الاثنين، 28 يونيو 2021

تجارة الديستوبيا



في رواية 1984 لـ جورج أرويل، لم يُصب الروائي في مُعظم توقّعاته، خاصة في الجانب الجيوسياسي، ومع ذلك نجحت الرواية نجاحاً باهراً، بحيث يمكنني القول أن الروايات من نوع ”ديستوبيا“ تثير مشاعر القُرّاء وفضولهم لما هو قادم، ولا يُهمّ إن هو تحقّق أو لا. ديستوبيا هو نوع من الخيال الذي يتصور مستقبلاً طوباوي ظلاميّ، وهذا ما اعتمدهُ معظم الكتاب والروائيين، و ما زال العديد منهم يعتمدهُ حالياً، كنوع من التقليد للروايات الناجحة شكلياً، مثل رواية جورح أرويل 1984.
لكننا نملك بدائل روائية مُميّزة، مثل روايات جول فيرن، الروائي الفرنسي الذي تخصّص في ”رواية المغامرات، أو الرحلات“، مثل ”رحلة إلى مركز الأرض“، و”رحلة حول العالم في ثمانين يوماً“، يصف في معظمها ما يعيشه، ويتوقع فيها المستقبل البعيد، في معظمه بعيد عن السودويّة. وقد يكون ابتعاده عن السودوية هو ما لم يجعلهُ الروائي الأشهر في الخيال العلمي! فقد سبقه نوستراداموس، الذي تحدّث عن المستقبل البعيد، لكنّه لم يكن سودوياً كفاية لكي يُصبح الروائي أو المؤلف الأشهر عند القُرّاء!
فكيف ولمَ يُثير هذا النوع فضول القُرّاء؟ ما الطريقة التي تجعل القارئ يتمسّك بهذا النوع من الروايات الديستوبيّة!
في الحقيقة، الروائي المُتمكّن، يستعمل أسلوباً ومصطلحات تتفاعل مع ”المستقبلات العاطفية“ للقارئ، وأسرع وأقصر طريق للتفاعل هو التخويف، ولا يكون التخويف إلا من منطلق الحاضر، أي ما يعلمه الناس، ثم العمل على ”تمديده“ كرونولجيا ومنطقياً إلى أقصى مرحلة ممكنة، وكمثال، يمكن أخذ واقعة جفاف السّدود وربطها مع ”مخاوف ندرة الماء الشروب في المستقبل“، والعمل على تمديد هذه الفكرة إلى الجفاف والجوع والبطالة، ثم الذهاب إلى المديونية، مما يجعل الامر سياسيا، بما أن الاقتراض يوازيه شروط جيوسياسية وايديولوجية.. ويمكن توسيع ذلك مثلاً في رواية بعنوان ”آخر قطرة“!
كذلك يحدث في الروايات المعاصرة، التي تستمد نفس الفكر والطرق ”الأورويلية“، انطلاقاً من معرفتنا بأن هناك جماعات سريّة، مثلث برمودا، فيروسات، فيمكن للروائي جمعها وربطها ببعضها، وتمديد الفكرة بطريقة مرعبة.
عيب هذه الروايات أن لها نهايات موحّدة ومتشابهة، "فإذا استعملنا نفس الطرق، نجد نفس النتائج!" (انشتاين)، أما جانبها الإيجابي فهو نجاحها التجاريّ، طبعاً!، لأنها رواية تتوقع شيئاً لم يحدث بعد، لكنه منوط بالواقع! فتشكل عند القرّاء فضولاً وتخيلات، وهذا كل ما يبحث عنه ”الديستوبي“.
لم أكن حالة شاذّة، فقد استعملت هذا الأسلوب في رواية بشر لا تنين، لكن الفروقات جليّة، فهذه الرواية منطقها فانتازيّ ”تنانين“، فمن غير المعقول أن يصنّفها القارئ على أنها ديستوبيا واقعيّة، رغم استعمال منطلق واقعيّ كمُنطلق.
الكتب التي تعمل على تشريح المُستقبل، هدفها العيش لأطول مدة ممكنة في الرفوف، وذلك ما يحدث، فإذا كان هناك نوعاً روائيا أو خيالياً علمياً لن ينقرض؛ فهو بطبيعة الحال الأدب الديستوبي.



Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف

الأحد، 27 يونيو 2021

الكتب السهلة سرطان



📌 الكُتُب السّهلة مثل السرطان..!

