الخميس، 30 يونيو 2022

حجة «رأي الأغلبية»



حُجّة الأكثريّة |   Argumentum ad populum

تُدعى كذلك حجّة الأشياء الأكثر شعبيّة، أو الدعوة للأكثريّة، أو سُلطة الغالبيّة، حجّة الرأي الغالب، وغيرها من التسميات والأوصاف التي تضعنا تماما في قلب أكبر المشاكل الاجتماعية والعلمية والدينية إذا أردت شمل الأمور المهمّة في حياة الفرد. 
وضعت فيديو في قناتي أين جمعتُ فيه أغلب الحجج الكاذبة التي "نستعملها" جميعاً، وفي الغالب دون دراية منا.  سأعرّج قبل الدخول في الموضوع عن قضيّة الحجّة والمحاجّة من الناحية المنطقية. الحجّة في الأصل هي حِيَل تربّينها عليها لتسهيل تعاملاتنا مع الناس، والخروج من الورطات أكثر من تبرير صحّة ما نقول. وغالباً، يتعلمها الطفل في المنزل من أحدِ الأبوين، فالكذب هو في الغالب عمليّة تكوين حجّة بشكل سريع للخروج من المأزق، وبشكل أوسع، هو محاولة إنقاذ الذات من الخطر، من خطر الموت بالمطلق.   فجسمنا يتعامل مع الأشياء والمحيط بشكل بدائي وقاعديّ، فمثلاً، يتدفّق هرمونا الأدرينالين والكورتيزول في الجسم عندما نتعرّض للخطر أو للقلق والتوتر المكثّف، ولا يفرّق العقل (النخامية الأمامية*، مركز الإشارة لتدفق الهرمونات) بين المزاح والحقيقة، ففرقعة كيس بلاستيكي ستسبّب نفس العمليّة الهرمونية التي تسبّبها طلقة رصاص حيّ قريبة منّا. كذلك، أسلوب النجاة بالذات من الخطر لا يتغيّر بين كذبةٍ بيضاء سخيفة، مثل القول بأنكَ لم تأكل التفاحة المتبقيّة في الثلاجة، وكذبة سوداء مجرمة، كالقول بأنك كنت تنصح الناس بالمخدرات لينسوا همومهم سريعاً. 
فعرفنا أن منطلق تكوين الحجّة لهو نفس المبعث، ألا وهو تبرير موقفك. فالمُحاور الجيّد ليس ذلك المتكلّم اللطيف والهادئ، بل هو الذي يتحكّم في طرق المحاجّة، حتى لو كانت حججه خاطئة، أو صحيحة لكن في غير محلها، كالاستدلال بآية ما في غير مكانها، ما يقال عنه (نعمَ الدليل، وبئس الاستدلال). والذي يتصدّر للمناقشة، يملك ثقة في أسلوبه في طرح الحجج، أكثر من الحجج نفسها، فأغلب من يفوزون بالمناظرات، هم أناس يسوقون الحديث إلى الأشياء التي يتحكّمون فيها. فتجد المُحاور ينقل الحديث إلى ميدانه دون أن يشعر خصمه، ويُسهب في الحديث، حتى يظنّ الطرف الثالث أنه يفحمه بالحجج. 
بعد أن تكلمت عن الحجة بشكل عام، أتكلم الآن عن حجّة يستعملها الأفراد حول أنفسهم أو حول غيرهم، ليبرّروا صِحّة ما يقولونه، بل ويجعلونه حجّةً في ذاته، فحجّة الأكثرية تُستعمل دائما، عندما يجد المرء نفسه محاصراً بالحقيقة التي لا يتبناها الغالبيّة، فيدفعه ذلك إلى بلوغ نقطة جودوين* سريعاً، بالقول أن الناس ليسوا على هذا، أجمع الغالبية على هذا الرأي، أجمعت الناس على صواب ذلك الإنسان، اتفق الجميع على صلاح ذلك الفرد، اتفق الجميع على فساد ذلك الفرد، الجميع يقوم بهذا الشيء، إنها العادات، إنها التقاليد، فكما يقول الشاعر*ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ، غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ، فالقول عند مستعمل هذه الحجّة هو قول الأغلبية، وهذا يسوقنا إلى مصائب كبيرة.
فقد يختار الناس الأمور الطيّبة، وهذا أمر حسن، فقد يختارون بالصدفة رجلاً حكيما ليقودهم إداريا وفكريا وعلميا، وفي غالب الأحيان لا يفعلون، ذلك أن التخصصات تحتاج متخصصين، وليس لرأي الغالبيّة، إلا إذا أزحنا موضوع الإمارة، الذي يُحتكم إليه بتصويت الأغلبية. 
حجة الشعبويّة هي سفسطة تُفسد كل الحوارات، وليس فيها نصيب من العلم، ذلك أن العلم والنص لا يحتكم للرأي، ولا ينساق للهوى، بل يعتمد على الصحيح، حتى لو خالفه كل من في الأرض، لكن المصالح تمنع رواج الصحيح إذا لم يتقبله الناس، فالإعلام وبعض صناع المحتوى في كل المجالات، لا يبحثون عن الحقيقة، بل يبحثون عما يُثير الأغلبية. عندما يكون الرأي الغالب هو مصدر مال وقوت، فلن يصبح للحق والعلم مكان، فإذا أصابوا شيئا من العلم، فاعلم أنه علم اتفق عليه غير المتعلمين، عن علم بصدقيّته، أو عن جهل بأنه ينافي ما يريدونه.  أصبحت الإشهاريات تعتمد هذه الحجة بطريقة فاضحة، فكل صحيفة تدّعي أنه الأولى في المبيعات، وكل عطر ولبس وأكل وآلة تدّعي شركاتهم أنهم الأكثر رواجا والأكثر اقتناءً واستعمالاً، فتسقط حفنة من الناس في ذلك التسويق الرخيص الناجح، وتلك الحفنة تجلب مجموعة، وتكبر كرة الثلج التي تتدحرج شيئا فشيء وهي تكبر وتكبر، وقد بدأت من كذبة سخيفة ساغت على الناس. 
والخطر الكبير يكمن في أن هناك أطباء وفقهاء ومفكرون، يستعملون حجة انهم متبوعون من نفر كبير من الناس، ليبرّوا صحة مسلكهم، ويُبرّر لهم ذلك بنفس الحجة، فالناس يقولون، انظروا! قارب فلان المليون متابع، كيف يكون مخطأ وهو مشهور هكذا!
أو يُقال، انظروا، هو متبوع إذا هو روائيّ رائع، إذا هو فيلسوف عظيم، إذا هو عالم مُعتبر، إذا هو مفتي قويم. ويتجاهل الكثير من الناس أن الرجال، في أي تخصص كان، يُعرفون باتباعهم الحق (والعلوم والحقائق)، وليس الحق هو من يتبعُ "شهرتهم وذيع صيتهم"! وهناك من يعتمد فوق هذا حجة التكرار حتى القيئ ARGUMENTUM AD NAUSEAM، وهو تكرار الشيء حتى يعتقد الناس أنه الحق المبين.
فاحذروا من حجة الرأي الغالب والشائع، فهي غالباً مسلك غير علمي، وكما يقول سبحانه وتعالى: أغلب الناس لا يعلمون، لا يفقهون، لا يعقلون.. 

___________________  

* تقوم النخامية الأمامية بعملها عن طريق إفراز عدد من الهرمونات والتي تقوم بدورها بالتأثير على الأعضاء الهدف كالكظر والغدة الدرقية والعظام والأقناد
* نقطة جودوين هي فكرة للصحفي مايك جودوين، صنعه ليشير إلى بعض الناس يريدون إنهاء الحديث بوصفك بشيء مشين، كقول أنك نا.زي.
*الشاعر دريد بن الصمة.

المقال 306
#عمادالدين_زناف

الثلاثاء، 21 يونيو 2022

علم الكلام (الجزء الثاني)



علم الكلام، الجزء الثاني.

