التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الواقع والافتراض عند بودريار




«نحنُ في عصر تزدادُ فيه المعلومات أكثرَ فأكثر، بينما يصبح فيه المعنى أقل فأقلّ»
فلسفة المصفوفات، الواقع والافتراض.. عندَ جون بودريار.

«لأول وهلة، يظهر أن الإنترنت يخلق فضاءً ذهنياً حراً، فضاء للحرية والاكتشاف، بيد أنه لا يعرض في الواقع سوى فضاءً خطياً. فرائدُ الانترنت يتفاعل مع عناصر معروضة ومواقع جاهزة ورموز متواضع عليها»

هي لا تُسمى فلسفةً، أنا من أضافَ عليها هذا، وستعلمونَ لماذا. في الحقيقية، المصفوفة هي مجموعة من الأعداد مكتوبة بشكل مستطيل عموديّ، بلغة أشهر، تُسمى the Matrix أو la matrice. وهي غير محصورة في الأعداد فقط، بل في الرموز والحروف أيضاً.

لماذا تناولَ فيلم "ماتريكس" كِتاب الفيلسوف الفرنسي جون بودريار عندما أشار إليه في بداية الفيلم (Simulacres et Simulation)؟ ربما لأنه يشير إلى موضوع أعمق من الخيال العلمي الذي جاءَ به الفيلم، ورغم أن بودريار لم يوافق فكرة الفيلم التي ابتعدت عن مقصده الذي يرمي إلى ابتعاد البشر بشكل نهائي عن الواقع، أي أن وعي البشر سيصبحُ في عالم "ميتا"، ولن يكونَ لهم وعيٌ غير ذلك.

لكي نفهم فلسفته، علينا تقسيمها إلى بعض النقاط، وفي الأخير، سنجمعه في استنتاجٍ واحد. نحنُ في زمن الفائض المعرفي والمعلوماتي والإخبارين فائض لا يمكننا عقلنتُهُ، ولا فهمهٌ، ولا تحليلهُ. كثرة الأخبار وتتابعها تجعلُ منا كالبُلهٌ أمام الشاشات، لا نَصلُ بين الخبر والآخر، هي أرقام متتابعة، ذلك المزيج من الأشياء المُحزنة والمفرحة والتعيسة والمضحكة قد أماتت المشاعر الحقيقة التي يجب أن نقف عندها بعد كل شيء. تتابع المعلومات بشكل عموديّ سريع يُفقدها معناها بشكل كامل. الرموز، أو الرمزية، التشفير، الدلالة، الرقمنة، كلها مصطلحات ترمي إلى الاختصار والتحجيم.

«إن ما يرغب فيه الكل هو التحرر من السلطة وإعادة إنتاجها في ذات الوقت. أي العيش داخل جدلية موت/بقاء السلطة».

ما الذي يقصده بودريار بمُجتمع الرمزية؟
باختصار، يقصد أننا نشتري الرمزية لا المُحتوى. يمكنني أن أقف هثنا دون شرح، لأن خيال القارىء لوحده كفيل بحلبِ الأمثلة لوحدهِ، نحنُ نشتري علامة أديداس لا الحذاء عينه، نشتري علامة أيفون لا الهاتف، نشرتي الروايات لا محتوياتها، نشتري العلامات التجارية في كل شيء، ونعتقد أننا نصيب الاختيار، نقوم بما يلزم طول الوقت، حتى في مواقع التواصل، نتعامل مع الرمزيات، كل من لهُ إشارة نعتبره مُحقاً، دونَ وعي، عن ثقة بالعلامة، عن ثقة بالرمز، عن ثقة بالتشفير.

«يتم إنتاج الواقع إنطلاقاً من خلايا مصغّرة، من قوالب وذاكرات، يسمى فوق الواقع، وهو ليس محاكاة ولا تكرار ولا حتى مسخرة، بل المقصود هو استبدال الواقع برموز عنه»

إلى ماذا يقودنا التشفير والعلامة؟
يقودنا مباشرة إلى عالم المُحاكاة، فنحنُ الآن مهيؤون للمرحلة الثانية، بعد أن فقدنا قيمة المحتويات وعمقها، فقدنا أصل الأشياء ومعانيها، سنمرّ إلى العالم الموازي الذي سيعمل على ابعادنا نهائيا عن الواقع. من الذي سيُكذّبُ الآخر في عالم يعتمد على الصّور والمرئيات؟ لا أحد! الصورة هي الحقيقة الوحيدة التي يتبادلها البشر، بينما يعلم الجميع في لا وعيهم الجمعي أن الصورة يُتلاعبُ بها، وأن بيعَ الوهم فيها أسهل بملايين المرات من بيع الكلام في الواقع، لكن لا أحد يهتم، ذلك أن الجميع يتعامل بنفس الطريقة مع محيطه، فالجميع يوهم محيطه أنه نجمٌ في مجالهِ إذا ما اختار الصورة المناسبة في الوقت المناسب، الجميع يمكنهم ايهام محيطهم أنهم في مكان ما من هذه الأرض، دون حاجة لإثبات ذلك في الواقع، ذلك أن الصورة هي الواقع الوحيد بالنسبة لهم.
في عالم المُحاكاة، لا يوجد تيار سياسي، لا توجد أيديولوجية معينة، لا يوجد اختلاف، الجميع يعملون على صناعة صورة واحدة، ذلك أنهم يرونَ التفوق والنجاح من نافذة واحدة. لكن الذين يحرّكون هذه المحاكاة، يصنعون دائما تياراً وهمياً لمحاربته، لأن انتهاء الحروب بالنسبة للدول العظمى، يعني تآكلها داخلياً، فهم يصنعون العدوّ لكل مرحلة، لكي يتحجّجوا في كل مرة عن أسباب بقائهم.

«إننا نعيش لحظة إنقلاب تنقلنا من عصر الواقع إلى عصر موت الواقع»

الوهم عند بودريار، أن القالب يغلب المُحتوى، فعندما تشاهد متحفاً ما، تجد أن بناءه المعماري يتفوّق جمالاً عن كل اللوحات والأعمال التي بداخله، عندما ترى أغلفة الكُتب، تسيل لعابك من جمالها، لكن محتوياتها مٌفزعة في الخواء.
في عالم ماتريكس، عالم الأرقام، صرنا لا نسأل المارة والأحياء عن مكانٍ ما، نعتمد على هواتفنا ونصدق الافتراض عن الواقع والتجارب. طلّقنا الواقع بشكل شبه نهائي، لم نعد نثق فيه، ثقتنا أصبحت في العالم المُحاكي الذي كان يخشاهُ أفلاطون.
انتقد بودريار فيلم ماتريكس، لأنه أظهر أنه بإمكاننا الخروج من عالم ماتريكس، عالم الرموز والأعداد، وقد قال إن هذا لم يعد ممكنا.

«ولأن الواقع وهمٌ كامل فعلى كل مفكر أن يفضح الوهم..فالعالم هو ما يلزمه تحليل ذاته، والعالم هو الذي كشف لنا ذاته كوهم».

تكمن قوة هذا الفيلسوف أنه قال هذا في سنوات الثمانينات، وقض امتنع عن الإعلام قبل سنوات من وفاته (2007) لأنه جعلهم جميعا في قائمة السفهاء. فلسفة بودريار ديستوبية، لكن مع ذلك، وفي كتابه l’échange symbolique et la mort أشار بإمكانية "انفجار" كل هذا مع الإرادة القوية للبشر الذين يرفضون هذه القيود، فالإنسان يبقى غير مُتوقّع، فقد ينقلب على كل نظامه المعيشي.

المقال 326
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...