تنقسمُ الثقافة في العالم إلى طبقتين، الثقافة الشعبية والثقافة البورجوازية، الثقافة الشعبية تتمحور في العلم المجاني أو شبه المجاني، مثل التمدرس والحصص التلفزيونية، وتسمى شعبية لأنها ثقافة متساوية عند غالبية الشعب، سأعود لاحقاً لفتح قوس حول الحصص التلفزيونية.
أما الثقافة البورجوازية، فهي تعني تمكن نلك الطلقة من إضافة ثقافة جديدة بعضها نادر، وبعضها مُكلّف، مثل حضور قاعات السينما والأوبرا وشراء الكُتب والمجلات وشراء آخر الأفلام والمسلسلات، بالإضافة إلى القدرة على الاشتراك في المواقع التي تنشر مقالات علمية وحصرية، مما يتشكل عند هذه الطبقة ”ثقافة إضافية“ عن الثقافة الشعبية.
في أغلب الأحيان، نجد الكثير من أبناء الثقافة الشعبية يحاولون القفز لقطف بعض من ممتلكات البورجوازيين، مثل شراء الأفلام والكُتب، لكن العملية تشبه ”التشبّه“ بالبورجوازية ولن تكون مُطابقة لها، دون أن ننسى أن من تربّى على الثقافة البرجوازية، غير ذلك الذي يحاول ”تدارك“ ذلك، بعد سنوات من ”الاكتفاء“ بالثقافة الشعبية، وبالعودة للحصص التلفزيونية، جدير بالذّكر أن الأفلام والمسلسلات والوثائقيات والرسومات المتحرّكة موجّهة للشعوب، لكنّها مصنوعة من البرجوازيين، الذين يعملون على توجيه الثقافة الشعبية، وصناعة الثقافة التي يتنطّع بها الأفراد على بعضهم البعض، وليس الأمر في الاحتفاظ بالثقافة ”ذات الجودة“ إلى مجموعات معيّنة منهم، بل هو صناعة ثقافة أخرى كُلّياً.
كما يعلم الجميع، هناك علوم وآثار وأبحاث واكتشافات ”حصرية“ لعوائل وطبقات معيّنة، فمن هذا المنطلق، كُلّ ما يتمّ الإشهار له، فهو توجيه بورجوازي للمُطالع الشعبي.
كل هذا يصنع من المُثقّف الشعبي ”ببّغاءً“ يُكرّر ما يَعرضه من هم أعلى طبقة منه، يمكننا تسميتهم بـ ”المُوجّهون“، الأمر الذي يصنع وهماً ثقافياً، يتكرّر على ألسنة الجميع، كعناوين الكُتب، والأفلام، والمسلسلات، والوثائقيات، والأحداث والتواريخ ”المُساقة“.
الثقافة الشعبية مصنوعة لكي تغرق الشعوب فيها، معظمها سهلة مثل الأكل الخفيف، والسكر السريع، الذي يجعل منك شخصا جائعا متعطشا للمزيد من السكر السريع طوال الوقت.
اخترت عنوانا مستفزاً للمقال، لأن السّهل ليس كنزاً، وليس ثقافة بأي حال من الأحوال، وكل ما هو شعبيّ ليس إلا صناعة للشعوب، فليس هناك ثقافة إلا الحقيقة، والحقيقة ..ليست سهلة وغير ممتعة أبداً.



Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف

الأربعاء، 23 يونيو 2021

ثالث بُعد.. عن البعد الثالث



📌 ثالثُ بُعدٍ..عن البُعدِ الثالث!

تقليدُ عالم الفكر أوّل ابتعاد عن الواقع، فالمُثل لا يمكن تجسيدها، الفكر أعلى بكثير من التجسيد والتعبير، فهو يتجاوز اللغة، ويتجاوز حدود القدرات الإنسانية، فعلى الإنسان معرفة العالمين! هكذا وَسَمَ أفلاطون أوّل قواعده في الامتناع عن ”فن نسخ الطبيعة“.
ثاني ابتعاد ”مُحرّم“ بين الإنسان والطبيعة هو إعادة تشكيل الطبيعة! فكيف يكون ذلك ولمَ خالفه آرسطو في هذا؟
يرى أفلاطون أن الفنون بكل أشكالها بما في ذلك التدوين والأرشفة أمرٌ مخالف للطبيعة، ومحاولة بائسة لتقليدها، فالطبيعة في ذاتها لم تُحسن تقليد عالم الفكر ”المُثُل“، ومن أجل ذلك، فإن الحياة الحقيقة ليست ها هُنا! لأن هذا العالم غيرُ مُتكاملٍ.
فقد تمّ تشويهُ المُثل والابتعاد عنه مرّتين، الأوّل هو في عدم استكمال المثالية التي تؤرّق عقل البشر، ثم محاولة تقليد أو استنساخ ما هو ليس بكامِل في عالم الأبعاد الثلاثة!.. فما هو الابتعاد الثالث الذي كان ليضيفه أفلاطون؟
اليوم نعيش تقليدَ المُقلّد، فقد شاعَ بين معتادي مواقع التواصل ما يسمّى بـ”العمليات التجميلية“ وأخرى ”برامج تعديل الصّور“، فقد أصبح تقليد المُقلّد هوساً يضرب الناس، استنساخ الأفكار، ثم طُرق عيش الأفراد، ثم تقليد شكل هؤلاء الأفراد حرفياً!
قد يكون هذا تطوراً منطقيا لسلسلة التقليدات التي مقتها أفلاطون في مهدها، وقد استشرف دراية أنه ستطرأ عليها تشويهات أكثر مما هي مشوهة في الأساس!
فإن تتابع التقليد والتكرير، يُفقد المادّة الأولى قيمتها، ويغيّر وجهها الأول، وأكثر من ذلك، قد يُعطي صورة مشوّهة عنها!
فقد أحدثَ الإنسانُ في نفسه، ما أحدثهُ في الفن والأدب، بعد أن كان التشكيل تقليداً للطبيعة وتصويراً لها، انتقل إلى فن مُعاصر لا يُعبّر عن شيء سوى تشوّهات لا وعي رسّامه، أما عن الأدب، فقد انتقل إلى تتابع كلمات وفقرات غير واضحة المعنى، ولا مقصد لها، ولا تدرس الواقع إلا بشحّ شحيح وبشكل غير علمي.
لكن آرسطو، خالف معلمّه في نظرته للفن، وقد بارك التأريخ والتوثيق والحفظ، مؤكداً أنه أمرٌ يحفظ الطبيعة والتاريخ والتعاليم من الضياع، دون أن يلقي بالاً للتشوهّات التي قد تحدث، لأنّه لا يؤمن بالانطواء الأفلاطوني على المثالية.


Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف

الاثنين، 21 يونيو 2021

الولادة الثالثة



📌الولادة الثالثة!