هو ما يسمى علم التوحيد كذلك، فهو يرمي إلى ٌثبات وحدانية الله بالاستعمال الوسائل المنطقية والنقلية. لم يكن المسلمون في عهد النبي عليه صلوات الله بحاجة لهذا العلم، ذلك أن كلام الله وحديث النبي وفهم الفقهاء من الصحابة وأهل البيت كانَ كافياً، علاوة ان العرب في تلك الحقبة كانوا على الفطرة، وكان لسانهم العربي عالياً وسليماً ليس فيه لحنٌ ولا كلمات أعجمية. ثم تغيّر الوضع عندما بدأت الفتوحات وتوسع دولة المسلمين، وكانَ اسلام الشعوب بين قبول حقيقي واستسلام، فتصادم المسلمون مع عقائد أخرى كانت راسخة في تلك الشعوب، مثل الزرداشتية عند الفرس، والمسيحية واليهودية في الشام ومصر وغيرهما، والبراهمة وأديان الهند وغيرهم. علاوة على هذا، تسللت الفلسفة في المجتمعات المسلمة، وطغى الفكر المشائي الأرسطي، وبرز فلاسفة مسلمون، وفرق تقبل أقوال اليونانيين، كما ذكرت في مقالتي الأولى عن علم الكلام. فكانَ من المنطقي أن يتصدّى لكل هذا علماء مسلمون متمكنون في كل تلك الأفكار والشُبَه، فمن غير المعقول أن تناقش شخصاً بشيءٍ لا يؤمن به، فانتقلَ المسلمون من الاكتفاء بالأدلة النقلية، إلى الخوض في الأدلة العقلية. 
من بواعث علم الكلام الفتنة التي وقعت بين المسلمين وفرقة المُعتزلة، التي ادّعت أن القرآن مخلوق، وراحَت تُجبر علماء الفقه على الخوض في الامر بطرق عقلية في استقراء النصوص، فتكلّم الخلف فيما سكت عنه السلف. وقعَت مشاكل أخرى بين المسلمين، مشاكل في قراءة النص القرآني، بعد أن كانت تفهم على الفطرة، أصبحَت هناك فرق توهم تشبيه الله بخلقه، وأخرى تنفي عنه ما ورد، فتخاصم الفريقان بين الاثبات، أي اثبات ما هو في الآيات كما هو، التفويض، أي أن يتم تمريرها كما جاءت دون الخوض فيها، أو التأويل، وهو تفسيرها بأرقى المعاني في لسان العرب، بما يرتكز على الثوابت النصية. 
ظهر بعد ذلك إخوان الصفا وخلان الوفا، وهم مجموعة من المفكرين المتخفين بأسماء مستعارة، خوفاً من تعرضهم لأي مكروه، إذ كانوا ينشرون أفكاراً هي مزيج بين الفكر الفلسفي، المعتزلي، والباطني، يتكلمون عن الجن والملائكة والايمان والحكمة، جعلوا لجماعتهم ثوابت وأسس، وكانوا يشبهون الجماعة السرية، غير أنهم كانوا مسالمين، عكس الفرق الأخرى التي جاءت بعد قرون، مثل فرقة الحشاشين، التي حارب الناس بالمنطق والدين والسلاح. 
بقيَ علم الكلام في تطوٍّ مستمر بين من يدافع عن بدعته العقلانية، وبين من يردّ عليها بنفس السلاح، فسبب هذا فتن ومعارك كبيرة، بين المذاهب والتيارات والطوائف، وصنع طوائف وجماعات متطرفة جديدة.  ظهرَ الأشاعرة بعد مدة، وقد كان أبو الحسن الأشعري معتزليا قبل أن يود إلى صفوف السنة، وصار داعياً لها، وقد كان ومن بعدهم ميزيناً، فلا هم يُبقون العقل عن النقل مثل المعتزلة، ولا النقل عن العقل مثل فرقة من الحنابلة. حدثت بينهم وبين الحنابلة مشاحنات عديد مجدداً، فاتهم الحنابلة الأشاعرة بتعطيل صفات الله، واتهم الأشاعرة الحنابلة بالتجسيم والتشبيه، وخلّف ذلك انشقاقا جديداً. 
جاءَ أبو حامد الغزالي، كفارس رافع لعدة أعلام، فقد كلّف نفسه بالرد على الملاحدة، والفلاسفة، والباطنية، والمجسّمة، ثم عمدَ في آخر حياته على انكار علم الكلام، وأن لا حاجة للناس به، أي أنه دعاهم للعودة إلى منهج السلف الأولين. 
ورغم أن هذا العلم لم يعد دارجاً على الألسنة، ولا يعرف الناس ما الاشاعرة من المعتزلة إلا من تعمّق، غير أن علم الكلام لا يزال قائما، فكل الكتب لا تفسر القرآن، ولا تشرح الأحاديث، فهي تصنّف في علم الكلام، من أول كتاب لأبي حنيفة (فقه الإمام الأعظم)، إلى آخر كتاب في مجال (الإسلام عقلا ونقلا).

السبت، 18 يونيو 2022

تكليـف من هَـمّ للتأليـف!



تكليـف من هَـمّ للتأليـف!

يعتمد المؤلّفون في أيامنا على سلاحين دون غيرهما في تحقيق المراد من الأدب، أوّل سلاحٍ هو اتقان الكتابة، من إملاء ونحو وصرف وجمع، أي، كتابة جُمل صحيحة خالية من العيوب النحوية وغيرها. والسّلاح الثاني، هو سلاح الخيال، إطالة يد التفكير لملامسة حواف النجوم الكواكب، والغاية منه الحوم حول الإبداع والتقرب منه. لكنّهم، وللأسف ضيّعوا العديد من الأسلحة الأخرى التي لا يستقيمُ لهم مخطوطٌ دون استخدامها. 
فقد يتوهّمُ القارئ أن النّص الأدبي قد بلغَ الذروة إذا ما لامس المؤلف شيئاً من البلاغة، غير أنّه غالبيّة القرّاء، لا يعلمون أين يكمن اللّحن بالضبط في المؤلفات الجيّدة نحوياً ولغويّاً، وخيالاً وفكراً، ذلكَ أنّه لا يظهر لهُم عيباً، غير أنّ النّص فيه ملل قاتل، وتكرار لا يليق بمن انتصبَ لهذه الوسيلة الراقية. فأين يكمن الخلل واللحن، في النص الظاهرُ فيه الامتياز؟ 
أوّلا، لا يعتني الكتاب الجدد بالثراء المُعجمي، فهم لا يجدون حرجاً في تكرار نفس المصلح في نفسِ الفقرة غيرَ مرّة، ويكرّرون المصطلحات لوصف أشياء مختلفة، في مواضع متفرّقة، في أزمنة وأمكنة متشتتة! فلا يعتنون بحقبة النّص، وأرضية الخيال الذي أتوا به، ولا يعتنون ببناء لسان الشّخصيات، فلا يختلف عندهم لسان المثقف من الشيخ من الصبي، ولسان الكفيف من الحدق من الأعرج والقويم. ففقر المصطلحات عيبٌ يخدشُ النصوص خدشاً، ولا يشعرُ بتلك الخدوش إلا المُتبحّر في جُزر الأعلام. 
ثانياً، نجد أن المؤلفين الجدد لا يعتنون بشموليّة المعرفة، فنرى الواحد منهم إذا همّ في الحديث عن حيّ في مدينة مترامية من الوطن، يرمي نصه بأسلوبٍ متهلهل، يحاول أن يطبِقَهُ على حيّهِ، مبرّراً للقارئ أن فقر المحيط، من فقر المصطلحات والمفاهيم والأفعال. وهذا لا يكون سوى سبب للضعف المعرفي. ذلكَ أن المؤلف النبيه، يصنع نصوصاً فاخرة في غرفة لا أثاثَ فيها، نورها شحيح، مسجونةٌ تحت الأرض، لا صوتَ يصلها سوى خشخشة على استحياء. فالمتربةُ هنا تكمن في تهالك المعارف عند المؤلف، والاختباء وراء ظرفيّة المكان، فقد وجدتُ أن معظمهم، يختفون وراء الحوارات الطويلة جداً، ليُخفوا وصف الخلفية والمحيط.
ثالثاً، نجد أن الخيال هو أكثر ما يثير عواطف القراء، فشدّ المؤلفون الرحال إلى خيالٍ مُطلق، مُعظمه يفقدَ كل معانيه مع توالي الصفحات، لم؟ لأنهم اشتغلوا بالخيال، ونسوا أن أهم ما في الخيال هو الرسالة، أي، العمل على الخيال البنّاء، وليس الخيال المثير، فالخيال وسيلة لا غاية، فعندما يصبح الخيال غاية في نفسه، تتوقف بل وتضمحل كل المعاني، ويصبح الكاتب عبارة عن حاشٍ للخيالات ليس إلا، يعمد على الإطالة في وصف القبيح أو الجميل، دون غاية تنقل من معنى إلى معنى، فحال الخيال غير البناء، كسفينة تمشي دون وجهة معينة، فتتمايل يمينا وشمالا، تنتظر من الحظ أن يضعها في أقرب يابسة ممكنة، وهذا يعيب النصوص، ولا يستطيع القارئ أن يشخّصها. 
رابعاً، في الفقرات السابقة عبتُ عليهم النقص المعرفي، الآن أعيبُ غياب التوسّع في الثوابت العلمية. فقد كتبت عدة مقالات في الخصوص، مثل موضوع، لا فلسفة دون فهم الفيزياء! فالعيب سيظهر جلياً في الذي لا يعلم البديهيات العلمية، وسوف ينكص إلى أعيننا وينخرها عندما يسهب في وصف معين يتطلب منه معرفةً علمية، قبل أن تكون له معرفة أدبية، فهي تسمح له بالإبداع في وصفه وصفا بليغاً. فقد تصفُ شجرة الزيتون بما ليس فيها، فنقرأ وصف شجرة التفاح، في نص يتكلم عن الزيتون، فإذا لم تكن لك دراية في الفروقات بينهما، فلا تقحم نفسك في هذا، وانأى بنفسك عما تجهله، حتى تتعلمه علما صحيحا.
هذا جزء يسير من العيوب التي أراها تتكرّر، ولستُ أدّعي أنني لا أقع فيها، ولكن أحثّ نفسي وإياكم على أن نعمل بإتقان في أي مجال نخوض فيه، اتباعا لوصية خير الانام، عليه صلوات الله وتسليمتاه.

