنا، لا في المحيط. فقد كان يرى إبكتيتوس أنه حرٌّ من كل سيّد، رغم مهنته كخادم.  هذه النظرة بالنسبة لآرنت تعتبر عيباً سياسياً، وشعور بالهزيمة، هزيمة تشبه هزيمة الآثينيين ضد الإسبرطيين.  كذلك في العصور الوسطى، أين كانت شروط السلام تحت رحمة الدين فقط، ثم ما عرفه العالم في الحربين العالميتين. 
مع ذلك، تعتبر أن الإبتعاد عن السياسة يقود للتجارب الشمولية، التخلي عن العمل السياسي، يعني التخلي عن التفاعل، للإنطواء في أمورهم الخاصة، وهذا ما يفتح بابا واسعاً للبيروقراطية، والشمولية.  سنة 1951م، أصدرت كتابا بعنوان أصول الشمولية، قالت فيه أن الشمولية عبارة عن تجربة سياسية جديدة، لأن حتى في وسط البيئة الديكتاتورية، يمكن للأفراد ان يمارسوا الكثير من حراياتهم، لكن الشمولة تغزو حياة الأفراد كلياً، مع فرد أن يتم تبجيل الحزب وقائده. 
حضور النظام يصبح شموليّ، فهو نظام لا يفرّق بين الشؤون العامة والخاصّة.  يستمد طاقته وأحقيته من قضايا عرقية ودينية وتاريخية، لا انتخابية ولا برامجية.  والناس بين كل هذا عبيدٌ خدَم، يضحّون لباقاء ذلك. 
الشمولية هي رفض الإنسان ودوره كلياً، الشمولية تنهي السياسة، الطريق الوحيد لتفاعل الانسان ورفضه ومساهمته في تعديل الأوضاع.
الأولوية السياسة بالنسبة لها هي أولوية إجتماعية أيضاً، لأن القضايا الإجتماعية مثل مطالب العمال، يمكنها أن تستعنل كضغط سياسي ضد النظام.  السياسة الإجتماعية تعنى بالحالة الإقتصادية للبلد والشعب، وعكس الشمولية، المجتمع اامدني هو من يفرض على نظامه طريقة العمل السياسي.
لكن تفوق هؤلاء الأفراد، ما هو الا تفوق لبعض المستهلكين لا غير، وهو فقدان الحرية من نوع آخر، بسبب العادة وتكرار نفس المطالب. 
السياسة بالنسبة لها لا تعنى بموضوع العمل، لكن بالفعل والتفاعل، العمل مهم لأنه يصنع الثروة، لكن هذا لا يعني جعل هم الأمة في ظروف العمل.  المجتمعات المعاضرة وضعت العمل فوق التفاعل السياسي، إلا أن التفاعل السياسي يصنع عالماً جديداً يعطي معنى لحياتنا.. عكس العمل الذي يحوم حول نفسه.

#عمادالدين_زناف 
المقال 249

السبت، 25 ديسمبر 2021

محاولات دي مونتين



...ما زالات تُزعجني ترجمةُ عنوان كتابه بـ «مقالات»، عِوض تجرمته بـ «مُحاولات» أو «تجارب»، لا صلة بين Essai و Articles. إذا أردنا التكلم عن نوعية الكتاب، هنا نعم ممكن أن سميه أنه عبارة عن مقالات، رغم أن المقال أو المقام، لم يكن أسلوباً أدبيا بعد، بل كانت جل الكتب تنتهج طريقة المأثورات أي Aphorismes وليس المقالات أي Articles.
أسلوب كتابته هو أصل الجنس الأدبي الأكثر شهرة في فرنسا وهو L'Essai، اذا أردنا القول أنها مقالات، فلين، لكن ليس هناك كتاب لاوبحمل مقالات، كل الكتب عبارة عن مقالات! لكن essai هي تجربة فكرية، أو محاولة فكرية.
لا علينا، لنتجاوز هذا، دي منتين هو أب الفلاسفة المتنورون وفلاسفة العصر الرومنسي، لكنه لم يكن فيلسوفاً، والنقطة الفاصلة التي لم تجعله فيلسوفاً تكمن في ابتعاده عن تأسيس نظرة للحياة.
  بمعنى أنه رجل يتكلم كثيرا، يعبر عن أفكاره، وما يشعر به، يترجم ما يراه، يفسره، ينتقده، لكنه لم يصع أسس فكرية واضحة لكي يُسمى فيلسوفاّ.
جاءَ مونتين في فترة حساسة، فترة انتفاضة علمية مع نظريات كونية جديدة، فترة دينية صعبة مع بروز البروتستانت، وكذا فترة التحرر الفكري الفلسفي وبزوغ الحركة الإنسانية، في القرن السادس عشر.
لم يكتب بخط يده كتاب المحاولات، بل قصّه كله لمن معه، ودوّنت عنه، كاين يفكر بصوت عال في مكتبته الشهيرة المحفوظة إلى يومنا في فرنسا، يفكر ويملي، يكرر ما قاله، يناقضه، ينتقد نفسه، يشرع في قول وينسى ما أراد قوله.. الكتاب عبارة عن تعبيرات عفوية، مواضيع ليست لها صلة ببعضها، هو أول كتاب في هذا النوع الأدبي الذي تفرعت منه الخواطر والمقالات والمقامات.
فكره يتعلق بالتلذذ بالحياة وقبولها مهما كانت صعبة ومعقدة،  أن يصنع كل فرد المجد لنفسه، أن يرتاح ويتناغم مع نفسه، أن يقبل الشر والخير، أن يجرب دائماً، وهذا هو معنى اسم الكتاب، التجربة والمحاولة، في التفكير والعمل. 
وقد قال، علينا أن نقبل سطحيتنا بكل عمق، جملة أخذها عنه نيتشه، العظمة عنده في محاولة النجاح بما نستطيع ويتوفر عندنا، ما نستطيع فعله، وعلينا كذلك قبول حياة عادية! نعم، نحن نشبه الجميع وعلينا تقبل هذا.
ليس هناك أسخف من أن تعتقد نفسك أحسن من الجميع، وليس هناك أجمل وأجود من قبول ما أنت عليه، وما خلقت له.
عندما نرى أن الخياة بسيطة، وأننا بسطاء، سنستمع بكل شيء حولنا، نسمات الهواء، كوب قهوة مع صديق، ابتسامة غريب.. كلها تسعدنا، أما من يرى نفسه أعلى من هذا، غلن يصل للأعلى ولن يسعد بما لديه.
استغلال الحاضر، هذا ما يجب فعله دائماً.
يقول أن مهما جلسنا في أعلى العروش، سنبقى جالسين على عجزتنا، وهنا تكمن بساطتنا وصغرنا.
تعرض مونتين لحادث سقوط من حصانه أثناء رحلة اصطياد، شعر من خلالها لحضور الموت في تلك الأثناء، تذكر الموت يجعلنا نعيش أحسن! ذاكرة هذا الحديث تذكره بأن عليه العيش حالاً، أن يستغل حاضره.
أريد أن أعيش، فتأتي الموت لتجدني أعتني بحصاني.
إقبل الموت، ولا تفكر فيها.
هو مفكر الحركة، كل شيء يتقدم، كل شيء سيصبح، دائما.
لا تستاء من العالم فهو لن يتغير، ولن يتأثر.