لقد تعلّمنا ونحنُ صغار بأننا يجبُ أن نحبّ المُعلّم، فللمُعلّم الفضلُ في بناء قاعدتنا العِلمية والفكريّة، ثم تعلّمنا أن نُحبّ المُدرّب، مُدرّبنا في الرياضة التي نُمارسها، في مُعلّم الموسيقى، في شيخِ المَسجد الذي يُساعدنا على القراءة غيباً وفهم القرآن، وبعد أن يشتدّ عضضنا ويَتَقَعقعُ صوتنا، نتعلّمُ حُبَّ من لم يُطلَب منّا حُبّه، وهو نوعٌ من الولادة الثانية للفرد، بعد الخروج من رَحم أمّهِ، يَخرُجُ من رَحِمِ التَّوجيه العائلي، ويَختارُ من يجدِهُ قُدوة ومِثالاً، من يراهُ يتمثّلُ في ذاتِه المُستقبليّة، وهنا يُطيلُ البقاء أغلبُ الناس، ويَعجزون عن اقتحام الولادة الثّالثة: التحرُّر مِمّا تهواهُ النّفس، والبحثُ عن ما ينفَعُها!
بين الهَوى والتعلّم خيطٌ رفيع، رغم التباعد بين المُصطلحين، وقد يَقَعُ الفُضوليُّ في تعلّمِ ما يهوى، وليس تعلّم ما يحتاجهُ، فكيف يكون ذلك؟ وما المُشكلةُ في ذلك!
عندما ينطلقُ أحدنا في الحياة، بعد ”الولادة الثانية“، وينتهي من حبّ مُدرّس الموسيقى، وشيخ المسجد، ومُدرّب الكارتيه..لأن الاختيارات الأولى غالباً ما تكون بتأثيرٍ من المُحيط العائلي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كنظرة أولى للصبيّ للعالم الذي وترعرع فيه، أو ما يقومُ بفعله ذلك المُحيط، فإذا كان الوالدُ موسيقياً، أو رياضياً، أو شيخاً فقيهاً، سيَبحثُ الابن عن تلك السيرورة المنطقية، عن إعجابٍ حقيقي واقتداء، أو، لكي لا يَخذُلَ محيطه، وكل هذه الأفعال تنتهي بعدَ حين عندَ غالبية الأبناء.
ينتهي التقليد، لكن لا تنتهي عنده تلك الرّغبة في البحث عن الصورة المِثالية ”الشخصية، كما يراها هو“ لتتبّع خطواتها، فلا يملك إلّا استعمال نفس الطّريقة السابقة لكي لا يبقى دونَ توجيه، والاقتداء بأحدهم وجعله ”كَ المُرشد“، مع الشّعور بالتحرّر من الاقتداء التلقائي (العائلي) والانتقال إلى الاقتداء الاختياري (الآخر).
لكنّ العمليّة ليست انتقالاً، أي، لم تصل لدرجة الولادة الثّالثة، بل هُو وَهمٌ يُشبه الوَهم الأوّل، لإنّ تلك النّظرة الطُفوليّة لم تتغيّر! نظرة أن الآخر بطل خارق وجبَ تقليدهُ، أو في أسوء الأحوال، العمل على أن نصبحَ ”مِثلهُ“ في المَدى البَعيد..وليس مِثل أنفسنا! كشخصٍ مُستقلّ تماما عن الشخص الآخر!
”كُن على سجيّتك“ نيتشه، وقبلهُ كيكرغارد!
ما المُشكلة في ذلك؟
هُناكَ عدّة مشاكل! أوّلها هو خسارة إنسان آخر، فقد وُلد لنا مستنسخٌ جديد! كذلك خسارة أفكارٍ جديدة! خسارة مواهب دفينة لم يكتشفها في ذاته! لانغماسه في الآخر، خسارة ناقدٍ آخر لتلك الشخصية! 
ما الولادة الثالثة بالتحديد؟
هي الخروج إلى العَلن، والإعلان عن وجود شخصٍ ما، في مكانٍ ما، يتكلّم بلغة ما، ويُزعجُ من حوله..لأنّه لا يُرضي ولا يَرضى إلّا بحفنة من الأفكار، ويُجادل ويَطبُخُ غيرها!
 ”يا لِتلك المُبالغة يا كاتب المقال“
أعلمُ علمَ اليقين أن الأمر أشبه بالمثالية الأدبية عند الكُتّاب الذين ينساقون وراءَ أفكارهم المَليحة إلى غاية الإعجاز، لكنّ الحقيقة أنّ الولادة الثالثة نادرة جدّاً.. فهي لمن توقّفوا كثيراً، لمن امتحنوا كلّ ما يروقهم، وما يطيب لهم، ولمن امتحنوا ما تهوى أنفسهم من ميول فكري! فعِندما تُجب بشيء تنغمسُ فيه، غير أن الذي وُلد لثالث مرّة يرفعُ سقف إعجابه بأي شيءٍ، وإن أُعجب تجاوزَ اعجابه سريعاً للبحثِ في أشياءٍ أكثر تحدّي واكثر تنافسيّة مع ذاته


Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف

الأحد، 20 يونيو 2021

لا عقلانية القُوّة



📌لا عقلانية القوّة.