المقال 304
مادالدين_زناف

الجمعة، 17 يونيو 2022

نيتشه والإسلام



نظرة في كتاب نيتشه والإسلام.
 
بعدَ مُماطلةٍ وتأخير، قررتُ أن أقرأ أخيراً كتاب روي جاكسون "نيتشه والإسلام". وما كانت تلك المُماطلة إلا لأنني لم أكن قد قرأت مُعظم أعمال نيتشه، وبما أنني اقتربت من ذلك، أخذت أتصفح نظرة الكاتب وما أراد أن يرميَ إليه من علاقة نيتشه بالإسلام. 
كانت أول مائة صفحة من الكتاب عبارة عن تفكيك الفكر النيتشي مع نظرته للنصرانية كمؤسسة يراها قد خذلت عيسى "عيسى عليه السلام". فقد كان يرى في النبي عيسى إنساناً عاليا، ورجلٌ يليق به أن يُحبّ ويُبجّل. ذكر الكاتب من عدة مصادر أخر أنه يرى في القديس بول أوّل مخربّي النصرانية الأولى، فقد عمد على تأويل الانجيل بطريقة تُفسد رسالة عيسى التي لم تصل أوروبا، وقد ذهب في تحليله بعيداً، قائلا إنه مثل المسيح رافض للقيم الجديدة، فقد رفض المسيح قيم اليهود في حقبته، الفريسيون المدعون للتدين، كذلك يفعل هو مع قساوسة عصره ورهبانهم. فقد كان بول عدمياً كارها للحياة في نظر نيتشه، وتلك العدمية قد ولّدت الاستياءَ لذا تلك الشعوب النصرانية، استياء ضد النبلاء والحكماء والأقوياء، وجعلتهم يطلبون الموتَ لأنهم سيكونون بجوار الرب في آخر المطاف. جعلتهم منكسرين غير فعّالين، يرفضون الحياة والقوة. ومن هذا المنطلق، شكّك العديد من الفلاسفة، وعلى رأسهم هيديجر في إلحاد نيتشه قائلاً، إنهُ آخر الفلاسفة الألمان الباحثين عن الإله. ذلكَ أن حديث نيتشه عن الأديان يقترب من العتاب الشديد، وليس عن فكرة الدين الأول، ذلك أنه كان في عديد المرات يحترم ذات عيسى ومحمد عليهما السلام، وكان يصنّفهما من البشريين العاليين. 
انطلاقاً من فكرة نيتشه إزاء النصرانية، رأى الكاتب وهو ينقل عن كبار المفكرين في القرن العشرين، أن فكره يقترب من الإسلام، فهو لم يكنّ العداء للديانة الإسلامية أبداً، بل ودافعَ عنها في كتابهِ "نقيض المسيح"، مُتهما أن النصرانية قد جعلت الأوروبيين يغشون أبصارهم عن حضارة الاندلس الإسلامية التي كانت تنير أوروبا، وقد قال، إذا كان الإسلام يكن العداء للنصرانية، فله الحق ألف مرة، ذلكَ أن الإسلام يصنع أبطالاً. بينما يرى أن النصرانية تصنع المخذولين والخذلان. واخذ الكاتب عدّة شهادات أشارت أنه ميّال للفكر الإسلامي، حيث قال عنه الفيلسوف المسلم محمد إقبال: صوته كجلجلة الرعد، هؤلاء الذين يرغبون في غناء الأغاني العذبة يجب أن ينطلقوا من عنده. لقد طعن قلب الغرب بالسيف، لون يديه أحمر من دم النصرانية، لقد بنى تماثيل بيته وفقا لأسس الإسلام، قلبه قلب مؤمن، رغم أن عقلهُ يُنكر.
قد تبدوا كلمات فيها نوع من الانحياز وزحزحة فيلسوفه إلى صفه، لكن من يجمل مؤلفات نيشته، لا يكاد يرى له نقدا على الإسلام بالخصوص، إلا بما جملهُ في حديثه عن الديانات، فهو يرى في الدين مؤسسة سياسية كغيرها. وقد يكون نيتشه شحيح الاطلاع على الإسلام، ذلك ما يبدو جليا لندرة الاستشهاد به مدحاً او ذماً، لكن القليل الذي كان يعرفه جعله يحترمه بإزاء اليهودية والنصرانية.
في الكتاب عديد الهفوات، ذلك أن الإسلام لم يولد مع محمد عليه صلوات الله، بل هو دين الأنبياء، لكن يبقى هذا حبيس المسلمين، فالغرب لا يريد أن يقرّ بتوسّع رقعة الإسلام الزمني الذي يسبق بعثة سيّد البشر. كذلك، نرى محاولاتٍ مُقحمة لجعل نيتشه دينيا تارةً، وربانيا تارةً أخرى، غيرَ أنها استشهاديات وتأويلات ضعيفة، لأن نيتشه لو أرادها لصرّحَ بها، كما صرّح بحبه لعيسى ومحمد، وحبه لمن يراهم عظماء كنابوليون بونابارت، الذي بدوره كانَ يمدحُ سيدنا محمد كثيراً، ما يجعلُ الدائرة تُغلق حول الروابط المشتركة التي تؤدي من بعيد إلى حب خاتم النبيين ورسالته. 
الترجمة سيئة جداً هي الأخرى، لم يوفق السيد حمّود حمّود فيها، الكثير من النصوص مترجمة ترجمة آلية، ما يعيب الفهم كثيرا. 
أشاد الكاتب بتسامح الإسلام مع تواجد المعتقدات الأخرى، مستشهداً بالقرآن الكريم، ما قد يكون سببا آخرا في ميل نيشته لطبيعة الإسلام ومنبته ورسالته. 

المقال 302
#عمادالدين_زناف

الأربعاء، 15 يونيو 2022

المُفكر المُنتظر


المُفكّر المُنتظر..!

عرفَ انهيار الامبراطورية الرومانية بروز عقول أصّلت لما قبل وأثناء وبعد تلك الحادثة التي خطّت التاريخ، وكان من أعمدتها القديس أوغسطين البوني، الذي برز في تأصيل أسس الفلسفة المدرسية أو السكولاستية التي شاعت بعده بقرون يسيرة. كتب في الزمن والتاريخ والعلوم، ورغم قلمه اللاهوتي، إلا أنه عملَ على التوسع في ذكر المسببات والعوامل والأرضية التي جعلت العالم يتغيّر، فأعطى بفكره إشارات للفكر النصراني بأن يغير من أسلوبه مثلا في التعاطي مع النصوص المقدسة، وإن كان قد غُيًر النص غيرَ مرة، إلا أن التأويلات والتفسيرات يمكن أن تتغيّر آلاف المرات، بما يتماشى والسياسة والمصالح الاقتصادية للكنسية، ثم للإمبراطوريات والإمارات الناشئة. فعرف الأوروبيون أوائل التغييرات الفكرية مع بروز مفسرين جدد للإنجيل، على راسهم طوما الإقويني، وعرفت السكولاستية ثورة جديدة في منظورهم الديني، وقد جالت أوروبا، وخدمت مصالح الباباوات والملوك والأباطرة والنبلاء، فقد ولد لهم دين على المقاس، يتماشى ومرحلة ما بعد الإمبراطورية الرومانية.

فعرفوا نشأت الإمبراطورية الجرمانية المقدسة، وما حولها، وعادوا ليبسطوا نفوذهم على أراضٍ خارج أوروبا باسم القداسة دائماً..وقد سلّموا المِشعل مكرهين للبروتيستانت، الذي حكموا العالم باسم الولايات المتحدة وبريطانيا.