#عمادالدين_زناف 
المقال 248

الأربعاء، 22 ديسمبر 2021

ستيندال والدعوة للميريتوقراطية



لم يَعتبر هنري بيلي ”ستيندال“ نفسهُ روائياً قطّ، حتى إن روايتهُ مرّت مرورَ الكرام، في تلك الفترة، أي في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، لم تكن الرواية أحسن الأجناس الأدبية للتعبير عن فكرٍ وفلسفةٍ ورأيٍ ما. 
كانت تعتبر جنساً بعيداً عن الوضوح والعقلانية، لم يكن الوحيد الذي لم ينل حصّته من العرفان، إنما معظم الروائيين في تلك الفترة بفرنسا.  رواية الأحمر والأسود، عبارة عن سرد أحداث بين 1827 و 1830، هي مرآة للأحداث السياسية والاجتماعية في تلك الفترة. 
الأحمر يمثل كل ما هو قوة وسيطرة وسلطة، أما الأسود فهي الكنيسة والأخلاق والطيبة. عالمين متباريين، أو لنقل أنه انتقال فرنسا من مرحلةٍ إلى أخرى، من مجدِ نابليون، إلى حكم الباباوات والدين في القرن التاسع عشر.
رواية ستيندال اعتمدت على فيلسوف واحد تقريباً، نستطيع القول أنها متأثرة بفكر جون جاك روسو، لم يُخفي المؤلف ذلك، فقد اعتمد كثيراً على أقواله في كل أحداث الرواية. 
تروي أن هناك رجل بسيط يدعى جوليان سوريل، الذي شغل منصب مدرس أطفال لعائلة غنية في المحافظة، استطاع أن يوقع الأم ”دورينال“ في حبه، ووقعت بينهم علاقة محرّمة. تلك العلاقة فجّرت حسد وغيرة كل تلك المحافظة، ما جعله يرغب في الابتعاد، بل والعمل جاهدا على أن يصبح قسيساً.
رغم خلفيته الاجتماعية وطبقته البسيطة، رغم تواضع عائلته، إلا أنه كان رجلاً مثقفاً جداً، والأهم من ذلك، كان متحكما باللاتينية بشكل كبير جداً، وكان ذلك مفصلياً جداً في مستقبله القريب.
تلك المعرفة هي الأخرى أثارت حسد زملائه، زيادةً على أنه شديد الذكاء، متعال وغير متعاطف..، ثقافته الدينية وعلمه باللاتينية جعلته مقرباً عند القساوسة.  
نستطيع القول أن جوليان رجل واقعي ماكيافيلي وبراغماتي، فقد وضع كل محاسنه المعنوية في خدمة أهدافه، لكنه في نفس الوقت حساس جداً، وكلما أغرى امرأة وقع في حبها. طموحه كان بكسب مكانة تثأر له عن كونه مجرد خادم لعائلة ثرية،  وقد وجد في الآب بيرار مساعداً قوياً له،  جعله حافظ أسراره، متنقلا معه في الأماكن الارستقراطية الراقية في باريس.  تأثر بذلك العالم كثيراً، وأصبح يشبههم تماما، عالم يجذبه، لكنه يثير استياءه أكثر من شيء آخر. فقد كان يعشر برفض الآرستقراطيين الشباب له، بل ويشعر بسخريتهم أيضا، لمعرفتهم بأصوله، ولشكله وأسلوبه المنغلق.
استطاع رغم ذلك اثارة شغف وحب ابنة الماركراف -منصب عسكري-، فوُلدَ له صبيّ منها، وقد كان ذلك لكي يزخر بقرابة النبلاء، وأخذ شهادة ضابط، وليس حباً فيها. 
هذه الحياة ولدت غضباً للأم -حبيبته الاول السيدة دورينال- فراسلت الماركراف، وأخبرته أن جوليان رجل طموح فحسب، كاذب ومناور، مستعد لتوسل كل الطرق من أجل شهواته ورغباته. فعندما سمع جوليا بذلك، عاد إليه وحاول قتلها، لكنه أصابها فقط، وهي كذلك، اعترفت له بأنها ما زالت تحبه.. الحب الذي كان متبادلاً بحق. -تفادياً لحرق النهاية سأتوقف هنا-
هذا الكتاب فتح عدّة قضايا سياسية وفلسفية، ربما سيد القضايا هو الميريتوقراطيا، او ما يسمى حكم الأكثر أحقية، في زمن بين فترتين، لم تكن فرنسا تعترف بهذه الفلسفة السياسية، هناك من يولد نبيلاً، ومن يتربى قسيساً، وهناك من يولد فقيراً بسيطاً، لا فرصة له في الارتقاء اجتماعياً. 
كانت فترة نابليون بونابارت، هي القوسين اللذان اقتحما هذا العالم، فقد كان نابليون نفسه ميريتوقراطيا، وقد مرّ بذلك فعلاً، ارتقى في كل الرتب إلى أن أصبح إمبراطوراً. 
وبين من كانوا مدافعين عن حكم الكنيسة والأخلاق الدينية والأرستقراطية النبيلة، والليبراليين الذين يقدّمون البرلمان والحوار على كل شيء، الميريتوقراطيين، المدافعين عن تساوي الحقوق، يرسم ستيندال قصة جوليان الذي أراد أن يدافع عن حقه في الصعود الإجتماعي.
دافع ستيندال بقوة عن الليبرالية، إمبراطوري، نابليوني حتى النخاع. جوليان صورة للشباب الرومنسيبن الذين يسعون لتحقيق أهدافهم مهما كلف الأمر.
الإمبراطورية النابليونية في فترة حكمه، عطّلت حكم النبلاء والارستقراطيين، وأعطت نفساً جديدا للشباب لكي يطمحوا لتقلّد المناصب والعمل على أهداف تتجاوز ما رُسم لهم.
رواية ستيندال تعكس الإرادية السياسية والنفسية للشباب، السياسة في بلوغ المناصب، والنفس في تغذية شغف الوصول.
التراجيديا حسب ستيندال، هي أن الميريتوقراطية مجرد حلم، نظام سياسي مستحيل أن يتحقق.

المقال 247
#عمادالدين_زناف

الخميس، 16 ديسمبر 2021

رحلة بين العالمين، ألكسي دي توكفيل



ألكسي دي توكفيل، رحلة من العالم القديم إلى العالم الجديد. 

"عندما أفكر في عواطف الناس الصغيرة في أيامنا هذه، في حزن أخلاقهم، مدى سعة نورهم، طهارة دينهم، لطف معنوياتهم وأخلاقهم، وكذا عاداتهم الفظيعة، لا أخشى أن يلتقوا بزعماء متسلّطين بل بأساتذة، أرى حشداً لا حصر له من الرجال المتشابهين والمتساوين، الذين ينقلبون على أنفسهم دون أن يشعروا بمتعة صغيرة ومبتذلة في ملءِ أرواحهم، وفوق هذا يرتفع إليهم من يهتم بمفرده بضمان غضبهم ومراقبة مصائرهم. تلك القوة المطلقة والتفصيلية والمنتظمة واللطيفة، تشبه السلطة الأبوية التي إذا كانت مثلها (مثل سلطة الأب) تُعِد الأفراد لسن الرشد، ولكنها تفعل عكسَ ذلك، فهي تسعى فقط إلى إصلاحهم بشكل رجعي في طفولتهم، فهو تُحب تجديد شباب المواطنين، لأنها تعلمُ أنهم يريدون فقط أن يفرحوا."، "المساواة هيئت الرجال لكل هذه الأمور، بل وهيئتهم للمعناة، والنظر لهذه المعاناة على انها أمر جيّد."
كانت لدى ألكسي نظرة مستقبلية في محلها بالنسبة للسياسة الغربية العامة، وقد تضمّ كتابه (الديموقراطية في أمريكا) كل تلك النظرة المُقارنة لفرنسا التي تركها، مع شمال أمريكا وصولاً الى كيباك وقبائل السكان الأصليين، كان يرى نشأة بلد لم يتعدا عدد سكانه الاثني عشر مليون نسمة، بينما تخطّت فرنسا آنذاك حاجز الخمسة وثلاثون مليون نسمة، وهذا سنة 1830م.
رحلة ألكسي لم تكن عن عبث، راحَ يدرس الطريقة الأمريكية الجديدة في العمل السياسي الديموقراطي، بلد ناشئ على ثوابت مُغايرة لما كانت عليه اوروبا في تلك الحقبة، بقي مع صديقه غوستاف في أمريكا عشرة أشهر، لم يكن هناك كسائح، او كمتابع لعادات وتقاليد الناس هناك، لكنه ذهب كعالم اجتماع، يدرس الاختلافات الجذرية العميقة بين العالم القديم، والعالم الجديد الذي سيقود العالم. 
نشأ ألكسي في مقاطعة توكفيل في نورموندي الفرنسية، من عائلة ثرية وعريقة وتابعة للمَلكية، ولد سنة 1805 في المرحلة الامبراطورية الاولى لفرنسا، كان الابن الثالث غير المرغوب فيه من أمه، لأنه رأت فيه انه مُتوحّد وقد يكونُ شاذاً أيضا، وكانت تقول ساخرةً أنه قد يصبح يوماً امبراطوراً. كما هو مُوضّح، لم تكن الامبراطورية مرحباً بها في العائلة، وقد نُفي أباه الى انجلترا. 
درسَ في كلية الحقوق، في سنة 1827م، وُليّ قاضيا في محاكم فارساي وهو في سن الثانية والعشرين، وفي هذه المرحلة تعرّف بصديقه غوستاف، الذي شاركه رحلته الى أمريكا.
الأجواء السياسية لم تكن تشجّع "المَلكيّين" على البقاء في فرنسا، فقد كانت تلك الرحلة فرصة للابتعاد قليلاً. لكنّه طلب من المسؤولين أن يعطونه منحة للتحقيق والدراسة في أمريكا، فقد استطاع ان يقنعهم بانه يريد معرفة "ما يخطط" له الأمريكيون و"يستخبر" تحركاتهم، الأمر الذي نجح. في طريقهم الى امريكا، وفي تلك الساعات الطوال في الباخرة الكبيرة، استغلا ذلك الفراغ في القراءة، 
حيث طالعا كتب جورج باتيست سيه في الاقتصاد السياسي.
استقرا في بداية الأمر في برودواي بمنحة عائلية، أوّل ردّة فعل لألكسي كانت شديدة النّقد والانكار، هذا ما كتبهُ في 14 ماي 1831م "ها نحنُ إذا في نيويورك !، شكلُ المدينة غريب جداً بالنسبة لفرنسيّ، بمعنى آخر هي غير مريحة. لا كآبة، لا سنّارات صيد، كأننا في ضاحية ما، داخل المدينة مصنوع بالطوب، شكلها رتيبٌ جداً. لا يوجد في المنازل افريز، ولا دَربزين، الطُرق غير مستوية، لكنها مليئة بالأرصفة للمترجّلين". نيويورك لا تشبه فرنسا تماما، لا في عاداتها ولا تقاليدها اليومية، يقول ان الأمريكيين يأكلون أشياء عديدة، ويلقون في امعاهم أموراً غريبة. 
