مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا.
مقال عماد الدين زناف.
فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا «إن الضعيف يجعل القوي مذنبًا لكونه قويًا» فقد وضّح هذا الآلية بشكل سهل، فالعاجزون عن كسر القيود الواقعية حوّلوها إلى قيود أخلاقية يدافعون عنها، وهذا لا يبتعد كثيرًا عن "السيمولاكر" الذي يعمل على تعويض الواقع بواقع آخر يحل محلّه.
مع مرور الزمن، أصبحت هذه الآلية دائرية، فما كان يُعاش أولًا كقيد صار يُتَبنّى كفخر، وأصبحت رمزيات العبودية تشكل رمزيات لوجود تاريخ في تلك المنطقة، فإذا نُسب عمل ما إلى تاريخ الوطن، سيُدافع عنه بفاعلية وعنف شديدين مهما كان فعلا بغيضًا.
تحدث نيتشه في كتابه جينيالوجيا الأخلاق عن «مكر العبيد»، أي قلبِ القِيم، إذ يصبح المقهورون هؤلاء هم الحراس الأشدّ حماسًا لعبوديتهم، لأنهم يجدون فيها معنى وهوية وتبريرًا لوجودهم هناك، ولا يكون قلب القيم إلا عندما يرى المرء نفسه عاجزا تماما على تبرير الإذلال الذي يعيشه، ولا الخروج منه، فيصنع لفعلته مصاغا. وهكذا، في المغرب الأقصى، ينتهي كثير من المواطنين إلى إدراك تبعيتهم للمخزن، لا كعائق، بل كشرط ضروري ونظام طبيعي لاستمرار "التاريخ" واستمرار "الاستقرار"، وإن كان استقرارا للذل والفقر والحرمان. لم تعد الخشية وحدها هي التي تُقيّدهم، بل العادة الأخلاقية، تلك الغريزة التي تحوّلت إلى عقيدة صلبة. وكما قال نيتشه: «الإنسان يفضل أن يريد العدم على ألّا يريد شيئًا على الإطلاق»، فحين يغيب الشعور بالقوة الذاتية، تُختار العبودية، لأنها تمنح على الأقل عزاءً في مكانٍ مُعيّن وسببا للوجود لمن لم يجد سببًا.
إن هذا الوضع المأساوي عند نيتشه يكمن في اعتبار "السلبية، اللا عمل" عبارة عن قيمة عُليا. فالجماهير تصير إلى كره مجرد احتمال وجود شيء يدعى "التحرر" لأنه يزعزع استقرارهم دون أن يضمن لهم أجرة أعلى من أجرة العبد، ولأنها تمثل قلقًا ثقيلًا ومسؤولية ساحقة لم يعتادوا عليها. إن المخزن لم يُخضع الأجساد فقط، بل أنتج «أخلاق العبيد» حيث تظهر التضحية بالنفس، والخضوع الطوعي، والدفاع عن الأسياد كطريق طبيعي للوجود والتكامل الوطني، فالعبد يقوم بدور العبودية على أكمل وجد، ليبقى الوطن جميلا مستقرا، والسيد يبقى سيدا، لتبقى صورة الوطن غير مخدوشة. كان نيتشه سيرى في ذلك انتصار العدمية والاستياء على الحياة، وكان ليرى هذا أنها حضارة ملتفة ضد قواها الحيوية، حيث يدافع الإنسان عن نفسه ضد جرأة إرادة القوة الكامنة فيه. وحين نُسقط هذا التحليل على التاريخ الملموس للمغرب الأقصى، يتضح الأمر أكثر، فالمخزن على مدى سنوات طوال كان آلة سلطة تحول التبعية المادية إلى طاعة سياسية وأخلاقية، على طريقة الحكم في القرون الوسطى، سلطة الزمان والمكان، سلكة السيف والخبز. فنظام الخمّاس مثلًا، حيث يحصل الفلاح على جزء ضئيل من المحصول مقابل عمله، كان شكلًا من أشكال الاستعباد الاقتصادي الذي حبس شعب الريفي في تبعية أبدية للمخزن، بالرغم من أنه شعب منقطع ثقافيا عن هذه الحياة. فنظرة نيتشه تقول إن العبد ينتهي إلى إضفاء قيمة روحية على معاناته، مفضلًا تقديس بؤسه بدلًا من تجاوزه، والذي نراه اليوم، هو إلقاء صورة هذا البؤس الذي يعانون منه على جيرانهم، ليتمكنوا من الضحك على أنفسهم، لأنهم لا يملكون القوة اللازمة للضحك على بؤسهم وهو فيهم.
ثم إنه في زمن الحماية ثم بعد الاستقلال، لم ينهَر هذا النموذج بل تحوّل إلى "زبونية سياسية"، حيث يقبل المواطن أن يبادل حريته بمنافع، بوظيفة، أو بريع صغير، ليصمت عما هو أهم، الخروج من جحيم حكم المخزن الوسيطي. هذا الأخير، عبر توزيعه وهيمنته، أتقن هذه الأخلاق العبدية التي زرعها في شعبه، كما يقول نيتشه: «لا يُبغَض الظلم بقدر ما يُبغَض من يريد تحريركم منه». فسكان المغرب الأقصى، المعتادون على هذا النظام، رفضوا ويرفضون من أراد القطع جذريًا مع الوضع القائم، ورأوهم كمزعزعين للتوازن المطمئن، حتى لو كان هذا التوازن ظالمًا، والذريعة هي الخوف من فقدان "التاريخ" وفقدان المكاسب المذلّة التي هم عليها.
بل إن تاريخ العبودية الملموسة في المغرب الأقصى يجسد هذا المنطق كله، فاستخدام العبيد السـ،ود (عبيد البخاريّ)، في القصور أو في الجيش، كان طويلًا، وكانت مؤسسة متسامح معها، بل ومُبرّرة دينيًا أو ثقافيًا وأخلاقيا. والشعب، بعيدًا عن مساءلة هذه اللامساواة، استبطنها بشكل تلقائي مع تزاوجهم معهم.
كتب نيتشه أن أخلاق العبيد تحول الممكن الذي يحتاج إلى مخاطرة إلى شيء محرَّم، إذ ما لا يُستطاع إلغاؤه يُقدَّس ويُبرَّر ويُدافع عنه. وهذا بالضبط ما حدث مع العبودية وتجلياتها الاجتماعية في المخيال الجمعي المغربي. وعند النظر إلى الزمن الطويل من الاستعباد الريفي وإلى شبكات الزبونية الحديثة، نرى أن المغاربة لم يكتفوا بتحمّل هيمنة المخزن فحسب، بل استدمجوها كإطار أخلاقي لتحمل هيمنة دول وجيوش أخرى. لقد أخذ الخضوع عندهم أشكالًا متعددة — دينية، اجتماعية، اقتصادية — وفي كل مرحلة كان يُدافع عنه من أولئك أنفسهم الذين يعانون منه. وكما يقول نيتشه: «ليست المعاناة هي المشكلة، بل المعنى الذي نعطيه للمعاناة». وهنا كان المعنى المفروض هو الوفاء، الصبر، والولاء للسيد، وهي قيم تحولت إلى ركائز وطنية واجتماعية.. وهي أقدس من الحياة الكريمة.
#عمادالدين_زناف #فلسفة #تاريخ #نيتشه
تعليقات
إرسال تعليق