في عالمنا الإسلامي، وفي تقارب زمني مثير، بين بداية هوان القوة المحلية، ومؤشرات لتصاعد القوة الغربية، جاءت ظاهرة تسمى ابن خلدون. الرجل المؤرخ القاضي والفيلسوف، الذي أوقعه قدر الله، بنفس وضعية القديس أوغسطين، والمثير أنهما من نفس المنطقة الجغرافية تقريباً، فقط عاصر تشتت الحكمة والقوة الإسلامية، وزيادة الترف والابتعاد عن الدين والزهد، بداية التمسك بالحياة الدنيا، والتعصب للطائفية والمذهبية والعرق والرأي! فكتب آلاف الصحف يحدّث من أراد أن يقرأ ويسمع عن التاريخ وفلسفته، وأن الانحطاط آت لا محالة، فكتب في آليات العودة إلى التوازن، وبعث القوة من جديد، بأسلوب ديني، عقلاتني وعلمي.

إلا أن الأمة لم تقرأ له، أو قرأت ولم تعره تلك الأهمية.
فالفرق بين أوغسطين وابن خلدون في حالة استقبال الأمتين لإنذار الخطر، ورغم أن الاوروبيون كانوا ولا يزالون على معتقد فاسد، إلا أنهم أخذوا فسادهم بجد، وجعلوه ذهبا، وأخذنا الحق الذهبي بهزل، وجعلناه رملا وتراباً.
أما اليوم، فأمريكا نفسها تعرف أنها تتراجع، ولستُ أتحدث عن تراجع في القوة، بل في جذورها، هناك هشاشة فكرية تنخر أعمدتها، ولسنا نرى ونشهد إلى يومنا منظرين بوزن أغسطين يعملون على إعادة بعثها! أقول بوزن  أوغسطين، ذلك أنني أعلم بوجود كيسنجر وبريزنسكي وجاك عطالي وغيرهم، إلا أنهم يسمون دعاة الموت! ذلك أن استشرافهم ديستوبي أسود، ليس فيها فلسفة مؤسسة كالمدرسة السكولاستية، ولا الخلدونية ذات الحس التاريخي العال! 

أما عن عالمنا، فهو نائم منذ أيام ابن خلدون، ومن غير المعقول ألا نلد ابن خلدون آخر! حتى مالك بن نبي لم يستطع تجاوز عبد الرحـمـٰن في كل الخطوط العريضة!
نحن ننتظر المفكر والفيلسوف الذي يأتي ليغربل العالم الاسلامي والعالمي، قد يعتقد البعض أنني أشير إلى المهدي، إلا أنني، وبنظرة مسحية بسيطة، لا أرانا على شبه وعي يسمح لنا بأن نترك هوسنا وراء السخافات، ونلحق بالمهدي، فللمهدي شروط، وعلى رأسها أن تكون الأرضية سامحة، وأرضيتنا لا تسمح حتى بقول الحق دون خوف من سب وغدر، وانعزال تام لهؤلاء الذين ننتظر منهم قيادة نهضة جدية.
نحن نحتاج إلى ابن خلدون جديد، فإذا أتى، وسُمع له، ستكون أولى الاشارات، بعد عقدين أو ثلاث، لدفعات قوية لجزيتنا نحو السطح، جزيرتنا التي تقبع في قاع المحيط بجوار أطلنتس..

فلنتدرج، ليسنا نطلب قيادة العالم، ولا مواجهته، ليس عشنا فلندرج! بل يجب أن نستعد لقبول مفكرين وعباقرة، يقلبون الأرض الميتة إلى أرض خصبة.

المقال 3o1
#عمادالدين_زناف

#عمادالدين_زناف

الثلاثاء، 14 يونيو 2022

المقالات للإصلاح، الكواكبي.


بمناسبة بلوغ مقالاتي لمئتهم الثالثة، لم أجد موضوعاً يتناسبُ وهذا الأمر إلا الحديث عن المُفكّر الحَلبي السّوري عبد الرحمن الكواكبي، وهذا لعدّة اعتبارات، أوّلهم هو أنني قد وجدتُ أن منهجيّتي تقترب من أسلوبه، مع بعض الفروقات البسيطة والمفصلية بالنسبة لي.
ثانيا، هو رجلٌ واسعٌ اطّلاعه، وفي أسلوب التدوين، كان من روّاده، وقد كان من المتأخرين فيه بعضَ الشّيء، لكنه استفاد من ذلك التأخير في الاستعانة بكل من سبقه في المجال، ليعمل على أسس أكثر فاعليّة في هذا المجال.
إنه عبد الرحمن الكواكبي الحلبي، ينتسبُ لأشراف أهل البيت في سوريّة، ولدَ في منتصف القرن التاسع عشر، سنة 1855م. يعتبره العديدون من فلاسفة المسلمين المتأخرين، غير أنني أراهُ مُفكّرا ومُصلحاً وثائراً، لا فيلسوفاً، وهذا بعدَ اطّلاعي على كتابيه طبائع الاستبداد وأم القرى. فالفيلسوف، وإن كانَ له اتجاهٌ معيّن في التفكير، إلا أنه واسع الدائرة في الحديث، وصاحب مفاهيمَ جديدة ونظرات مُختلفة، غير أن الكواكبي كان واسع القراءة والاطلاع والنظر، لكنّ كتاباته كانت أضيق من ذلك، حيث خصّص غالبية أعماله وتدوينه في مكافحة الفساد العثماني في تلك الحقبة. وهذا لا يضرّه، بل يرفعه كثيراً، لكن رتبة الفيلسوف تتطلّب أكثر من هذا. 
كان الكواكبي يوجّهُ قلمه كسيف ضد الفساد الإداري العثماني واستبداد الولاة في حلب وسورية وغيرها في تلك الفترة، وما كان يميّزه هو تحكمّه في اللسان العربي والتركي والفارسي، واهتمامه الكبير بالعلوم السياسية والاجتماعية والتاريخ والفلسفة. فالعلماء المسلمون في تلك الفترة، بدأوا يتحرّرون من الانطواء الثقافي، وكان الكواكبي في مقدمة الركب، فتبحّر في قراءة العلوم بمختلف فروعها، خدمةً لبلدته وقومه، فالمثقف لا يكونُ مثقفا حتى يترجم ثقافته بما ينفع قومه على قول علي شريعتي. وكانَ ذلك بادياً في نصوصه، مُستشهداً بأخبار الأقوام في العدل والميزان، وأن دائرة الإسلام أوسع مما كانَ يروّج له، وأنه يستوعب كل علم وفكر لا يمس الثوابت ولا يثير الريبة فيها. 
كان يهوى التدوين، وعُرفَ عنه الميل للمقال الصحفي، فعَملَ لفترة في صحيفة تركية، غير أنه شعر بالقيد فيها، ذلك أنه لم يستطع التعبير بحريّة عن الجور والظلم، فأسس صحيفته وسماها الشهباء على كُنية حلب، فتمّ تشميعها هي الأخرى من طرف السلطات. فعُرفت قدرة ومُكنة الكواكبي، لذلك استمالته الإدارة العثمانية وتوددت له لشراء صمته، فسمحت له بإنشاء صحيفة جديدة بالعربية والتركية، فسماها الاعتدال، محاولاً التمويه بالاسم لا بالمحتوى، فتمّ غلقها هي الأخرى. عرفت حياته عديد المِحن، فقد تم اتهامه بمحاولة التأجيج لاغتيال الوالي غير مرّة، وفي كل مرّة ينجو من الإعدام. فقرر مغادرة سورية متوجها إلى مصر، حيث وجد فيها سعة من الحرية في الرأي والصحافة، كان وغيره من رواد الإصلاح من دعاة الاقتداء بالأسلوب الغربي في بعث العدل والحقوق وبعض الحريات، وكان من الذين يدعون لغربتها قبل نشرها على العوام. 
كان يرى أن المسلمين وبلادهم في حالة تقهقر، وأن التفتح على الأساليب الناجحة في القضاء على التخلف أمر واجب، لذلك دع إلى أخذ ما يمكن أخذه من الغرب. فبحث في الفتور والعيوب، واقترح الحلول والسلوك. كان يكتب للعامة، يرشدهم إلى أن الاستبداد ثقافة كامنة في نفوسنا، وليست محصورة في أشخاص بعينهم. عرفت تلك الفترة بزوغ عديد المفكرين الذين يدعمون أفكار الكواكبي، التي هي أفكار مستلهمة من الثورة الفرنسية والمتنورون الأوروبيون، من بينهم العقاد، الذي خصص له كتابا خاصاً، ويبرز أهميّة الرجل في العالم العربي الإسلامي في تلك الفترة.
فكك الكواكبي في كتابيهِ الشهيرين معنى الاستبداد، وعلاقته مع الدين، والعلم، والاجتماع، والسياسة، وكانت نظرته جيدةً في ذلك الزمان، فقد بدى عليه اطلاعه الواسع خاصةً في الأفكار التي تلتقي مع فكر روسو. 
عمل الكواكبي في مقالاته على بسط المعرفة وتبسيطها، وتنوير محيطه وتسليط الضوء على الأمور النافعة، وحثهم على نفض تراب الجهل والعبودية المفرطة، والاقتداء بالتجارب الناجحة، والتمسك بالدين والشريعة في نفس الوقت.

