الخميس، 16 نوفمبر 2023

حسنات الرفض ومساوئ القبول



حَسَناتُ الرّفْض ومساوئ القُبُول.

في الثقافة الصينية القديمة، كان على الشاب الذي يريد أن يصبح تلميذا في معبد الرياضة القتالية العتيقة، أن يمرّ بمرحلة رفض تام لسنوات، دون أي تبرير أو سبب. كان على ذلك الشاب أن يبقى أمام ذلك المعبد ينتظر متى يتم فتح الباب، ألا يقوم بأي شيء سوى الصّبر والانتظار، تحت الثلوج والأمطار والرياح والحرّ. إذا تجاوز تلك المرحلة، سيتم تعريضه إلى الإهانة من طرف بعض التلاميذ القدماء، سيتم ركله بقوّة وضربه بالعصيّ مع تحقيره والتقليل منه. إذا بقيَ هذا الشاب متشبّثا بإرادة الدخول للمعبد والتعلّم من الشيخ الحكيم بعض المبادئ الإنسانية من بينها القتال والفلسفة، سيُسمح له بالدخول بطريقة مهينة، مع تعريضه لشتى أنواع الضغوط النفسية لكي يتراجع عن فكرته تلك. 

 Avé caesar morituri te salutant! ¹

بعد أسبوعين من الكَنسِ وإخراج النفايات، وبعد استراقه النظر لكل تمارين هؤلاء الطلبة، يتم استدعائه من نائب شيخ المعبد، ليحاوره عن سبب بقائه طيلة هذه الفترة بالرغم من أنه مرفوض، فلا يجيب إلا بإشارة قبضته وهي تدكّ صدره.  يشهدُ هذا الشاب عودة الطلبة الكبار من رحلاتهم الطويلة خارج أسوار هذا المعبد، فمنهم من عادَ قويّا جسيما، يجرّ الغنائم، ومنهم من عادَ هزيلًا بئيلا، ومنهم من لم يَعد، أي أنه قد هرب أو مات. تتلاحق تلك البعثات الواحدة تلو الأخرى، وخلال أشهر، استطاع هذا الشاب معرفة الدورة الحياتية داخل هذا العالم، وشيئا فشيء، أصبح يتقرّب منه البعض ليحاورونه، وهو يذهب إليهم ليسألهم ويحاورهم، استطاع الاندماج معهم وبدأ في التمرن معهم، لقد كانت البداية في تعلم الصبر على إتقان حركة واحدة، ثم حركتين، إلى أن استجمعَ أولى القواعد. 

 لقد أصبحَ هذا الشاب قادِرًا على فهم مبادئ الصبر والتحمّل قبل أن يتلقَى درسه الأوّل في الفلسفة.  

تدرّج هذا الشاب في صفوف هذه المدرسة لسنوات يسيرة، حتى ارتقى به الحال إلى مصاف نخبة المقاتلين والأساتذة، لقد أصبح، مع غيره، من الذين يستقبلون الشباب الذين يودون الالتحاق بالمدرسة. لكن مع مرور الزمن، تغيرت الظروف، وتغيرت معها المعايير، وانخفض سقف المتطلبات، فأصبح المعبد يستقبل الراغبين في الانضمام من الوهلة الأولى، فاكتظّت المعبد الصيني بالطلبة، لكن عدد الذين ينسحبون بُعَيْدَ قبولهم يقارب الثمانين بالمائة، إذ لم يتقبّلوا مرورهم بالمراحل الكلاسيكية في المدرسة، الكنس وجمع النفايات ورميها. أم نسبة الذين بقوا فقد أصبحوا يستعجلون تعلم الفنون القتالية، وعندما يُطلب منهم تعلم التأمّل والصبر على إتقان حركة واحدة، سيرفضون ذلك بحجة أن لا وقت لهم، فهم يريدون التدرّج السريع وأخذ التصريح والعرفان بأنهم أبناء تلك المدرسة، وكذا متخرجين منها كأساتذة.

ما الذي حدث؟  -لقد تنازلت المدرسة عن مبادئها القديمة وخفّضت من معاييرها إلى الدرجة الدنيا، إذ أن تمسكها بها كان سيعرضها حتما لعزوف الشباب على الالتحاق بها، وبالتالي غلقها المؤكد وتحولها إلى مكان يُزار كتراث لا كمركز تعليم. 

لقد أصبحت هذه المدرسة بلا معنا، تلقي التعاليم في الورق وتطلب من الملتحقين حفظها في المنزل، لم يعد الصبر إلزاميا، لم يعد هناك حصص  لإتقان الحركة الواحدة تلو الأخرى، لقد اجتمعت كل الحركات في يوم واحد، يمتحن فيها الطالب في اليوم لذي يليه.
لقد كان الرّفض عماد المدرسة لقبول النخبة التي كانت تكوّن رجالا عظماء، بدورهم أساتذةً لطلاب عظماء، والآن، صارَ القبول بداية النهاية لحقبة زمنية زاهية.

___
 ¹ تحية عكسرية رومانية، وتعني (سلامًا أيها القيصر، إن الذين سيموتون يُحيّونك)

المقال 372
#عمادالدين_زناف

السبت، 11 نوفمبر 2023

دعه يظهر..اتركه يسقط!



دعهُ يَظْهَرْ، اُتْرُكْهُ يَسْقُطْ.