وبعد أن علمتُ بحماقة تهوّري، تريّثت للحظة وفكّرتُ وتساءلت، ما مَعني أن أفقد عَقلانيّتي وهدوئي في كلّ مرّة أجد فيها نفسي مرغماً على الفعل، أو ردّة الفعل، كيف أفسّر غياب حكمتي ورصانتي، عندما أحتاج الى الهرولة أو الصّراخ، عندما أهمّ بالبطش على شيء ما، أو سحب شيء ما.
وكلّما اشتدّت الظّروف وقساوتها، أو كُنتُ على شفا حفرة، أو وجدتني مُنقذاً لمارٍّ أو صبيٍّ، أو مُنقذاً لنفسي، كُلّما قلّت حِكمتي وحيلتي، وارتفعَت هِمّتي وقَسوتي، وزاد عُنفواني واندفاعي، غير مُبالٍ بما قد يُسفرُ عنه هذا التحوّلُ اللّحظي. 
أعقِلُ أنّ مواجهة الخطر تَكون بالخَطر نفسه، ولا عقلَ مع من لاعقلَ لهُ من جمادٍ أو دواب، لكنني لا أعقلُ تقبّل العقل للمُخاطرة بالذّات في سبيل "لحظة"، وليس في سبيل سعة من الوقت والحياة، فعندما تَفقد أعزّ ما تملك، وهي نَفسك، من أجل لحظة مُعيّنة، فقد يكنُ هذا نبيلاً، بل هو كذلك، لكنّك ستفقدُ نَشوة الانتصار بذلك، أو عَيشِ ذلك، ولن تعودَ لك نَفسك، فقد تَخسرُ حياتك للأبد.
هذه توطئة، لفكرة التهوّر عندما نحتاجُ التريّث، فهل هذا التهوّرُ لا عقلانيّ فعلا؟
الجميع يعلم أن الرّجلُ، على عكس المرأة، يملك هُرموناً قَويّاً، هو ما يَجعلُهُ يختلفُ جذرياً عن المرأة، وعندما أتكلّم عن الاختلاف، فهو ليس اختلافاً ظاهرياً، أو فيزيولوجياً، بل اتحدّثُ عن اختلافٍ فكريٍّ حقيقي، ونظرة نَفسيّة مُغايرة عن الحياة.  
هرمون التستوستيرون هو المُسبّب الأوّل لوفاة الرّجل، أمّا كيفية الموت، فهو تفصيلٌ بسيط في أغلب الأحيان، قد يَعتقدُ الكثير من النّاس أن تَهوّر الرجل نابعٌ عن نقصٍ في الذّكاء أو الحكمة او التعقّل، وهذا الرّأي غير علمي، وغير قائمٍ على شيء مُعيّن، الرّجل كائنٌ صيّاد بطبعه، فهو من يشدّ الرّحال الى الفرائس، والكنوز العميقة، والقُرى البعيدة، وفي كلّ تلك الرّحلات والجولات، يُلاقي أنواعاً من الشِّرار، لذلك هوَ مُزوّدٌ بسلاحٍ يُبطلُ عقلانيّته أمامَ الخطر، لأنّ الخَطرَ في ذاته لا يُمهلك بُرهة للتفكير، فلوّ مالَ الرّجُلُ للتفكير طرفةَ عينٍ لانتهى قبل أن يُقاوم بثواني.
والانسان يَميلُ للتريّث والسّكون بطبعه، لكنّ الله شاء أن يُزوّده بهرمون يجعلهُ "يَندفعُ" للحركة، مع هرموناتٍ أخرى مثل الأدرينالين والكورتيزول اللذان يحميان الرجل والمرأة على حدّ سواء.
هذا الهُرمون، هو الذي يَدفع الرجال للحرب، لحماية العِرض، للمُغامرات والاكتشاف، وكُلّها أفعال لو "عُقلنَ فِعلُها" لما همَّ اليها الكثيرون، لأنّ خَطر الموت يَحوم في كل خطوة ومُراد، ومن منّا يَندَفعُ نحو الموت وهو في سِعة من التفكير والتدبّر، لن نَجد أحدهم وهو مُستلقٍ على سريره وفي يمينه كوبَ عصير يُردّد’ أن أجملَ ما في الحياة هو الموتُ في نِزالٍ ما’.
أجملُ ما في الحياة هي الحياةُ نفسها لا الموت، لكن الموتَ سبيلٌ للحياة في عديد من المرات، هكذا استمرّت الحضارات والدُّول والثقافات، فان لم يَكُن هناك انسٌ مهيؤون "للاندفاع" عندَ الحاجة، فمن يَضمنُ سيرورة وصَيرورة الحياة؟
القوّة لا عقلَ لها، لأنّ عَقلنتها يُفرغ طاقتها ويُرضخها، القوّة طاقتان، طاقةُ التخطيط في السّعة، وطاقة الاندفاع عند الخطر، وغيرُ هذا يُعتبرُ اختلالاً لا عقلانية البشر، فما يَحدُثُ من تراخٍ عند جنس الذكور، هو خللٌ هُرموني قد بدأ منذ عقدٍ من الزّمن، وأنّ قلّة المغامرين والمكتشفين والمُندفعين تنعكسُ سلباً على استمراريّة الحياة بشكلها الطبيعيّ التي نشأت عليه.