المقال 300 !
#عمادالدين_زناف#عمادالدين_زناف

الأحد، 12 يونيو 2022

فلسفة للكافة، فهمها للخاصة!



الفلسفة متاحة للعامة، لكن فهمها مُقيّد للخاصّة. لمَ؟
🌿 مقالة أضع فيها إشارات يسيرة تُبيّن تركيبة الفلسفة الحقيقيّة. 

إن من يُحب الفلسفة ويبحثُ في كتبها، يختلف عن الذي يتحاشاها ويفضّل ما هو أقل صعوبة منها، معتقداً أن الأدب السّهل أمتع من الأدب الفكري، ذلك أننا وقعنا في فخاخ الإصدارات الأدبية السهلة، وتفشى المرض، وصار الكُتاب يرون في الفرقعات الآنية المنا في التفوّق، إصدارات تحترق مع انتهاء القارئ لآخر صفحة فيها، ولن يعود إليها لعلم فيها، بل لانقطاعه عن الكتب الماتعة وحرمانه من هذه المجرة، ثم تُنسى بعد سنوات يسيرة.  ورغم أن للفلسفة شأن بين الكتب الأدبية، إلا أن قارئ المحب للفلسفة مُتوهّم هو الآخر، ذلك أنه يعتقدُ أن قراءة الكتب الأمهات يجعله مُلمّا بالفلسفة، ولو عدنا إلى القارئ العربي بشكل خاص، لوجدناه يتبجّحُ بمعرفة كتب الغرب، المعلومة من الخواص والعوام، من الذي يحب الفلسفة ومن الذي يذمها ومن الذي يمقتها، وقد تجد في بعض الأحيان، أن كاره الفلسفة، أو غير المعني بها، قد يكون أفهم من أدعياء أدب الفلسفة، ذلك أن للأدب قواعد قد لا يعلمها الكثيرُ منّا، ألا وهي دراسة الشيء بكل زواياه، ودراسة الحواشي عليه، ونقده، وشرحه، ومناقشته. ويكون ذلك من الفلاسفة أنفسهم، من المتدينين، من المؤرخين، من علماء النفس والاجتماع، ومن غيرهم من المختصين في مجالاتهم.  فعلم الفلسفة لا يؤخذ من كتب الفلسفة وينتهي، بل تؤخذ الفلسفة من حيّز أكبر بكثير من تلك الكتب، وفي هذا المقال، سأبيّن لكم جزءاً يسيراً من تعقيدات الفهم الفلسفي!
في بيئتنا العربية، يفضلّ أحدنا أن يحرق الأشواط بقراءة الفلاسفة الكبار، والأخذ منهم، دون عودة لما قيل نقدا أو مراجعةً أو تكملةً، العرب القدماء، كانوا يقرأون ما يسمى العلومَ العقليّة، وهي آليات فهم النصوص الفلسفية والكلامية، لتفكيكها ومعرفة كل حقلها، قبل البداية في التأصيل، ومعرفة الطيب من القبيح، والنافع من المُسقم، وكانت دراسة العلوم العقلية مستقلة عن كل انحياز، فمعرفة الشيء قاعدة أساسية قبل الخوض فيه، وهذا ما يعيب عصرنا، الكسل في معرفة ما يجب معرفته قبل رفع لواء فلسفة وفيلسوف ما. 
"فليتَ شعري" كما يقول القدماء، من يعرف من محبي الفلسفة الشباب كتاب السلم المُنورق لعبد الرحمن الأخضري في فنون المنطق، وكتاب تهذيب المنطق للسعد التفتازاني، وكتاب الشمسية في القواعد المنطقيّة لقطب الدين الرازي، وكتاب الاقتصاد في الاعتقاد لأبي حامد الغزالي، وكتاب المقدمات الممهدات لابن رُشد، وشروحات لكتاب العقائد النسفية لفخر الدين النسفي، وكتاب أبكارا لأفكار للآمدي، وكتاب المنطق لعبد الهادي الفضلي، وكتاب المنطق لمحمد رضا المظفر، وكتاب بداية المعرفة لحسن مكي العاملي، وكتاب بداية الحكمة وآخر نهاية الحكمة للطبطبائي،  وكتاب منظومة السبزواري، وكتاب الأسفار العقلية لصدر الدين الشيرازي، وكتاب الإشارات والتنبيهات وكذا برهان الشفاء لابن سينا، أصول المعرفة والمنهج العقلي لأيمن المصري، نظرية المعرفة لجعفر السبحاني.. وقد أطيل في ذكر الكتب التي تتحدث بشكل عميق جدا عن الفلسفة والمنطق والعقليات وعلم الكلام! وهذا جانب من موسوعتنا الإسلامية حصراً، ولم أتحدث عن موسوعات فارسية وهندية وصينية ولاتينية، ولست أدعي أنني طالعتها كلها، لكنني أعلم أين أقف في معرفة مكاني من هذه المجرة.
لا يضرّ أبدا أن يقرأ أحدنا كتاب الأخلاق لسبينوزا ونقد العقل المحض لكانط والعالم إرادة وفكرة لشوبنهاور وإنساني مفرط في إنسانيّته لنيتشة وغيرهم من الكتب المشهورة، لكن هذا سيجعل منه محباً للفلسفة، له شيء يسير من أبوابها، إذا ما فهم مقاصدهم طبعا، وهذا في ذاته معاناة حقيقية، لكن دراسة الفلسفة والمنطق والعقليات وعلم الكلام كعلم، يستوجب منا التبحّر في محيطٍ عظيم واسع كما أشرت في الفقرة السابقة، والقول بأن الفلسفة هو الاحاطة بخمس أو ست كتب مشهورة، هو قول باطل ولا يساوي شيئاً. 
كنت دائما أشدد على مقولة هذا فيلسوف، الفيلسوف يجب أن يطالع مئات الكتب الفلسفية، ويفهمها فهما صحيحا، فينتج لنا هذا رجلا ناقداً أو تابعا لفلسفة عن فلسفة، وهذا لا يحدثُ في سنة أو خمس سنوات، بل يحدثُ في عمر بكامله.
معظم من تشاهدونهم هم مفكرون، وليسوا فلاسفة إطلاقاً، ذلك أن الفيلسوف يأتي بمفاهيم جديدة، والذي يدّعي الاتيان بالمفاهيم الجديدة، يعل أنه لم يسبقه فيها أحد، ولكي يعلم ذلك، عليه أن يطالع بشكل واسع لسنوات طوال، أي أن يتخصص في دراسة الفلسفة.
أما القارئ الشاب، فليس عليه أن يطلق على نفسه سوى بالمحبّ للفلسفة، أو المحب للفقه، أو الشعر، أو الأدب، فتقلّد اسم تلك الأمور الثقيلة يجعل من الشخص طائشا لا يعلم حجم ما تلقّب به.

المقال 299
#عمادالدين_زناف

الجمعة، 10 يونيو 2022

سيدة الجنة، الأفلام والروايات في الميزان



بعد مشاهدتي لمقاطع من فيلم The Lady of Heaven
والذي يروي أحداثاً تحوم حول سيدة نساء الجنة فاطمة الزهراء بنت سيدنا محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أكرر نفس وجهة نظري عن الروايات التاريخية المكتوبة، القديمة والحديثة، بما أنني تعرضت لهذا الموضوع في كتابي الشفق [الرواية الوطنية والتاريخ]؛

هذا الفيلم أثار ضجة في إنجلترا، وقد مُنع من العرض لأسباب طائفية وسياسية وما إلى ذلك.

أقول، العيب دائماً في الذي يعتمد على الأفلام والمسلسلات لمعرفة التاريخ بشكل عام، وليس العيب فيها {أي الأفلام}.
 فمنذ القدم، الروايات التاريخية نفسها مُشبعة بالانحيازات لقوى ذلك الزمان، للحُكم ولهوى ومزاج العوام بشكل عام. وصاحب الحقيقة يُقطع لسانه ولا تصلنا أخباره إلا ما انفلت منها، ولا أعتقد أن نوايا السينمائيين تكمن في رفع لواء الحق قبل الأرباح المادية. 
بايجاز، المسلسلات والأفلام والروايات التاريخية ليست مصدراً لفهم التاريخ كعلم قائم بذاته! وتذكروا أنني وضعت درساً على قناتي، أذكر فيه تصريحاً قاطعاً من المؤرخين المشهورين، بالتساهل في سرد أحداث ”تاريخية“ يقصها رجال مطعون في رواياتهم للأحاديث النبوية.
والمنبّش في التاريخ يدرك أن من قواعد فهم التاريخ وربما على رأسها، هو تعدّد المصادر! 
فالحدث التاريخي يؤخذ من منظور ديني ثقافي أدبي علمي تراثي وعُرفي، وهناك من زاد الأمثال والحِكم، لكي نجمع فكرة نسميها ”حقيقة تاريخية“.
افتقار الحدث لتعدد المصادر يعيبه عيباً شديداً، فكيف وهو يخدم نظرةً واحدة بشكل مباشر. هذاةما يجعله حدثاً فانتازياً مسلّياً، يعمل على تأكيد انحياز صاحب النظرة الواحدة، وفي أسوأ الأحوال، هو مغالطة تاريخية تخدم جهة عن جهة، وترفع جهة وتضع جهة، ما يبعدهم عن التاريخ تباعد المشرق والمغرب.
الأفلام لا تختلف عن المرويات، فهي تخدم توجّه سياسي، حتى لو كان حقاً، فهي ضربة حظ وليس بحثا عن الحق، لأنها وسائل لخدمة الممولين، والممولون يخدمون عقائدهم، ولذلك؛
لا يجب أن يتم قراءة رواية تاريخية بعين المتعلم التلميذ، بل بعين المتعة الأدبية فقط. ولا أن تشاهد فيلماً ومسلسلاً إلا بعين المتعة السينيمائية، فما يتجاوز هذا الحيّز ليس من خصوصيات هذه الأدوات الإعلامية الدعائية.
لنتفق أننا جميعاً كذبة الآخر، أي أن كل واحد منا يرى الآخر محرفاً للتاريخ ومغالطا، وبما أن عقلنا لم يرقى للتحاكم العلمي، فعلينا عدم الخوض في شيء لا نتحاكم فيه بالعلم وبتعدد المصادر، وليبقى هذا التاريخ حبيس تنبيش العلماء، ومادة لتثار بها بعض القضايا لأهداف ربحية مادية بحتة.
والسلام.

المقال 298
#عمادالدين_زناف #سيدة_الجنة #theladyofheaven 

.

الخميس، 9 يونيو 2022

تدليس ديزني



لماذا شركة ديزني هي ماكينة تغليط وتحريف بامتياز؟

أواصل في حملة إعادة التفكير في المنتوج الأمريكي، وهذه المرّة مع كارثة الشاشة بالنسبة للأطفال والمراهقين.
 عندما نشرتُ شيئا مماثلا منذ سنة، اعترض البعض بقولهم إن ديزني "لطّفت" من القصص الحقيقية، ذلك أن القصص الحقيقية "مُرعبة". الواقع يقول أن لا شيء يبرّر التحريف، ولنذكر أعلى الأمثلة على الاطلاق وهو القرآن، حيث نقل الله لنا قول إبليس كاملاً، وهو يتوعّد البش إلا عباد الله المخلصين، فإذا جاز التحريف دينا وعُرفاً إنسانيا، لما نقل القرآن أقوال الملعون كما هو، وما نقل لنا قول فرعون أيضاً، فحجة أنه أقوالهم ودعواهم مرعبة وغامضة ليست بحجة، ذلك أن الحق لا تشوبه شائبة، ولا يخشى قول هذا وقصة ذاك. فالقول بأن ديزني لطّفت من القصص لأن الأطفال لا يتحمّلون تلك القصص أمر مُغالط، فالأطفال يعرفون معنى الرعب وما يُستنتج منه بطرق كثيرة، لذلك، وجب أن يعرفوه بصيغة صحيحة، وليس بتحريف القصص، وجعل كل النهايات سعيدة، ما يجعل الطفل شخصية ساذجة لو تتوقف عن البكاء حتى وهي ناضجة، ذلك أن مفهوم الحياة عندها لا يعرف التوازن بين الخير والشر. 
لديزني عشرات المؤلفين، فلمَ اختاروا تحريف قصص الماضي عوض تأليف قصص جديدة بالكامل؟ الجواب سهل جداً، الو.م.أ عملت وتعمل على سرقة كل قصص وموروثات العالم، ثم تعيد طرحها بطريقة تفكريها وايديولوجيتها، لتستقطب انتباههم، فهي لم تفعل هذا في الأفلام والرسومات فحسب، حتى في الفلسفة، وقد تكلمت عن النظرية الفرنسية في مقال مستقل، حيث استوعبت فلاسفة فرنسا في القرن العشرين، وصنعت بهم ما يسمى النظرية الفرنسية (فرانش ثيوري) لتصدّر للعالم الفكر الفلسفي الجديد. وهذا لتُمرّر فكرة أن الأسلوب الأمريكي في النظر للحياة هو الأصح، دائما وأبداً.
احذر، هذا المقال يحمل قصصاً حقيقية، غير تلك التي عرضتها والت ديزني لسنوات طوال، القصص الحقيقية مُرعبة وصادمة بالنسبة لمن يعشق أفلام والت ديزني الوردية الناعمة، والأمثلة التي سأذكرها، تبقى أحسن من مشروع ديزني القادم في كسر كل الثوابت والفطرة الإنسانية من جذورها. 
نبدأ بقصة رقصة حورية البحر، أو عروس البحر، القصة الأصلية تعود لهانس كريستيان أندرسين، وهو كاتب دنماركي من القرن التاسع عشر، وقبل الخوض في تفاصيلها، أشير الى أن كل هذه القصص كانت موجهة للأطفال، منها قصة شارل بيرولت الأشهر: ذات الرداء الأحمر، والتي أكلها الذئب بالكامل وهي في فراشها، والرسالة الذي أراد أن يوصلها بيرولت هي تخويف النساء من الاغتصاب الذي كان شيئاً مرعبا في فرنسا في القرن السابع عشر! بينما تُظهر والت ديزني أن الذئب هنا مجرد آكل للبشر، بلا أي معنى خلف ذلك.
إعادة كتابة هذه القصة بمفهوم آخر هو تحريف معناها الأصلي، وما كان يجب تسميتها بذات الرداء الأحمر، إنما كان يجب صناعة قصة أخرى، باسم آخر فحسب.
هذه القصص كانت تبعث برسائل تجعل الأطفال أكثر في تلك الحقبة أكثر حرصاً وفطنةً وذكاءً، اليوم، أضحت رسائل مُفرغة من كل المعاني، رسائل تجعل الطفل في تنويم مغناطيسي مليء بالإيجابية، على طريقة التحفيز والتنمية البشرية، إلى أن يصطدم بالواقع المناقض لما كان يحلم ب، ويراه الواقع لا واقع غيره.
عودة لقصة عروس البحر، هذه القصة روحانية وفلسفية، بعيدة عما عرضته ديزني.  فحواها أن حريات البحر لا يمتن، فهن يتحولن إلى نصف سمكات، أما الرجال، فروحهم تموت. إذا ولكيلا يمتن، عليهن إغراء الرجال، وبما أنه لا يمكنهن ذلك.. فقد أصبحن مثل الجماد، ثم بنات الرّيح، وبنتُ الريح يمكنها أن تبقى حُرِية للأبد إذا ما قامت بالأعمال الصالحة، بعيداً عن إغراء الرجال (الأمير)، ذلك أن في القصة، لم تستطع فعل ذلك.
نأتي للمثال الثالث، وهي قصة هرقل، فيلم معروف للجميع، القصة التي كلها سعادة وجمال، بينما ليس لفيلم ديزني نصيب أذن الجمل من القصة الحقيقية من الميثولوجيا الإغريقية. قصة هرقل تكمنُ في رجل أصبح مجنوناً، فقتل زوجته وأولاده، وفي النهاية ينتحر من الحزن، حزنٌ جاء بعد أن اكتشفَ أن زوجته تركت له رداءً مسموماً قاتلاً لغيرتها عليه. الحقيقية أن القصة تروي للأطفال خطر الغيرة! وليس فيها أية سعادة. 
هل على الأطفال أن يسعدوا طوال الوقت؟ أم عليهم الشعور بالخوف من حين الى آخر! 
طبعا، عليهم الشعور بالخوف، لأنه الشعور الوحيد الذي سيجعلهم يفهمون العالم الذي سيواجهون غدا.
أما عن قصة سندريلا، فقد تم تمزيقها تمزيقاً، وهي قصة الإخوة "غراي"، غير تلك التي عرضتها ديزني، في الحقيقية، وصلت غيرة وحقد أخوات سندريلا منها 'لكي يلبسن نفس الحذاء' بقطع أصابع وعقب أرجلهن، وادخالها في الحذاء بكل تلك الدماء.
ولكذبهن، تمت معاقبتهن، لكن كيف؟ تم وضع الغربان لكي ينقروا أعينهن. ما رأيكم؟ أليسَ هذا أجمل بكثير؟ (أمزح).
قصة علاء الدين الحقيقة يعلمها العرب والفرس والهند، فهي قصة من قصص ألف ليلة وليلة المليئة بالجنس والمجون والسحر، وليسَ فيها من فيلم ديزني سوى الديكور العام.

المقال 297
#عمادالدين_زناف

الاثنين، 6 يونيو 2022

الو.م.أ.. وبيعها الحرب لمن اشترى



مقالة مُختصرة لتُحيط بالتطوّر الذي خضع له العالم تحت لواء الـ و.م.أ
 في العقود الأخيرة.
منهج الولايات المتحدة يكمن في صناعة العدو، لكنّها تصنع العدو تحت لواء الديموقراطية، فالفرق بينها وبين "ديكتاتورية ما" يكمن في انتهاجها أسلوب الشورى المزيّفة في مجلس الشيوخ، أي تستعمل طريقة إقناع الرأي العام، بينما يعمل الديكتاتور على الإقلاع مباشرةً إلى ذلك المكان وغزوه وتدميره، لكننا طبعا سنصل إلى نفس النتيجة: غزو وتدمير ونهب الثروات ووضع أعين وقواعد في تلك المنطقة. 
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، صرّح نائب الرئيس الروسي غورباتشوف، وهو أرباتوف، قائلا: "سأخدمكَ أسوأ الخدمات، سأحرمك من وجود عدوّ لك"، جملة ثقيلة جداً فهمها العالم سريعاً عندما لملمت الو.م.أ أوراقها سريعاً وراحت تبحث عن عدوّ جديد يبرّر لها توسّعها الجديد، وبسط هيمنتها على نقاط متفرّقة من العالم. صنعت هذه الأخيرة لوحدها حوالي أربع مائة صراع حول العالم، وأصبحت تختارُ عدوّها، بعد أن كان لها عدوّ حقيقي. أوّل تحوّل حقيقي في العالم حدث في حرب الخليج الأولى، الحرب الأولى التي لم تتدخّل فيها روسيا (الاتحاد السوفييتي)، بعدما قرروا أن صدام حسين لم يطبّق تعاليم الديموقراطيّة التي تريدها، هذا الأخير الذي سهّل كثيراً من ذريعة الو.م.أ عند غزوه للكويت. 
حرب الخليج الأولى هي الأولى كذلك من نوعها صحفياً، ذلك أنها أولّ حربٍ تمّ إذاعتها على المباشر في القنوات، والتعليق عليها من قبل السياسيين والصحفيين، أي أنها أو حرب خضعت للتحليل "الديموقراطي" على المنهج الأمريكي البحت. القناتين M6 الفرنسية وCNN  الأمريكية كانتا مولداً لهذا الأسلوب الإعلامي، الذي انتهجته مُعظم القنوات الإخبارية من يعدهم إلى يومنا هذا. 
أنت تقرأ مقالة للكاتب عماد الدين زناف.
العملية كانت في التحليل المباشر، ثم صناعة برامج حول الاحداث، ثم التواصل مع المحللين من بلدان مختلفة، وكان في الأفق منهج واحد هو جعل الحرب في ذاتها أداة استهلاكية، مسرحاً للمشاهدين، ثم التسويق لفكرة الو.م.أ ضد الأشرار، ومن يعاكس نظرتها فهو شرير، بشهادة المحللين الذين أتيحت لهم فرصة الظهور في قنواتها، والقنوات التابعة لها بالوكالة. 
جاءت بعدها معارك في يوغوسلافيا ونشأة الدول الجديدة، ثم معارك في الصومال وغيرها، وكانت معظمها معارك غير استراتيجية للو.م.أ، عكس ما كانت عليه حربها مع الاتحاد السوفييتي، لذلك كانت وجهتها هي الدفاع على حقوق الانسان، وعليه، اعتمدت الو.م.أ على صناعة مثقفين، أو منهجية فكرية تكون مفكرين يتحدّثون في الكتب والمجلات والقنوات عن حقوق الانسان ومحو التمييز وما إلى ذلك، وقد بلغت هدفها عندما جعلت تُصعّد من حقوق الانسان وتجعله ذريعة للتدخّل في شؤون الآخر، مرتكزةً على كل أذنابها من مفكريها ومفكرين تابعين لها بالوكالة. في فرنسا رأينا بروز رؤوس مثل بيرنار هنري ليفي، يدعوا حكومته الفرنسية للتدخل عسكريا في كل مكان. فالذي يفعله ليفي اليوم، في الحديث عن الديموقراطية في ليبيا من غرفته، دون أي معرفة بالوضع الليبي، كان يفعله سارتر قديما، عندما كان يدافع عن ستالين من غرفته في فرنسا، فقادة البروباغندا أو الدعاية بالوكالة ليست وليدة اليوم.  
مـا نستنتجه من العملية الأمريكية، هو التحول السريع من إلى بطرق ناعمة، ما أنتج القوة الناعمة، والتي تتوغل لذهن الناس عن طريق الأفلام والاعلانات والملابس والمأكولات، فقبل أن تبيعك الحرب، ستجعلك أمريكيّ التفكير، متحررا ديموقراطيا محبا لحقوق الانسان، مصطلحات واسعة ودعوة عريضة ستُحرجك أمام أي إنسان إذا ما شككت في أحقيّة الو.م.أ على فرضها.
أنت تقرأ مقالة للكاتب عماد الدي زناف 
اليوم، وكما نُشاهد، الو.م.أ تنشر ديموقراطيّة جديدة، ألا وهي ديموقراطية التمرّد، التمرّد على الأمور الإنسانية التي لم تكن محلّ نقاش البشر من جميع ثقافاتهم، مع الاعلام والدعاية، صارت بعض الأمور الإنسانية اعتداءً في ذاتها، وأن الأخلاق الجديدة تفرض عليك التخلي عن مبادئك القديمة، وتمرّدك عليها، والدعوة إلى المفاهيم الجديدة، وإلا، فلن تكون مواطناً كوسموبوليتياً مُحترما، وإذا كان كل مجتمعك كذلك، فيتم عزلكم عن العالم، وشن حملة تُدعى ثقافة الإلغاء، وإخراجك كليا من العصر الحديث.
إذا فلنحذر، ولنترقب، ولنكن على وعي تام بأن مستقبلنا يرتكز على فهمنا لأسلوب وفلسفة القوي المسيطر، لذلك كتبت رواية مينيسوتا، ولذلك أدعوكم لفهم الفكر الأمريكي فهما عميقا.

المقال 296
#عمادالدين_زنافعمادالدين_زناف

السبت، 4 يونيو 2022

الأخطاء اللغوية وخلفياتها الاجتماعية



الأخطاء اللغوية، وخلفيّاتها الاجتماعيةالأخطاء اللغوية، وخلفيّاتها الاجتماعية.

