التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تجارة الديستوبيا



في رواية 1984 لـ جورج أرويل، لم يُصب الروائي في مُعظم توقّعاته، خاصة في الجانب الجيوسياسي، ومع ذلك نجحت الرواية نجاحاً باهراً، بحيث يمكنني القول أن الروايات من نوع ”ديستوبيا“ تثير مشاعر القُرّاء وفضولهم لما هو قادم، ولا يُهمّ إن هو تحقّق أو لا. ديستوبيا هو نوع من الخيال الذي يتصور مستقبلاً طوباوي ظلاميّ، وهذا ما اعتمدهُ معظم الكتاب والروائيين، و ما زال العديد منهم يعتمدهُ حالياً، كنوع من التقليد للروايات الناجحة شكلياً، مثل رواية جورح أرويل 1984.
لكننا نملك بدائل روائية مُميّزة، مثل روايات جول فيرن، الروائي الفرنسي الذي تخصّص في ”رواية المغامرات، أو الرحلات“، مثل ”رحلة إلى مركز الأرض“، و”رحلة حول العالم في ثمانين يوماً“، يصف في معظمها ما يعيشه، ويتوقع فيها المستقبل البعيد، في معظمه بعيد عن السودويّة. وقد يكون ابتعاده عن السودوية هو ما لم يجعلهُ الروائي الأشهر في الخيال العلمي! فقد سبقه نوستراداموس، الذي تحدّث عن المستقبل البعيد، لكنّه لم يكن سودوياً كفاية لكي يُصبح الروائي أو المؤلف الأشهر عند القُرّاء!
فكيف ولمَ يُثير هذا النوع فضول القُرّاء؟ ما الطريقة التي تجعل القارئ يتمسّك بهذا النوع من الروايات الديستوبيّة!
في الحقيقة، الروائي المُتمكّن، يستعمل أسلوباً ومصطلحات تتفاعل مع ”المستقبلات العاطفية“ للقارئ، وأسرع وأقصر طريق للتفاعل هو التخويف، ولا يكون التخويف إلا من منطلق الحاضر، أي ما يعلمه الناس، ثم العمل على ”تمديده“ كرونولجيا ومنطقياً إلى أقصى مرحلة ممكنة، وكمثال، يمكن أخذ واقعة جفاف السّدود وربطها مع ”مخاوف ندرة الماء الشروب في المستقبل“، والعمل على تمديد هذه الفكرة إلى الجفاف والجوع والبطالة، ثم الذهاب إلى المديونية، مما يجعل الامر سياسيا، بما أن الاقتراض يوازيه شروط جيوسياسية وايديولوجية.. ويمكن توسيع ذلك مثلاً في رواية بعنوان ”آخر قطرة“!
كذلك يحدث في الروايات المعاصرة، التي تستمد نفس الفكر والطرق ”الأورويلية“، انطلاقاً من معرفتنا بأن هناك جماعات سريّة، مثلث برمودا، فيروسات، فيمكن للروائي جمعها وربطها ببعضها، وتمديد الفكرة بطريقة مرعبة.
عيب هذه الروايات أن لها نهايات موحّدة ومتشابهة، "فإذا استعملنا نفس الطرق، نجد نفس النتائج!" (انشتاين)، أما جانبها الإيجابي فهو نجاحها التجاريّ، طبعاً!، لأنها رواية تتوقع شيئاً لم يحدث بعد، لكنه منوط بالواقع! فتشكل عند القرّاء فضولاً وتخيلات، وهذا كل ما يبحث عنه ”الديستوبي“.
لم أكن حالة شاذّة، فقد استعملت هذا الأسلوب في رواية بشر لا تنين، لكن الفروقات جليّة، فهذه الرواية منطقها فانتازيّ ”تنانين“، فمن غير المعقول أن يصنّفها القارئ على أنها ديستوبيا واقعيّة، رغم استعمال منطلق واقعيّ كمُنطلق.
الكتب التي تعمل على تشريح المُستقبل، هدفها العيش لأطول مدة ممكنة في الرفوف، وذلك ما يحدث، فإذا كان هناك نوعاً روائيا أو خيالياً علمياً لن ينقرض؛ فهو بطبيعة الحال الأدب الديستوبي.



Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...