المقال 170
Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف

الخميس، 17 يونيو 2021

نقطة جودوين



قانون جودوين، أو نقطة جودوين، أو مرحلة جودوين، هي ”نظرية“ طورها المحامي الأمريكي مايك جودوين، حيث وضع هذا القانون عام 1990، مؤكداً أن ليس لقانونه هذا أي قيمة علمية.
 طور قانونه بعد قضاء بعض الوقت على Usenet ، وهو منتدى افتراضي كان موجودًا قبل الويب، بحيث أن كلما طالت مدة المناقشة عبر الإنترنت، زادت اِحتمالية العثور على مقارنة تتضمن الإقتراب من النـ،ـازيين أو هتلر!.
 عادة ، يكون هذا القانون صحيحًا عندما يكون هناك ذكر ”للنـ،ـازية“ في نقاش لا علاقة له بالموضوع الأساسي! هناك تعريفات مختلفة معطاة لنقطة جودوين! عندما يخرج النقاش عن السيطرة ، نعلم أنه تم الوصول إلى نقطة ”جودوين“ القاضية!
فكلما شعر الفرد بخسارة الحوار أو الحجج..، كنوع من السفسطة، يقترب من نقطة جودوين..، أي اتهام الآخر بالـنـ،ـازية أو الفـ.ـاشيّة! 
لم يذكر مايك جودوين عن "نقطة" جودوين، بل اكتفى بـ"وضع نظرية" لهذا القانون.
 قبله ببضع سنوات، أي في الخمسينيات من القرن الماضي، تحدث الفيلسوف ليو شتراوس عن ظاهرة تسمى "اختزال المقاربة لـ هتلر"! كانت الفكرة هي استبعاد ”حجة الخصم“ من خلال ربطه مباشرة بهتلر أو النـ،ـازية.
لذلك قام غودوين ببساطة بتطبيق فلسفة شتراوس على ”الإنترنت“.
نقطة جودوين هي موضوع ثقافة الويب!
إن عمليّة التشبيه بـ الـ،ـنازية أو هتلر عندما لا يكون هناك ما يربط بينهما أصبحت لعبة بالنسبة لمن يسمون بالمتصيدون! أو السفصطائيون المعاصرون، المتصيد هو الشخص الذي يهدف من خلال سلوكه على الإنترنت إلى إثارة ردود الفعل من لا شيء، لعب دور الضحية، الفوز بالضربة القاضية، ”بضربة جودوين“، وإثارة الجدل! بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يُسخّر هتلر من خلال الميمات الساخرة، من قبل ”الكوميديين“، من خلال المحاكاة الساخرة لخطبه، أو لمحاكاة الديكتاتورية!
لذلك أصبح الوصول إلى نقطة جودوين لعبة حقيقية بالنسبة للبعض.. وسوف أدرج بعص الأمثلة من مجتمعنا..
نقطة جودوين في الواقع المعاش!
إن قانون جودوين لا يقتصر فقط على العالم الافتراضي، فعلى سبيل المثال: هناك سياسيون وصلوا بكلماتهم أيضًا إلى نقطة غودوين، مثل خطابات دونالد ترامب التي يصل بها مباشرة إلى نقاط المقارنات الحادّة، كوضع كل العرب في قائمة الإرهـ،ـابيين والمكسيكيين كلهم كمروجيين للمخدرات، تشبيه الخليج بالبقرة الحلوب، الصين بالعدو المباشر، وهي كلها نقاط جودوين، بالعاميّة، نقطة جودوين هي نقطة ”من الآخر“!
وكمثال آخر، قال Laurent Wauquiez متحدثا عن (الإنجاب بمساعدة طبية) "كل هذا له اسم! إنه تحسين النسل!  إنها طريقة نـ،ـازية!".
كذلك قال بيير موسكوفيتشي في عام 2010 ، عندما تم طرد الغجر من فرنسا: ”إن هذا المناخ يشبه نظام "فيشي للغاية"، ونظام فيشي الفرنسي كان مواليا لهيتلر.
يجسد هتلر والنازية في الغرب، شخصية الشر المطلقة،
بحيث يتم استخدام ”نقطة جودوين“ للمقارنات بالشر المُطلق! لإحراج الآخر وجعله يبرر عدم انتسابه لذلك الشر، عوض طرح حججه!
في مجتمعنا الجزائري، نقاط جودوين توزع دون هوادة، بشكل عشوائي، قليل الحجة يضع الآخرين دائما في مقارنات مع الشر المطلق! أو بأسخف ما يوجد فوق البسيطة.
لإنهاء أي حوار، يتّهمك الآخر بالزندقة، بالجهل، بالعَمالة، بالموالاة، بالإنتساب لجماعة سياسية او دينية متطرفة، يربط بين حديثك وحديث آخر مشابه ليقنعك أنك تروج له، ولأفكاره كلها!
نقطة جودوين، هي طريقة جديدة لوضع الحواجز وإغلاق النقاشات، حيث صرنا نشهد هذا في كل الحوارات والجدالات الدينية والسياسية في التلفاز، إنها سفسطة العصر! لما تُحادث الآخر إذا كنت ستخىج ورقة الجوكر عند أول اختبار حقيقي في ميدان المناظرة!


Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف

الأربعاء، 16 يونيو 2021

جنون الحُكماء



النجاح في مجال مُعيّن يتطلّب مستوى عال من التركيز المُستمر، متواصلة وجهد بدني ونفسي، وهذا قبل أن يكون النّاجح موهوباً، فالموهبة دون صقل تبقى حَبيسة عند صاحبها.
الموهوب والعَبقري في مجاله، له مُتنفّس وعادات غريبة، وسلوك يختلف جذرياً عن عادات وسلوكيات الآخرين، مما يضعه في خانة المَجنون! وقد يعاني العبقريُّ من نسبة من الجنون فعلاً، مثل الغباء الكبير، الذكاء الخارق يشكّل ”خللا“ في سلوك ما، اجتماعي أو فردي، نظراً لإهمال الفرد لا إرادياً لبعض الأعراف أو العادات أو السلوكيات ”العادية“.
في هذا المقال سأكشف عن بعض العادات المجنونة، والأخرى المُخزية، لبعض الفلاسفة المَشهورين، والتي كانت سبباً مباشراً أو غير مباشر في ”ابتعاد الناس عنهم، أو ابتعادهم عن الناس“!
ديوجينوس كان ابن رجل ثري ومختلس في نفس الوقت، ما جعله يرحل عن تلك المدينة ويقرر ان يعيش حياة الزّهد، معظمها في الشارع وهو عارٍ تماما، عُرف عنه الحكمة، في يوم من الأيام قدم إليه الإسكندر الأعظم، وعندما طلب منه أي شيء ليحققه له، لأنه كان معجباً به، قال له: ”فقط ابتعد قليلا لأنك تحجب عني ضوء الشمس“، فقال الإسكندر:”لو لم أكن الإسكندر لتمنيت أن أكون ديوجينوس“.
كان ديوجين يقضي حاجته في الشارع أمام الناس، وكان يتبوّل على الأشخاص الذين لا يحبّهم! ومع ذلك، كان يأتي إليه الناس ليدرسوا عنده.
طلب النبلاء من سقراط عند محاكمته، ما هي أعدل الأحكام في حقه، بما أنه قد أحدث الفتنة في قومه! فقال لهم:” أن يتم توظيفي في الحكومة الآثنيّة!“ ما أثار غضبهم.
كان إماونيل كانط معادي للبيرة على عكس معظم الألمان، لدرجة أنه كان يطلب من أقرباء كل مريض أو ميّت، إن كان قد شرب البيرة قبل هذا!
كان ينهض كل صباح على الخامسة، يشرب كوبين من الشاي ويدخن سيجارته الوحيدة، ويدوّن إلى غاية الثامنة صباحاً، ثم يذهب ليدرّس الى غاية الحادية عشر، كان يدعو صديقين أو ثلاثة بين الواحدة والثانية زوالا للأكل والحديث، بعدها يخرج للتنزه ويقوم بالتنفس من أنفه فقط!  وينام على العاشرة ليلاً، يُقال أنه لم يغادر مدينتن قطّ ”كولينزبرغ“، حتى أن الناس نظّموا ساعاتهم على وقت مروره، وأسموا حيّاً هناك باسم ”ذهاب الفيلسوف“.. وهذا طول حياته.
سبينوزا كان كثير التفكير والكتابة، فكانت وسيلة الراحة والمرح بالنسبة له هو إعداد ”معركة بين العناكب“، أو أن يضع بعضاً من البعوض في شبكة العناكب، ويبقى ينظر إليها مستمتعاً بذلك الصّراع.
إبكتيتوس كان يبقى ساكناً متجمّداً عندما كان يضربه سيّده في قدمه حتى يكسرها! لكن هذا ليس أغرب ما في الرواقيين، لأن قصّة موت سينيكا أعجب بكثير، كان الإمبراطور نيرون تلميذا لذى سينيكا، وعندما أصبح إمبراطوراً.. يمكننا القول أنه أصبح مجنوناً، حيث أنه حكم على سينيكا بأن يموت منتحراً، وافق سينيكا، فقام بضرب عروق معصمه بالسّكين، ولكن الأمر لم يجدي، فراح يضرب عروق كاحله، ولكن العملية لم تكفي، فطلب سينيكا بان يحظروا له سمّا، فلم يكفي ذلك، فطلب بوضعه في حوض ماء لكي يسرّع من دورته الدموية، فلم يكفي ذلك، فطلب أن يأخذوه إلى غرفة ساخنة مثل ”السونا“.. إلى أن مات.
شوبنهاور، ورّث كل ما يملك لـكلبه، ليس هذا فقط، شوبنهار كان يكره الناس.. لكن بالأخص الفرنسيين، حيث قال” العالم له القرود ..وأوروبا لها فرنسا“.
كتب روسو في اعترافاته أنّه كان يُحبّ تلك المرات التي كان يُضرب فيها من خلفيّته من مربّيته، إلى درجة أنها لم تعد تضربه بل أصبحت تحجزه في غرفته فحسب!.. الأمر الذي كان يضحك فولتير بشدّة، ويذكرها في كل مرة يريد أن يسخر منه!
طاليس كان يهتم بالفضاء والكواكب كثيراً، لدرجة أنه في يوم من الأيام سقط من مكان عال لأن رأسه كان دائماً نحو السماء!
كان الفيلسوف الدنماركي كيكرغارد يحاور نفسه! حيث يرسل برسالة باسمه ويرد باسم مستعار.
من أغبى ما كتبه أرسطو هو أن.. المرأة خطأ طبيعي، أي أن الطبيعي أن يولد الإنسان ذكراً، لكن لإعاقة ما، يصبح امرأة.
نعم.. للحكماء جنونهم، وللمجانين طفرات حكيمة!


Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف

الاثنين، 14 يونيو 2021

مجتمع الرقابة ”المُراقب“



في كتابه المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، أعاد ميشال فوكو فكرة ”بانوبتيكون“ للواجهة لـ جريمي بنتهام،  وهذا المصطلح يعني بأن ”تشاهد الآخر دون أن يراك“،  اصل هذه الفكره هي عبارة عن سجون دائرية العُمران،  في داخلها زنزانات بشكل دائري، يتوسط تلك القاعة الكبيرة برج مراقبة، المراقبون داخل ذلك البرج يستطيعون أن يشاهدوا جميع الزنزانات، بين المساجين لا يعلمون إن كان هناك أفراد داخل ذلك البرج أو لا، وهذا ما بجعلهم ”يفترضون“ أنهم مراقبون طوال الوقت، مما يجعلهم يُعدّلون سلوكهم بنفسهم وبشكل تلقائي.
أخذ ميشال فوكو هذه الهندسة المعمارية وحوّلها إلى مفهوم قد يتم تطبيقه في هياكل أخرى، وقد حدّد ستة معايير لهذا المفهوم!
١- أن تكون مشاهداً من الجميع وغير مُراقب في المحتوى، نعلم جميعاً بوجود المراقبة، لكننا لا نستطيع ان نثبت وجودها.
٢- الرقابة تكون تلقائية وغير فردية، إما انها غير بشرية، أو لا يمكننا مشاهدتها.
٣- عملية ”الحديقة المَلكية“ والمُختبر، أي تقسيم المجتمع الى قطاعات مثل المساجين، واخضاع كل قطاع لتجارب معيّنة.
٤- التطبيقات المتعددة، أي تعدد أشكال عملية ”بانوبتيكون“.
٥- الاقتصاد، في شاكلة المواد والتقنيات الفردية.
٦- الجانب العملي.
قسّم كل من فوكو ثم دولوز المجتمع إلى ثلاثة:
من 1600م الى 1800م المجتمع السيادي، وهو مجتمع اعتمد على العقاب (حكم إعدام)
من 1800م الى 2000م المجتمع التأديبي، وهو مجتمع اعتمد على تسيير المؤسسات المغلقة (سجون، مستشفيات، مدارس..)
من 2000م الى يومنا المجتمع المُراقب.
_
يقول دولوز: « نحن في أزمة عامّة في الأماكن المغلقة، سجون، مستشفيات، شركات، مدارس، عائلات، يجب إصلاح المدرسة، إصلاح الصناعة، إصلاح المستشفى، إصلاح المؤسسة العسكرية، إصلاح السجون.. لكن الجميع يعلم أن هذه المؤسسات قد انتهت، ما يحدث الآن هو مسايرة سكرات موتها، وتشغيل الناس الى غاية تركيب قوّة جديدة..قد تطرقُ أبوابنا، إنها مجتمعات الرقابة من تعوض المجتمعات التأديبية».
بالنسبة لدولوز، المصنع في السابق كان عبارة آلة انتاج كبيرة بنسب أجور منخفضة، أما المؤسسة، فهي تبحث عن رضى العامل ورغبته في العمل، في السابق، كان دور المؤسسات ينتهي، أي أن عمل السجن، والمستشفى، والمدرسة، سينتهي في وقت معين، أما في مجتمع الرقابة، فعمل المؤسسات لا ينتهي، هو تكوين دائم للفرد، رحلة مستقيمة غير منتهية، في المجتمع التأديبي، كان توقيع الفرد يكفي لتمييزه عن الآخر، واثبات وجوده، في مجتمع الرقابة، الفرد عبارة عن ملف وأرقام صالحة لأجل طويل، الفرد مراقب تلقائيا من جميع النواحي بشكل آلي (غير بشري)، فهو لا يشاهد تلك الرقابة، لكنها تشاهده.


الاثنين، 7 يونيو 2021

حياةُ الفكرة



📌«التفكير من الذات».. دعوة للتفرّد أم  للسرقة الفكرية؟

يستعرض الكثير من المفكرين عضلاتهم الفكرية على عامة الناس، عندما ينطلقون في الحديث عن أمور فلسفية أو علمية، اجتماعية أو نفسية، دينية وما ورائية، يدّعون في كثير من الأحيان أنّ تلك التحليلات والنتائج من بنات أفكارهم، وكأنّها إلهامٌ من السّماء، وهنا، وجب تحديد ”قيمة“  وأبعاد هذه ”المحاولات“ الفكرية، ووضع بعض النقاط على الحروف، لأن عامّة طُلّاب العلم والفضوليون، لا يبحثون عن أصول الفِكر، بل يعتبرون صاحب المعلومة هو أب الفكرة، كنوعٍ من الأستاذية، مثل صغير البطّة الذي يعتبر أن أول ما يراه أمامه هو أمّهُ.
هُنا تكمن الخيانة العلمية الفكرية من صاحب الادعاء، لأن الإنسان يُكمّل الإنسان، والحضارة تُكمّل الحضارة، والابن يُكمّل الجدّ، فالقول بأن معالجة فكرة معيّنة جاءت من ”العدم“، أي من منطلق فردي، هو استخفاف بعقول الطُلّاب والفضوليين، واستهانة بعقول المثقفين والمطالعين، ومخاطرة أمام العلميين والمختصين.
يحدث أن يتلقّى الفرد أفكاراً وينسى مصادرها، أو نُقلت له من مصدر مغلوط، جُملاً واقتباسات وأفكار بهيكلة، فيتبنّاها، حدثت وتحدثُ للجميع، فما على الفرد إلّا أن يعلم أنه رهينة النسيان، أكثر من صاحب الاختراع، وأن يتواضع للتصويب والإعادة للمرجع.
يحدث أن تتقابل الأفكار والحِكم، وهذا بيت القصيد، فالإنسان في غالبه تكرار لما سبق، وما يأتي به من جديد يبقى نادراً وإن اتّخذ ألف مسلك لقوله ولتطبيقه.
كيف يكون الفرد مستقلاً بفكره، وفي نفس الوقت أميناً؟
على الإنسان أن يعيى للمعرفة، اقرأ، هذا هو عماد الوجود بعد العبادة أو معها، أما ما يكون بعد القراءة، فهو رهن ذكاء الفرد، وجيناته وطموحاته، على الإنسان أن يعلم ما سبقه فيه الإنسان، ولا "قدقدة" في أن عمره لن يكفي ليعلم كُلّ ما قيل وفُعل.
فيعمدُ الكثيرون على تبنّي ما ليس لهم، فلا يُقاوم أحدنا مقام ”الحكماء“ وما فيه من وقار وتبجيل وتعظيم، من صغار البطّة الأبرياء.
الأمانة، أن يُحيل المرء تلك الأشياءَ لأهلها، وأن لا يركب أيّ فرسٍ.. معتبراً أنه تائه أو لغير أحدٍ! فيُفضح بجريمة السفهاء.
ولا تحسب أن الأفكار تائهة لا رقيب لها، كذلك يفعل كل هرّ مُندفع.
لماذا نقرأ؟
نقرأ لكي نتعلّم، لكي لا نخاف المجهول، لكي نُسهّل الحياة على أنفسنا، لكي نأخذ القرارات السليمة في كل خطوة، لكن من الذي يُذكّرنا بأننا نقرأ كي لا ننسبَ ما ليس لنا من فكر وخواطر واختراعات؟ وأن نتّهم كل من يُحيل لنفسه ما ليس له، حتى بعد الدليل والإثبات!، إن هذا المسكوت عليه هو أساس قوت كل مُحتال!
لمن نقرأ؟
نقرأ للذي لا ينسب شيئاً لنفسه إلّا بين القولين، وبين القوسين، على استحياء وتواضع، ذلك الذي يعلم المنبع والمصبّ، ولا يستحي من الإكثار من قال فلان وردّ علّان.
من المُحتال؟
المُحتال هو ذلك الذي لا يخضع للتذكرة، ويستكبر عند البرهان، كثير التبرير لذاته، نادر الإحالة لغيره، جاهل بالأعراف الأدبية، ينكر الانتماء لأيّة مدرسة فكرية، لكي لا يُقال أنه يأخذ منها، كثير الادعاء أنه يقرأ للجميع، فلا تعلمُ له قِبل من دُبر، ولا تكاد تميّز له منهج من فكر قائم، قلمه ينكسر راكعاً لكلّ موضة أدبية.
ما هي مسؤولية القارئ؟
على القارئ أن لا يكون ”صاحب الكتاب الواحد“، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، والمصدر الواحد كاذب ولو صدق، لأن العلم لا يكون علماً إلا عند التصادم مع المصادر، فالعلم والفكر الذي لم يدخل في ”حرب طاحنة“ لا ثقة فيه، تسيّد فكرة عن فكرة، وعلم عن علم، لا يكون إلا بالمواجهات، فالقارئ هنا عليه أن يعلم ما يقرأ، ولمن يقرأ، ومصادر ما يقرأ، وأن يمتحن ما يعلمه باستمرار ودون هوادة.