وصف حالة النساء والحرية التي يتمتعون بها قبل الزواج، تلتقي وتتعرف بالرجال بشكل عادي، لكن بعد الزواج ينقلب الأمر، وهذا بحكم الديانة التي يطبّقونها. التديّن الواضح عند للأمريكيين أثار انتهباه ألكسي، كان يراهم كطائفة بروتستنتية متشددة، الأمريكي يركّز كثيراً على مصلحته من العمل الذي يقوم به، وليس فقط العمل دون مساءلة. انه مجتمع واضح جداً ويعلم ماذا يُريد. 
كان مستغربا أيضا من انعدام شغف المواطنين هناك بالسياسة، مقارنا ذلك بفرنسا التي كانت تمر بأكبر أزماتها السياسية، كان مستغربا من التحضّر عند الأمريكيين، خاصة عندما حضر ذكرى عيد استقلالهم يوم 4 جويلية 1831 في ألبانيي عاصمة نيويورك. شعر عندئذ بالانتماء والروح الوطنية غير العادية عندهم، وقد دوّن كل ذلك ليدرسه بشكل مُعمّق.
عندما تم دعوته لزيارة مؤسسة ترعى أصحاب الجنح لأقل من ستة عشر سنة، قال إن هؤلاء يعيشون مثلنا تماما. 
عمل المساجين أيضاً لم يتركه دون استغراب، وقد دوّن ان هذا النوع من الأفكار يستحيل ان تنتقل الى فرنسا، أما فكرة الزنازين فقد أعجبته، لأن السجون في فرنسا كانت في قاعات كبيرة تجمع كل المساجين. 
التقى بالسُّكان الأصليين لأمريكا، معتقاُ أنه سيقابل متوحّشين على رؤوسهم ريش، ولم يكونوا كذلك، بل كانوا متحضّرين ومختلطين مع الغرب الأمريكي، ولا تجد لديهم لباس مختلف عن الآخرين الا في تفاصيل صغيرة.  
أرسل نفسه الى ما أسماه " خمس عشر يوماً في الصحراء"، أين اصطدم بهنود حمر، بحيث تركهم يقودونه الى حيث شاءوا، وتصارع فيها مع دبّ هائج، الى غيرها من الأحداث البعيدة عن الحضارة. راحَ يدافع عن حقوق الهنود الحُمر بعد ذلك في عدة مواقف. قال إنهم ليسوا لهذه الحضارة، بل هي تقتلهم. 
وصل كندا واكتشف أن في كيباك العديد من الفرنسيين الذين حافظوا على التقاليد الفرنسية الأصيلة، وقد كان ذلك مريحا بالنسبة له، فقد استعاد توازنه بمرافقتهم تلك الفترة.  غادروا بعدها الى بالسيلفانيا، الى المجتمع الراقي هناك، أين كانت العبودية هناك قد انتهى عهدها، لكنها بقيت تتميز بالتمييز العنصري الذي أثار حفيظة ألكسي دي توكفيل. 
أواخر نوفمبر رحلوا الى سانتسناتي في أوهايو، أين وقعت لهم عدة مشاكل وقد تم انقاذهم منها، يقول الكسي انها أحدث مدينة شاهدها في حياته، فقد كانت مكسوّة بالأشجار والغابات الى عهد قريب.. هي لا تًشبه ما نعلمه عنها، هي مدينة تشبه المصنع المفتوح. 
 16 جانفي 1832 حطّوا بواشنطن، تم دعوتهم لحفلة على شرفهم من سفير فرنسا هناك، الذي بدوره قدّمهم للرئيس جاكسون أندريو، عادوا بعدها الى نيويورك في فيفري من نفس السنة. 
عدد النسخ الأولى من كتابه (الديموقراطية في أمريكا) لم تتجاوزالـ500. كان كتاب عبارة عن دراسة ووصف دقيق لكل التفاصيل، وضع المقارنات، وفي بعض الأشياء، يضع قصصاً قريبة من الرواية داخل كل هذا العمل. 
 تميّز الكسي بنظرياته السياسية من رحلته لأمريكا، عكس العديد من الكتاب والروائيين والمفكرين والسياسيون الذين كانوا منبهرين ومكتشفين أكثر من دارسين. كان هدفه هو الذهاب الى أبعد نقطة في أمريكا واكتشاف الخبايا. أراد ان يرى ما سوف تكون عليه الولايات المتحدة قبل أن تكون! أي أن يرى البلد الذي سيسيطر على العالم، فقد توقّع ذلك وأضاف الى أمريكا روسيا! في سابقة عبقرية. 
حياة الفيلسوف معقّدة وفيها الكثير من التفاصيل المثيرة، فقد عانى كثيرا من عائلته ومن نزواته أيضاً، الى ان أحب امرأة انجليزية تُدعى ماري، وقد قام بعدة أمور كي يتزوج بها، وعندما شعر باستحالة ذلك، لأنه كان سيُحرم من الإرث من عائلته، وكما نعلم، فان أبناء الأثرياء لا يملكون صنعة معينة غير ما درسوا او الكتابة، وقد كان هذا دافعاً آخراً له كي يسافر لأمريكا. 
كان يريد ان يكون مثل قريبه 'عمّه' بالقرابة العائلية الكاتب والروائي المشهور شاتنوبريون، أراد أن يصبح كاتبا ويقتات بهذه الصّنعة، كي يستطيع ان يتزوّج بماري. 

المقال 245
#عمادالدين_زناف

الأحد، 12 ديسمبر 2021

الفرق بين الغليون والغليون


هذا ليس بـغَليون. 

هكذا عنونَ الفنان التشكيلي البلجيكي رينيه ماغريت لوحته الفنية، والتي رسم فيها غَليون، وقال أنه ليس بغليون، فما الرسالة التي أراد ان يوصلها من خلال هذا؟
هو محقّ، ليس بغليون حقيقي، لا نستطيع أن نضع التبغ فيه ونشعله ثم نُدخّنه، لكنه يُمثّل الغليون، يرمز له، يُصوّره من زاوية. وهذا يعني أن كل ما يُمثّل شيئاً معيّناً، يبقى وبدرجة عالية جداً لا يطابقهُ، هو منفصل عنه، إذ يفتقر لكلّ العوامل الأساسية للشيء الأصليّ، صورة الإنسان والحيوان والطبيعة والأشياء والآلات، لا تُمثّل الا الصورة فقط، ولا يمكنها أن تعوّض أو توضع محل ما مثًلته! قد يبدو هذا بديهياً، لكن فكّر للحظات تلك الحوادث التي مررنا بها، وقد كنا مصدّقين أن الصورة هي نفسها المصنوع والمخلوق، تلك اللحظات التي استثير فيها غضبنا، أو زادت فيعا سعادتنا، بلوحة مجمّدة في بعدٍ واحد، على خشب أو ورق أو خلف الشاشات الزجاجية.

رسالة مارغريت تتلخص في أن على الإنسان أن يُفرّق بين التمثيل والمُمَثَّل به، لأن الدمج بينهما، على أنهما واحد، يُحرّك استثارات ومشاعر ما كان لها أن تستيقظ.

التشبيه بالشيء، يحدث كثيراً في المدارس التشكيلية، من الجدية إلى الهزلية إلى الرمزية والمشوهة، إذا كان الغرض هو رسمة طبق الأصل للجسم، فلن يكون من حقيقة الصورة إلا زاوية ضيقة واحدة، دون روح [للكائن الحي] ولا تفاصيل جامعة لأبعاده، ما يجعله غير مطابق للأصليّ ولا يمثل إلا نسبة ضئيلةً منه. أما التشويهي والهزلي والرمزي، فهو قطعاً لا يمثل شيئاً منهُ، بل وقد يأتي برسالة تعاكس جوهر الجسم، وهذا نوع فيه دعاية لأغراض معينة، لا يحذب أن تؤخذه بمحمل الجد نهائيا. لأن ما هو مرسوم لا يمثل ولا مِعشار جزء من الأصل.

ما يِميّز البشر هو العقل، والعقل [الوعي] يفصل بين المُتشابهات، ولا يزن المتشابهات بنفس الميزان، والصورة [الحركة المجمّدة في بعد واحد] صمّاء، كتومة، ظالمة، بحُكم أنها تقص أهم ما يجب أن يُلازم المُصوَّر من المخلوقات.

عمادالدين_زناف

الجمعة، 10 ديسمبر 2021

فشل العلماء آخر سنتين



بعد سماعي لحوار طويل للعالم الفيزيائي الفرنسي إتيان كلاين، شدّني كثيراً حديثه عن آخر سنتين والأحداث التي مررنا بها. آخر سنتين كانتا نقطة تحوّل حقيقي في منظرونا للعلم بشكل عام، وللتعميم العلمي بشكل خاص، في الحقيقة، يُعتبر إتيان كلاين من أهم العلماء المعممين للفيزياء في الأوساط الفرنسية والأوروبية. تحدّث إتيان عن حاوره مع صديق له، أكسل كان، عالم مثله، كان في آخر مراحل مرضه ولم يكتشف ذلك أبداً، فقد كان يعيش بشكل عادي، بل انّ سرعته في المشي كانت تفوق معدّل سرعة مشي الانسان العادي (المكتمل صحياً). كان موضوع حديثهما هو العلم والأبحاث العلمية في آخر سنيتن، فقد عبّر له عن قلقه العميق مما حدث ويحدث، وقد قال لهُ: إتيان، قد أفسدنا كل شيء نحنُ العُلماء! والسؤال الذي بقي يصول ويجول فيعقل إتيان هو، هل هو محقّ؟ 
 السؤال الذي وجبَ ان يُطرح، ابّان هذه الأزمة الصحيّة، هل أخطأ العلماء في العملية البيداغوجية للتعميم العلمي، التي كانوا مُطالبين بها، علينا التذكير بأن هناك نوعين من التعميم، هناك ما هو ثقافي، وهناك ما هو واجب، أي شرح الوضع الراهن للشعوب، لتبرير أي خطوة استشفائية أو سياسية أو اقتصادية. العلم الشعبي قاعدة أساسية للتواصل بين العلماء والشعوب، خاصة في الظروف الحرجة. الأسلوب السائد الذي كان يراه ويتبنّاه إتيان في التعميم هو الأسلوب الكلاسيكي المعروف، تأليف كُتب في المجال، كتابة مقالات، تقديم مُحاضرات بيداغوجية، وقد أثمر هذا في ادخال العديد من الناس في مجال البحث العلمي. لكن، ومع نجاح التعميم، يبدو ان هناك فخّ بدأ يتنامى شيئاً فشيء، وهو الانحياز التأكيدي، يقول اتيان: مُشكلة التعميم، إذا أردنا تسمية هذا هكذا، هو انه لا يؤثّر ولا يصل الا للذين يميلون أصلاً للعلوم، للمهتمين حقاً بها، وهذا ما شكّل نقطة تصادم في هذا الظرف، أي آخر سنيتن، لأن مُعظم الناس لا يهتمون بالشؤون العلمية، ودفعةً واحدة تغيّر الأمر بشكل سريع جدا، ولم يسمح ذلك للعلماء بتطوير بيداغوجية جديدة في تعميم العلم.  هناك شيء آخر يمكن تسميته بانحياز النجاة، أي أن المُعمّم لا يلامس الا الذين لم يتعرضوا لصدمات نفسية في المواد العلمية والمعرفية، صدمات جعلتهم يفرّون من العلم، مع اقتناعهم العميق بأن العلوم ليست لهم وليست ميدانهم وليست موجهة لهم. العالم يعمل على تفكيك المعلومة ثم يُعيد تركيبها بطريقة تجعل العامّي قادراً على استيعابها، عن طريق بناء استراتيجية تتأقلم مع محيطه ولغته ومستوى المتلقين. القاعدة الأساسية في التعليم هو الوقت، إذا لم يَكن المتلقّي مستعداً للجلوس لمدة معيّنة من الزمن، مثل قراءة مقال طويل، أو محاضرة تفوق الساعة ونصف، أو كتاب من مائتي صفحة، فلن ينجح معه الأسلوب العلمي، ولا التعميم العلمي. فهو يرى نفسه غير معنيّ. 
المُعمّم الذي يتأقلم بشكل كبير جدا مبالغ فيه مع الشعبوية، ويحصر المعلومات الكبير في دقيقتين، يقع فيما يُسمّى بسلطة الحجّة، أي أنك تجمع الحجج بشكل يجعل السامع أنه مضطرّ بأن يفهم تلك القضية بذلك الشكل، فالتكثيف يستدعي استعمال مصطلحات جامعة لعدّة معاني، تلك المعاني التي يجب ان تُفصّل! 
التكثيف الذي وقع فيه العلماء، أوقعهم في الانحياز المعرفي، والانحياز التأكيدي، وسلطة الحجة في الآن معاً، ولم يعد التعميم في هذه الحالة أمراً يساعد المتلقّي، بل يوجّههُ لاختيار مفهوم عن آخر. قبل التفكير فيما يجب فعله، علينا أن نعلم ما حدث، طريقة طرح العلم والأبحاث في ملف واحد قد أفسدت العديد من الأمور، ودليل هذا أن هناك دراسة لدانيال كوهان، أوضحت أن في فرنسا، نسبة الثقة في كلام العلماء قد نزلت بشكل كبير في بضعة أشهر فقط (حوالي عشرين نقطة عن المعدل المعروف). 
يقول ايتيان، كانت لدينا فرصة ذهبية لعمل بيداغوجي مُميّز في هذه الفترة، مع هذه الشراهة للمعرفة التي عرفها العالم، سواءً بدافع الخوف، او لسعة الوقت في مراحل الحجر، لكننا أضعناها كلياً بالصراعات الشخصية وتضارب المعلومات والسرعة في الحديث عنها.  كان علينا أن نشرح للناس طبيعة كل علم، وطريقة الوصول الى المعلومة حسب العلم، فليست نفسها طرق تعميم الفيزياء والطب، كما هو حال علم الاجتماع والنفس والتاريخ. الى حد الآن، لا علم معظم الناس ما هو تأثير بلاسيبو في الطب، كذلك ما هو تأثير التجربة المكرّرة العمياء. لا يعلم الناس الفرق بين الصدفة والعلاقة والسببية، ثم نلقي لهم معلومات بغير وعاء يحتويها. 
وضعنا حوارات علمية لعامّة الناس، وكان جزءا منها يميل الى العاطفة والشعبوية في قالب علمي، مما جعل القضية من علمية الى تشجيعات جماهرية لعالم ضد آخر، أو علم ضد منظمة، وهذا قد شوّش كثيرا على عملية التوضيح، وأدخل في نفوس العامة "مجدّداً" الشك فيما يتم قوله ونشره، حيث أصبح "تضارب المصالح" هو المصطلح الأكثر شيوعاً بين الألسنة، برد أن كل من يتكلم من العلماء يحمل مصالحاً حكومية أو مع شركات معينة تسوق لأشياء معينة. 
في الأخير، الأمر الذي اختلط على الجميع آخر سنيتن، هو البحث العلمي والعلم في ذاته، هناك أموراً قد تم الإجابة عنها علنيا وليس محلّ بحث علمي، وهناك أمور قيد البحث، بينما يضعنا خلط الملفات هذا في أزمة ترتيب الأوراق أولا قبل الشروع في شرح ما يحدث. 
ان الاعلام والناس بشكل عام، يحبون الذي عندما يتم طرح أسئلة عليه، يُجيب حالاً، أو أنه يظهر على أنه يملك كل الأجوبة. أما العالم الذي يقول لا أعلم، أو لا نعلم بعد، أو الامر قيد الدراسة، فلن يتم محاورته مجدداً، لأنه لا يروي عطشهم، فعلينا معرفة ان العلم ليس مادة لصناعة الجدل.

#عمادالدين_زناف 
المقال 244

الأحد، 5 ديسمبر 2021

مولد الدولة.. السياسة والفلسفة



السياسة والفلسفة.

                                    توطئة.                                  

السياسة
يعود أصل مُصطلح السياسة Politics في الأصل هو فن إدارة المدينة، أصل الكلمة من Polis أي المدينة عند الاغريق، ففن ادارة المدينة هو أساس السياسة، الانسان السياسي homo politicus هو من يصنع علم يجمع بين الإدارة والفن والبلاغة والتدوين والمراقبة والعديد من الفروع الأخرى. ما صنع هذا الشيء هو التزايد الديموغرافي، أي تطوّر الشعوب من القبائل الى دولة المدينة الى دولة تجمع عدة مُدن الى الامبراطوريات وصولا الى الدولة القُطريّة، وبما في ذلك شعوبها واختلاف ثقافاتهم ومعتقداتهم وحاجياتهم. العمل السياسي يعود الى الحضارات القديمة، لكن التنظيم السياسي، وصناعة العلوم المتعلقة بالسياسة لم يبدأ الى مع الفكرة الاغريقي المُستمد من تعالم مصر القديمة، والذي عرف تطوّراً هائلا ابّان العصر الروماني بكل مراحله "الملكي والجمهوري". 
الفكر السياسي.
مع بروز الحضارات، عرفت كل واحدة منها فكراً سياسيا مختلفاً عن الآخر، فهناك حضارات قامت على فكر ميتافيزيقيّ، وبهذا فان سياسة تلك الحضارة خضعت لهذا المنشأ، وهناك حضارات قامت على أسس ماديّة، بكل فروع الفكر المادي (مثل الأعراق والطبقات الاجتماعية)، وهناك من قامت على أسس دينية، وبهذا تعمل على سياسة توحيد الكلمة على أساس دينيّ، ودول أخرى قامت على أسس تاريخية ثقافية. وبهذا، فان الحضارة أو الدولة القُطرية تعود في سياستها دائما الى سبب النشأة، أو جذور نشأتها. 
خلفيات الفكر السياسي.
تعود الفكرة السياسة العامة كما أشرت الى جذور أو مسببات بروز تلك الدولة، فالمسببات الأولى تُلاحق سياسة الدولة في كل سياستها الداخلية والخارجية، فبالنسبة للإمبراطوريات في العصور الوسطى على سبيل المثال، فقد قامت جلها على أساس طَبقي وعرقي بغلاف ديني، هذا الفكر السياسي يدفع دائما الى التوسّع على حساب الآخر (الذي يرى أن الآخر أدنى منه في كل شيء)، وهذا الفكر يعمل على فكرة فرض الخير واقصاء الشّر، والخير والشّر في ظل هذا النظام، هو حسب ما يراه الحُكام وصنّاع تلك السياسة، وليس يعتمد على أفكار الخير والشرّ العامّة (الغريزية). 

                               صدر الموضوع                          .

ما وراء الخلفيات السياسة، من يصنع الفكر؟ 
لكل سياسة فلسفة خاصّة، ولكل فلسفة سياستها في التطبيق، كما أشرت في التوطئة، فان السياسة قائمة على أسس قيام الدولة أو الإمبراطورية أو الحضارة، قائمة أيضا على ظروف وزمن تلك النشأة، أي أن مع بروز كل دولة، هناك فلسفة سياسة طاغية في ذلك الزمن، وان تلك الدولة أو الإمبراطورية ستقوم على فعل أمرين لا ثالث لهما، اما الاتحاد مع الفلسفة العامة للعلاقات الدولية السياسية، أو القدوم بفلسفة سياسة جديدة، أي، فرض المنظور الخاص (الفكر السياسي، الفلسفة السياسية) على كل العالم. 
هناك سبيلين لفرض الفكر الدولة السياسي على العالم، اما بالقوّة الرادعة (السلاح والاقتصاد)، أو القوة النّاعمة (الدعاية والأفلام). لكن قبل هذا كلّه، من يقف وراء هذا البناء الفكري المُكتمل؟
صناعة الفلسفة وعرض البضاعة. 
وراء البناء الفكري للدولة رجل، قد يكونُ الملك ذاته، أو وزيراً، أو قاضياً، أو كاتبا لها، أو قد يكون مستشاراً. ولقد علمنا دور ريشارد بروس شيني –ديك شيني-، نائب رئيس الو.م.أ جورج والكر بوش، في كل الحروب التدخلات التي قادتها البلاد في فترة 2001 الى 2009. هذا الرجل الجمهوري كان وراء كل القرارات الحاسمة، رغم انه ليس هو صاحب السلطة العليا سياسيا، ولا عسكريا. كذلك الحال في كل العصور والحضارات، وراء سلطة بابل قانون ملكها حامورابي، من يناقش مصدر أحكامه؟ لا أحد. 
لم يكن الامبراطور ماركوس اوريليوس الا رجلا رواقي الفلسفة، فقد يكون مجرّد خادم لفكرة فلسفية تُعاكس ما يرغبه لذاته. 
ولو أخذنا الديانة النصرانية كفلسفة توسّع عند إمبراطوريات العصور الوسطى، لعلمنا أن فلسفة الكنيسة هي من كانت تقود السياسة العامة لأوروبا. وصولاً الى الفلاسفة المتنورين، فقد كان بناء الجمهورية الفرنسية (بالنار والحديد) نتاجاً لتراكم أفكار كل الفلاسفة الفرنسيين من ديمونتين مرورا بمونتيسكيو وباسكال وديكارت وفولتير الى غاية روسو الذي أصّل لكتاب صار هو انجيل السياسيين في تسيير سياسة المجتمعات وهو "العقد الاجتماعي". وقد عرفت ألمانيا (بروسيا سابقا) نفس الفكر للمرور بالعالم الى سياسة جديدة.
السياسة الحداثية وما بعد الحداثة في أوراق الكتب.
عندما كتب كارل فون كلاوزفيتز، الجنرال والمؤرخ، كتابه من الحرب، فلم يعلم حقيقةً أنّه قد أصّل لفلسفة عسكرية وسياسة ومنهج اداري أوسع من مجاله بكثير. فقد وضع أسسا لمتابعة الحرب بالسياسة، بعد نجاح أو فشل الحرب العسكرية. وقد ترك الرجل أفكاراً عميقة في عدة رؤساء صنعوا تاريخاً لهم.. مثل لينين، قائد الثورة البولشيفية، وايزنهاور، رئيس الو.م.أ. 
الجميع يعلم ان السياسة تعتمد على مجموعة من الأدمغة التي تعتني بتسيير أمور الاقتصاد بكل فروعه، والإدارة بكل فروعها أيضا، لكن يحدثُ ان يكتبُ شخصٌ واحد كتابا او عدّة كُتبٍ، ليقود لمرحلة سياسية وفلسفية جديدة، فمن لا يعرف كارل ماركس والتأصيل للماركسية، وآدم سميث والتأصيل للراسمالية، النيتشية والتأصيل للقوة (التي أخذت كمرجع للناز.ـيّـين والفاـ.شيين)، أو بردون الذي رسم الحركة الآناركية، فكلها سياسات لاقت رواجاً، وأثرت في كل الدولة الناشئة أيضاً، التي اختارت الموالاة عوض القدوم بفلسفة جديدة.
 صناعة الفلسفة قبل السياسة.
على الدول أن تصنع فلسفةً قبل أن تُطالب بالعمل السياسي، الانتخاب عمل سياسي يبدأ وينتهي في أقل من دقيقتين، أما التأصيل للفكر السياسي فقد يحتاج لعقود. ان العمل السياسي هو نهاية فكر وفلسفة سياسية، اما السياسة السياسية فهي مصالح ذاتية لا تعنى بالمصالح العامة، ولا لمستقبل كيان الدول. 
                                   خاتمة                                  
السياسة كائن زئبقي، لا نستطيع أن نلمسه ولا أن نخاطبه، السياسة نتاج أفكار وتوجهات، خاضعة لظروف واختيارات حاسمة، وما لم نستشعر أهمية ما يبني السياسة، فلن يُغيّر العمل السياسي شيئاً، ولن تُغيّر تلك الإرادة لبناء سياسة لامعة، دون علم وفلسفة متأصّلين.

#عمادالدين_زناف 
المقال 243