جَميعُنا يقع في زلّات لغوية وإملائية، بعضها عن جهل، أي أننا لا نعرفُ كيفَ تُكتب الكلمة والمصطلح من الأساس، وبعضها عن ظنّ بأنّ تلك الكتابة صحيحة، ذلكَ أن اللسان العربي كمثال لهُ مدارس، فمنهم من يتسامح ومنهم لا يفعل، ومنهم من يُجيز، ومنهم من لا يفعل، ككتابة ياسين ويـسين ويـس، مدرسة ومدرسه، مذا وماذا، إلى غير ذلك، وبعضها عن سرعة في الكتابة، ما أسّس لوظيفة مُستقلّة تُسمى المُدقّق اللغوي، فهو يسعى لتتبّع زلّات المُؤلّف، وأي خطأ يسقط في مؤلّف ما، يكون المُدقّق هو المسؤول عنه، لأنّه يأخذ أجرة على ذلك. 
الآن وبعد أن ثبّتنا العرش، نأتي للنقًشَ في الخلفيات التي تجول في لا وعي الناس الجمعي، لمن يُكثر من الأخطاء الكتابية، ومُخطئ من يظنّ بأن السخرية من الخطأ اللغوي تقتصر عند جهل الكاتب بطريقة كتابته، أي أن يُسخر منه لأنه يكتب دون تشبّع لساني مُعجمي. في الحقيقة هذا سبب سطحي جداً، لأن لا أحد يمكنهُ أن يُفلت من الخطأ، والاحاطة بكل المُعجم يكاد يكون مستحيلاً، وهو في الأصل تخصّص مستقلّ. 
كثرةُ الأخطاء اللغوية قد تشير إلى خلفياتٍ عديدة، فمثلاً قد يكون صاحبها من بيتٍ غير ذا علم وأدب، والأسباب من هنا متعدّدة، فالكُتب تحتاجُ مالاً، والعلم يحتاجُ مُكنة مادية ونفسية، فإذا نشأ الفتى في بيتٍ ميسور الحال، من أبٍ وأمٍ كادحين، سينتظرُ حتى يشتد عضده ليحتطب بنفسه في زوايا الكتب، وسيتدرّج في العلم والمطالعة في سنّ متأخّر، وسيباشر الكتابةَ كمن يباشر المشي صبياً، لذلك، فإن أوّل أسباب الأخطاء قد يكون له خلفية اقتصادية واجتماعيّة. ولا أربط هذا بذاك، فقد تكون الأسرة فقيرة، بينما تجد الكتب في كل الزوايا، وهذا راجع لميل الأب أو الأم للثقافة، والتي لم تأتي من العدم، فستجد هؤلاء من أصلٍ ذا علم، وإن كانَ يسيراً. فعلينا أن نسمح للمبتدئ أن يبدأ، ويكون شعلة العائلة في الأدب والعلم. 
تشير السخرية من الأخطاء اللغوية إلى الخلفية الطبقيّة أيضاً، نعم، فبعد أن تحدّثتُ عن الطبقية في مقال سابق، في الملبس والهيئة والصفات الجسمية، فإن النبلاء قديماً كانوا الوحيدين من يملكون الجلد ثم الورق والحبر، أي أن التدوين كان شيئاً يخصّ الميسورين حالاً، أما بقيّة الشعب فكانوا في الأسواق والأراضي يكدحون لقوتهم، لذلك، بقيت تلك الخلفية في ذهن الانسان أن من يقرأ ويكتب هو شخص لا يحتاج إلى العمل الشاق، فهي من الكماليات عند العامة، وعليه، فإن الذي يملك مكتبةً، ويملك الوقت الكاف للقراءة، حريّ به أن يُحسن الكتابة! وهذا ما ترسّخ في العقل الجمعي ولا وعينا الجمعي كذلك. المُتمكّن من اللسان العربي أو أي لغة كانت، سيُظهر "طبيقيّته" بعض الشيء في السخرية من الآخر، الذي لا يُحسن ما يحسنه هو، وفي الحقيقة، قد تلاشت هذه الفوارق منذ فترة، وأصبحت القراءة والكتابة ملكاً للجميع، لكن هذا لم يُذهب تلك الحساسيّة الطبقيّة، فالمُتحكّم في النحو والإملاء، الثري معرفيا ومعجمياً، له خلفيّة بورجوازية، وسلطة معنوية عند الذي لا يتحكّم فيهما، لذلك نرى أن الذي يكثر من الأخطاء يخجل من أن يتم تصحيحها له أمام الناس، لأن السبب كما ذكرت لا يقتصر على جهل الكتابة، بل راجع لاحتقار طبقي. 
فإذا كنا من هوّاة الكتابة، علينا أن نعلم أن الخطأ جزء لا يتجزّأ منها، وأن كلّ محاولات الإصلاح السّردي والتركيبي وغيرهم، ستجعل منظرك الاجتماعي أرقى، هذه حقيقة غير محسوسة، لكنها موجودة. وعليه، علينا أن نعرف بأن ما ننكرهُ طبقيّاً، نعيشه يومياً بأشكال مخفية.
تعلّم لسانَ أمّك جيّداً لأنه لسان القرآن، ولسان العالم، ذلك أنه الوحيد الذي لن يموت، فقوة لسان العرب أنه يعيش بالتواتر اللفظي، لا بالمخطوطات فقط.

المقال 295
#عمادالدين_زناف


الجمعة، 3 يونيو 2022

التشبّه بين النبلاء والبسطاء



التشبّه الطبقي، من الأسفل نحو الأعلى، والعكس! السبب مبطون! الظاهر هو: إن من يملك القوّة، يُقنّن الجمال.

تساءل العديد من علماء الاجتماع والنفس عن الغاية التي تلزّ الناس على تقليد بعضهم بعضاً في الملابس (الموضة) وعلى تقليد بعضهم بعضاً حتى في الأمور البيولوجية، بحثا عن التطابق التام في الشّعر السّبط، أنف أقنى، جسد رياضيّ أو مملوء، الطول، وغيرها من الأنماط التي تشير إلى طبقة ما. 
وبعد تحليلٍ مُطوّل، لدينا أكثر من إجابة وتحليل على نفسل الفعل، فعل التماثل بالآخر، من جهة، يرى العديد الأشخاص أن لطبقة النُبلاء والأشراف بعض الصفات الخارجية الموحّدة، ففي مُعظم التماثيل والصور، نجدُ أن شعرهم أملس سبط، أنف طويل أو محدّب، قامة متوسّطة أو فارعة، مع لباس يتماشى مع طبقتهم، اللباس والمظاهر المادية، تعكس القدرة الشرائية، أو القوّة الشرائية للفرد، فهي تبعث برسالة للآخر (المرأة، في حالة الرجل، والعكس) أنك تملك القدرة على اشباع رغبات الآخر بسهولة، بذلك، يجعلكَ خياره الآمن.
انت تقرأ مقال للكاتب عماد الدين زناف.
 الفرد الذي يلعب على وتر المظاهر يُريد أن يكون الخيار الآمن وخيار الضمان البيولوجي لحياة صحيّة وسعيدة. لكن كثير من الناس، لا يملكون الإمكانيات المعنوية لبلوغ ثروة الطبقات العليا، فيبقى لهم الامتثال لما يستطيعون فعله، بذلك، يحاولون تقليد نفس تسريحاتهم، العمل على بلوغ نفس الصورة الجسدية التي يملكه الآخرون جينياً. وكمثال، نرى أن الممثلون في هوليود يلعبون على هذا الوتر كثيراً، فالتمثيل في ذاته محاكاة للطبقيّة، والمُمثّل يلعب دور الوسيط بين المواطن البسيط الذي يريد أن يكون نبيلاً وشريفاً، وبين نبلاء وأشراف التاريخ القديم، أو الحاضر! فلا يتبقّى للبسطاء سوى تقليد ما يمكن تقليده، لذلك يُهرول العامة على تلوين وتشكيل وتغيير كل ما يُمكن تغييره لبلوغ ذلك الخيال الذي يلاحقهم. 
لكن انتظروا! هناك تماثل آخر لا يتحدّث عنه الكثيرون، فهو غير مرئيّ، أو لأن البعض لا يراهُ تماثلاً أصلا، ألا وهو تشبّه الطبقات العليا بالطبقات الدُنيا! مؤخّراً، أي آخر مئة سنة، ومع تصاعد الفكر اليساري الذي يلعب دور البساطة والدفاع عن المجتمعات وحقوقهم، أصبحنا نرى تفاق طبقياً، فالأثرياء اليوم يتشبّهون بالفقراء والبسطاء، وهذا يكاد يستقل عن النوع الأول في الغاية والسبب، بل هو مبحث في ذاته.  إن الثّريّ الذي يبني ثروته بسواعد البسطاء، سيجد نفسه ملزما على التشبّه بهم كي يستعطفهم ويستدرجهم ويجلبهم إليه، فالبسطاء يملكون نظرة نقدية تلقائية عن السيّد، السيّد البورجوازي المتسلّط، فهو بذلك سيعمل على اهمال شعره ولحيته وهندامه أمامهم، تفادي المصطلحات الصعبة، والحديث بالدارجة ما أمكنه، لكيلا يُقصى من مجموعتهم، ولكي يبقى في حيّزهم ويستفيد من قربتهم، مادّيا ومعنوياً، لأن الاقصاء من الجماعة يعادل الموت.
المقال للكاتب عماد الدين زناف.
فنحنُ نرى أن التماثل يعمل من الأعلى نحو الأسفل، ومن الأسفل صوب الأعلى، والهدف من هذه المحاكاة الوهمية التعايش، الاندماج، الشعور بالألفة والحنين والتناغم مع المحيط، ليس أمرّ على البسيط أن يعيش بفكرة أنهم من سلالة البسطاء، قد يتوهّم قبول ذلك، لكن ظاهريا يعمل على اغشاء الأبصار ببعض المؤثرات البصريّة، كذلك يفعل النبيل الذي يريد أن يكون محبوب "الزواولة"، فيعمل على اظهار نفسه بسيطا قدر الإمكان، الضحك مع الجميع، مصافحتهم وربما تلطيخ نفسه بما يشتغلون، ورغم الحساسية الدائمة بين الطبقات، إلا أنها تستعينُ ببعضها البعض للعيش بقَبول وراحة.

المقال 295
#عمادالدين_زناف