المقال 166
Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف

الأربعاء، 2 يونيو 2021

الفلسفة الرواقية


بعد أن تكلمتُ عنها سابقاً في درس يوتيوب منذ تقريباً سنة، أعود لأكتب عن الرواقية لأهمّيتها البالغة في عالم الفكر والفلسفة، هي من أشهر المدارس وأكثرهم تكاملاً، وقد غذّت عدّت تيّارات ومفكّرين وفلاسفة.
الرواقية ترمي إلى السلام الداخلي والتوازن الإجتماعي، وتهدف إلى أن تزيدك علماً ووقار.
تهدف أيضاً إلى دفع الفرد للتحكّم في عواطفه واندفاعاته، في تصويب الحُكم على الذات، وعلى الأحداث، وعلى الطبيعة.
اتفق الرواقيون أن ما يحدُث في الكون هو نتيجة ”الفاتوم“ أي القدر، ولا يمكننا إلا تقبّل ذلك القدر، وتصويب حكمنا عليه.
إذ من المستحيل أن نُغيّر العديد من الأشياء، ولكن يمكننا أن نُغيّر نظرتنا إليها والحكم عليها، مثل الموت والمرض والنجاح والخذلان.
الهدف من قبول القدر هو بقاء المرء هادئاً مهما ساءت الأحوال، فيقال فب الدارج الفرنسي ابقى رواقيا rester stoïque.
عدم الإفراط في الحزن أو في السعادة هو أول طريق لبلوغ ذلك الهدوء الدائم الذي تعلمنا اياه الرواقية.
أكبر المفاهيم الرواقية ترمي الى تعليم الأفراد بأن يهملوا كل ما لا يعتمد عليهم، وأن يركّزوا فيما يمكنهم تغييره، فقدم حملت لنا هذه الفلسفة أكبر مثالين مختلفين، إبكتيتوس الذي كان عبداً عند سيّده، وأوريليوس الذي كان إمبراطوراً، فكلاهما لم يختارا طبقتهم وما ورثوه، فلم يحاولا تغيير ما لا يمكن تغييره، بل ركّزا على اصلاح الأمور من طبقتهما ومستواهما، وهذا ما تتميز به الرواقية عن باقي الفلسفات، المرونة.
يعتبرها الفنانون نوعا من أنواع التثبيط للمشاعر، بما أنها تحاول أن تعقلن الحزن والفرح، وأنها لا تترك مجالا للإنسان كي يفرغ مخزونه، وقد نلاحظ فعلا أن بعض المأثورات في كتاب «المختصر» تحمل نوعا من برودة الدم في التعامل مع الأحداث والمصائب.
و يراها الكثيرون، وأنا معهم، كأحسن بديل لمن يبحث عن ”التطوير الذاتي“ بصيغته الفلسفية، لأنها تصلح للتطبيق في أيّ زمان ومكان، ولا تتناقض مع أي عرف ودين، ومع اختلاف تجارب ومناصب روّادها، فهذا يجعل منها مصدراً حكيما لمن يريد أن يخطو بحذر واتزان في الحياة.
من أهم الكتب الرواقية :
المختصر، تأملات، من الغضب، من السعادة.
_
المقال 165
Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف