الخميس، 10 نوفمبر 2022

الأخلاق عند نيتشه


عودة للمواضيع الجديّة..  مقال مكثّف ومُهم جداً كمدخل لفهم مسألة الأخلاق في فلسفة نيتشه.

نيتشه الذي لا يزال يُفهم بطُرُق عشوائية، أو بالأحرى، يُفهَم سطحياً وبانحياز تأكيدي مُسبق عندَ القارئ والباحث. لفهم فلسفة نيتشه علينا أن نعرف أهم النواضيع التي تحدث عنها نيتشه، نذكر منها الإنسان الأعلى، العود الأبدي، العدمية، الأخلاق، أخلاق العبيد.. وغيرها، ثم نعرف بواعث الحديث عنها من خلال سيرته، ومن خلال تطوره الفكري. من المهم أن نتدرّج في فهم الفيلسوف، لأن الفيلسوف نفسه يتدرّج في بناء نظرياته.

اخترت اليوم الحديث عن الأخلاق، بزاوية جديدة، لكنها لا تعبر بشكل مباشر على خلاصة فكره، بل هي عبارة عن لمسات نيتشاوية.

_
الحقيقة أن الكثير من الناس لا يستطيعون فعلَ الشّر، لأن الشّر يحتاج فعلاً وإصراراً كي يصل المرء إلى ذروة مُبتغاه، لا قولاً فحسب، فمن أراد الشر واستطاع القيام به ولم يفعل، فذلك المتخلق، وأما من أراد ولم يستطع، فذلك أرخص الأشرار.  الشرّ يحتاج تخطيطاً وقلباً جلفاً وعقلاً مشبّعاً بفكرة أن الجميع وسيلة لإرضاء شهوة الذات. 

 فتجد العاجزين عن الشر، هؤلاء الرعديدون الجبناء، الحالمون بالشرّ، العاجزون عن فعله، يتكلمون بلسان الخَير، فذلك خيرٌ من لا شيء.  

لأن الحديث الخيّر يَصلُحُ كثيراً في توسيق صورة الذات عكس الحديث السيّء، إذا كان على المرء فعل شيء يصب في مصلحته الشخصية على حساب محيطه، فإن عليه سحق الآخرين في صمت تامّ، أما من لم يستطع، فعليه أن يعوّض جُبنَهُ وخبثهُ بلسانٍ رُطب، لينال رضا المُحيط إلى حين، وذلك أضعف المكاسب بالنسبة له؛   

 أما بالنسبة للمجتمعات، فإن الحديث في الخير يجعل من صاحبه إنسانا خيّراً طيباً مباشرةً، وقد يصبح نجمهم في الأخلاق والخير دون أن يلمسوا منه فعلاً حقيقياً.    أما فعلُ الشر، فيجب أن يمسّهم مسّاً حتى يصبح شراً حقيقياً، وإلا فسوف يكون ذلك الشر محلّ انتقادٍ في ألسنتهم، قصص تُحكى، ليجعلوا أنفسهم في مصفّ الأخيار في تلكَ الأخبار، إلى أن يحدث حدثٌ ليفصل في توجههم الباطن.   

 الحديث في الخير يغطّي فجوة إرادة الشّر المُبطنة، وعلى قول سينيكا: أن تمتنع عن فعل الشر، غير أن تكون عاجزاً عن فعله!. والحقيقة أن أهل الخير الحقيقيون غير متبجحون، أهل الخير هم الأقل شهرةً في هذا المجال، ذلك أن صاحب الخِيار المتجذّر والقناعة الراسخة لا يحتاج لإذاعة ذلك، الذي يحتاج لإذاعة خيراته مفتقرٌ للعِرفان لا أكثر، هو شخص لم يمدحهُ أبواه فراح يبحث عن مدائح الناس، كعقدة أبدية.

  ولا يتغذى المتخلّق بالمدائح عن شيء واجب في الأصل، نعم، أن لا تقوم بالشر هو واجب وليس خياراً. فالمتخلّق مكتفٍ بذاته، لا يريد بذلك إغاضة أحدٍ، فهو لا ينافس الفاسد. خيرهُ غير مُوجّه للشر، بل هو خيرٌ كامل، خلق قائم بذاته لا يأبه للشر كثيراً. 