يعتمد المصارع في رياضة الجودو على تهوّر المنافس، إذ يندفع هذا الأخير بثقله عليه لينفّذ خطوة المسك أو الدفع أو الرفع، فيقلب الأول قوة الاندفاع تلك إلى صالحه إذ لا يعارض مسارها بل يتحاشاها ويضاعف قوّتها نحو الفراغ، نحو الهاوية. وبالتالي فإن سياسة الاعتماد على تهوّر الآخر قد تكون من أنجح الاستراتجيات في هزيمة الآخر، فبعض الناس يملكن من الثقل والقوة والركيزة ما يجعل الصراع المتكافئ شبه مستحيل، وبالتالي فإن المهارة والمراوغة هما السبيلان الوحيدان للفوز.  يكمن إسقاط "نظريّة الجودو" أو "المصارعة" في عدّة ميادين، يقول نابليون "إيّاك أن تُعكّر خطوة متهوّرة من عدوك" فإذا أردت الفوز في بعض الأحيان، عليك أن تترك الأفضليّة للآخر، أن تعطيه مبدأ الاستفتاح، أن تترك له المجال بأن يظهر ما لديه، فمحاولة الكبت المستمرة على العدو قد لا تكون ذكية جدا إذا ما كان الخصم ساذجا، لمَ؟
لأن الخصم الساذج لا يدرك مدى سذاجته، وبمنعك إظهاره لها بشكل مستمر، هو يستغل –دون وعي- عدم معرفة العام والخاص بسذاجته، ويعتقد في نفسه ويعتقد فيه الناس أنه على درجة من الخطورة والقوة.  لذلك، أهم خطوات المعرفة هي الحكمة في تقييم الّآخر، تقييم الآخر وتصنيفه من خطر جدا إلى متوسط الخطورة إلى ساذج. إن هذا التقييم –الذي يحتاج إلى هدوء ووقت- يُغني عن إعطاء الآخر مكانة لم يكن يحلم بها. إن مقام –الشهيد البطل- لا يجب أن تُعطى جُزافا، والكثير منا يرش ألقاب البطولة لأشخاص لا يستحقون لقب إنسان حتى.    إن محاربة السذاجة والانحطاط من هذا القبيل، فمحاولة كبت السذاجة والانحطاط يعطيهما شيئا من القيمة لم تكن لتظهر بتلك الضخامة، كأن تضع ذبابتين في علبة كارتون كبيرة، ولأن الناس يحاربون الظلم إذا بدا لهم كذلك، ولا يبحثون ما وراء ذلك، فتُعطي دور المظلوم لمن كان لا دور له.  
لقد كنا نتصور إلى وقت قريب أن محاولة منع الحماقات من الظهور هو السبيل الوحيد في إيقافها، وقد كنا على خطأ جسيم جدا وجب الاعتراف به، بل كان علينا أن نُسرّع في إظهارها للعيان، وأن نُساهم بطريقة ما في أن يعرفها الناس دون ما إشهار واضح، لكي لا يتم اتهامنا بدعمها، إذ أن الهدف من ذلك هو إظهارها لا الترويج لها. 
 إن العالم يمشي بثقل نحو إشهار ما لا يصلح، وقد كنا نحن –المقاومون- نصدّ شتاء الصخور بأيدينا، عوض أن نترك تلك الصخور تحطّم كل شيء، لنريَ أن تلك الصخور ليست مطرًا بل عذابا. وقد يعترض البعض في قول إن المقاومة الفكرية تقتضي الصدّ والتضحية، ويتناسون أننا نقوم بذلك، لكننا لا نستعمل الحكمة بل نستعمل الغضب. فالحكمة تقتضي أن نترك الناس يعرفون ويتحسّسون خطورة أو سذاجة الشيء الذي نقاومه، لأن إخفاء ذلك على الناس هو فشل دعائي ذريع لحماة "الخير".
وكذا في الفكر والأدب والثقافة، فإن منع السذاجة من الظهور فكرة غير ناجحة، بل علينا أن نتركها تظهر للعيان، وأن نشجع على مطالعتها والاستماع إليها قبل أن نريهم البديل الذي بحوزتنا، لأن إعطاء الدواء لمن لا يعرف الداء يحوله من دعاية للخير إلى اتهام بالمُتاجرة. 
فعلينا أن نستقبل موجة الانحطاط استقبالا عادلا، كنوع من فسح المجال للتعبير، ونحن نعرف في قرار أنفسنا أن تلك الفسحة والترك هما السبيلان الوحيدان لنهايتها، فغير ذلك يجعلها تُعمّر –برمزيّة المقاومة- والتمرّد-، وإن إفراغ العنتريات الفارغة من محتواها لا يكون سوى بإفساح المجال للبطل الوهمي ليدخل ميدان الصراع. وقد تكون هذه الطريقة ناجحةً في عديد الميادين، فكلما وجدت "مدعيا لما لم يُعْطَهْ"، أعطهِ كل الوسائل وشجّعه على إبداء رأيه بكل الوسائل، سواءٌ بنشر فيديو، تأليف كتاب، تأسيس مجموعة، صفحة، جمعية أو حزب ما، واتركه يسقط لوحده. فإذا أثمر عمله فسيكون هذا دليلًا أن المشكلة الحقيقة ليست في أرباب السذاجة بل في مستهلكيها، وإذا لم يُثمر –غالبا بسبب الغباء المستتب الذي يتمتعون به- فهذا سيريحنا من فقاعة قد انفجرت قبل أن تصبح منطادًا.

المقال 371.
#عمادالدين_زناف