الأخلاق والخيرات لم تُخلق لردّة الفعل، إنما هي أصل، والشر جاء ليعكّر ثبات ذلك الخير، فالشر هو ردّة فعل مستمرّة تحوم حول بؤبؤ الخير الأصيل.  إن الأخلاق، وإن كانت أساس العيش الكريم والحكيم، إلا أنها الأكثر عرضة للتشويه والصناعة المقلدة رديئة الجودة، يلبسُ ظاهر الأخلاق كل أخرق شرير، فلا أحد من الناس يسوّق لنفسه برداء الشر..

 وهذا ما جعل الأخلاق حديث الفلاسفة، فهم لم يختلفوا في جوهرها، بل في حواشيها ومقلديها ومدعيها، في من هو الأحق بها . وكيف يُعرّفها تعريفاً صحيحاً يتفق عليه الخلائق.

المقال 327
#عمادالدين_زناف 
_

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2022

الواقع والافتراض عند بودريار




«نحنُ في عصر تزدادُ فيه المعلومات أكثرَ فأكثر، بينما يصبح فيه المعنى أقل فأقلّ»
فلسفة المصفوفات، الواقع والافتراض.. عندَ جون بودريار.

«لأول وهلة، يظهر أن الإنترنت يخلق فضاءً ذهنياً حراً، فضاء للحرية والاكتشاف، بيد أنه لا يعرض في الواقع سوى فضاءً خطياً. فرائدُ الانترنت يتفاعل مع عناصر معروضة ومواقع جاهزة ورموز متواضع عليها»

هي لا تُسمى فلسفةً، أنا من أضافَ عليها هذا، وستعلمونَ لماذا. في الحقيقية، المصفوفة هي مجموعة من الأعداد مكتوبة بشكل مستطيل عموديّ، بلغة أشهر، تُسمى the Matrix أو la matrice. وهي غير محصورة في الأعداد فقط، بل في الرموز والحروف أيضاً.

لماذا تناولَ فيلم "ماتريكس" كِتاب الفيلسوف الفرنسي جون بودريار عندما أشار إليه في بداية الفيلم (Simulacres et Simulation)؟ ربما لأنه يشير إلى موضوع أعمق من الخيال العلمي الذي جاءَ به الفيلم، ورغم أن بودريار لم يوافق فكرة الفيلم التي ابتعدت عن مقصده الذي يرمي إلى ابتعاد البشر بشكل نهائي عن الواقع، أي أن وعي البشر سيصبحُ في عالم "ميتا"، ولن يكونَ لهم وعيٌ غير ذلك.

لكي نفهم فلسفته، علينا تقسيمها إلى بعض النقاط، وفي الأخير، سنجمعه في استنتاجٍ واحد. نحنُ في زمن الفائض المعرفي والمعلوماتي والإخبارين فائض لا يمكننا عقلنتُهُ، ولا فهمهٌ، ولا تحليلهُ. كثرة الأخبار وتتابعها تجعلُ منا كالبُلهٌ أمام الشاشات، لا نَصلُ بين الخبر والآخر، هي أرقام متتابعة، ذلك المزيج من الأشياء المُحزنة والمفرحة والتعيسة والمضحكة قد أماتت المشاعر الحقيقة التي يجب أن نقف عندها بعد كل شيء. تتابع المعلومات بشكل عموديّ سريع يُفقدها معناها بشكل كامل. الرموز، أو الرمزية، التشفير، الدلالة، الرقمنة، كلها مصطلحات ترمي إلى الاختصار والتحجيم.

«إن ما يرغب فيه الكل هو التحرر من السلطة وإعادة إنتاجها في ذات الوقت. أي العيش داخل جدلية موت/بقاء السلطة».

ما الذي يقصده بودريار بمُجتمع الرمزية؟
باختصار، يقصد أننا نشتري الرمزية لا المُحتوى. يمكنني أن أقف هثنا دون شرح، لأن خيال القارىء لوحده كفيل بحلبِ الأمثلة لوحدهِ، نحنُ نشتري علامة أديداس لا الحذاء عينه، نشتري علامة أيفون لا الهاتف، نشرتي الروايات لا محتوياتها، نشتري العلامات التجارية في كل شيء، ونعتقد أننا نصيب الاختيار، نقوم بما يلزم طول الوقت، حتى في مواقع التواصل، نتعامل مع الرمزيات، كل من لهُ إشارة نعتبره مُحقاً، دونَ وعي، عن ثقة بالعلامة، عن ثقة بالرمز، عن ثقة بالتشفير.

«يتم إنتاج الواقع إنطلاقاً من خلايا مصغّرة، من قوالب وذاكرات، يسمى فوق الواقع، وهو ليس محاكاة ولا تكرار ولا حتى مسخرة، بل المقصود هو استبدال الواقع برموز عنه»

إلى ماذا يقودنا التشفير والعلامة؟
يقودنا مباشرة إلى عالم المُحاكاة، فنحنُ الآن مهيؤون للمرحلة الثانية، بعد أن فقدنا قيمة المحتويات وعمقها، فقدنا أصل الأشياء ومعانيها، سنمرّ إلى العالم الموازي الذي سيعمل على ابعادنا نهائيا عن الواقع. من الذي سيُكذّبُ الآخر في عالم يعتمد على الصّور والمرئيات؟ لا أحد! الصورة هي الحقيقة الوحيدة التي يتبادلها البشر، بينما يعلم الجميع في لا وعيهم الجمعي أن الصورة يُتلاعبُ بها، وأن بيعَ الوهم فيها أسهل بملايين المرات من بيع الكلام في الواقع، لكن لا أحد يهتم، ذلك أن الجميع يتعامل بنفس الطريقة مع محيطه، فالجميع يوهم محيطه أنه نجمٌ في مجالهِ إذا ما اختار الصورة المناسبة في الوقت المناسب، الجميع يمكنهم ايهام محيطهم أنهم في مكان ما من هذه الأرض، دون حاجة لإثبات ذلك في الواقع، ذلك أن الصورة هي الواقع الوحيد بالنسبة لهم.
في عالم المُحاكاة، لا يوجد تيار سياسي، لا توجد أيديولوجية معينة، لا يوجد اختلاف، الجميع يعملون على صناعة صورة واحدة، ذلك أنهم يرونَ التفوق والنجاح من نافذة واحدة. لكن الذين يحرّكون هذه المحاكاة، يصنعون دائما تياراً وهمياً لمحاربته، لأن انتهاء الحروب بالنسبة للدول العظمى، يعني تآكلها داخلياً، فهم يصنعون العدوّ لكل مرحلة، لكي يتحجّجوا في كل مرة عن أسباب بقائهم.

«إننا نعيش لحظة إنقلاب تنقلنا من عصر الواقع إلى عصر موت الواقع»

الوهم عند بودريار، أن القالب يغلب المُحتوى، فعندما تشاهد متحفاً ما، تجد أن بناءه المعماري يتفوّق جمالاً عن كل اللوحات والأعمال التي بداخله، عندما ترى أغلفة الكُتب، تسيل لعابك من جمالها، لكن محتوياتها مٌفزعة في الخواء.
في عالم ماتريكس، عالم الأرقام، صرنا لا نسأل المارة والأحياء عن مكانٍ ما، نعتمد على هواتفنا ونصدق الافتراض عن الواقع والتجارب. طلّقنا الواقع بشكل شبه نهائي، لم نعد نثق فيه، ثقتنا أصبحت في العالم المُحاكي الذي كان يخشاهُ أفلاطون.
انتقد بودريار فيلم ماتريكس، لأنه أظهر أنه بإمكاننا الخروج من عالم ماتريكس، عالم الرموز والأعداد، وقد قال إن هذا لم يعد ممكنا.

«ولأن الواقع وهمٌ كامل فعلى كل مفكر أن يفضح الوهم..فالعالم هو ما يلزمه تحليل ذاته، والعالم هو الذي كشف لنا ذاته كوهم».

تكمن قوة هذا الفيلسوف أنه قال هذا في سنوات الثمانينات، وقض امتنع عن الإعلام قبل سنوات من وفاته (2007) لأنه جعلهم جميعا في قائمة السفهاء. فلسفة بودريار ديستوبية، لكن مع ذلك، وفي كتابه l’échange symbolique et la mort أشار بإمكانية "انفجار" كل هذا مع الإرادة القوية للبشر الذين يرفضون هذه القيود، فالإنسان يبقى غير مُتوقّع، فقد ينقلب على كل نظامه المعيشي.

المقال 326
#عمادالدين_زناف