التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حسنات الرفض ومساوئ القبول



حَسَناتُ الرّفْض ومساوئ القُبُول.

في الثقافة الصينية القديمة، كان على الشاب الذي يريد أن يصبح تلميذا في معبد الرياضة القتالية العتيقة، أن يمرّ بمرحلة رفض تام لسنوات، دون أي تبرير أو سبب. كان على ذلك الشاب أن يبقى أمام ذلك المعبد ينتظر متى يتم فتح الباب، ألا يقوم بأي شيء سوى الصّبر والانتظار، تحت الثلوج والأمطار والرياح والحرّ. إذا تجاوز تلك المرحلة، سيتم تعريضه إلى الإهانة من طرف بعض التلاميذ القدماء، سيتم ركله بقوّة وضربه بالعصيّ مع تحقيره والتقليل منه. إذا بقيَ هذا الشاب متشبّثا بإرادة الدخول للمعبد والتعلّم من الشيخ الحكيم بعض المبادئ الإنسانية من بينها القتال والفلسفة، سيُسمح له بالدخول بطريقة مهينة، مع تعريضه لشتى أنواع الضغوط النفسية لكي يتراجع عن فكرته تلك. 

 Avé caesar morituri te salutant! ¹

بعد أسبوعين من الكَنسِ وإخراج النفايات، وبعد استراقه النظر لكل تمارين هؤلاء الطلبة، يتم استدعائه من نائب شيخ المعبد، ليحاوره عن سبب بقائه طيلة هذه الفترة بالرغم من أنه مرفوض، فلا يجيب إلا بإشارة قبضته وهي تدكّ صدره.  يشهدُ هذا الشاب عودة الطلبة الكبار من رحلاتهم الطويلة خارج أسوار هذا المعبد، فمنهم من عادَ قويّا جسيما، يجرّ الغنائم، ومنهم من عادَ هزيلًا بئيلا، ومنهم من لم يَعد، أي أنه قد هرب أو مات. تتلاحق تلك البعثات الواحدة تلو الأخرى، وخلال أشهر، استطاع هذا الشاب معرفة الدورة الحياتية داخل هذا العالم، وشيئا فشيء، أصبح يتقرّب منه البعض ليحاورونه، وهو يذهب إليهم ليسألهم ويحاورهم، استطاع الاندماج معهم وبدأ في التمرن معهم، لقد كانت البداية في تعلم الصبر على إتقان حركة واحدة، ثم حركتين، إلى أن استجمعَ أولى القواعد. 

 لقد أصبحَ هذا الشاب قادِرًا على فهم مبادئ الصبر والتحمّل قبل أن يتلقَى درسه الأوّل في الفلسفة.  

تدرّج هذا الشاب في صفوف هذه المدرسة لسنوات يسيرة، حتى ارتقى به الحال إلى مصاف نخبة المقاتلين والأساتذة، لقد أصبح، مع غيره، من الذين يستقبلون الشباب الذين يودون الالتحاق بالمدرسة. لكن مع مرور الزمن، تغيرت الظروف، وتغيرت معها المعايير، وانخفض سقف المتطلبات، فأصبح المعبد يستقبل الراغبين في الانضمام من الوهلة الأولى، فاكتظّت المعبد الصيني بالطلبة، لكن عدد الذين ينسحبون بُعَيْدَ قبولهم يقارب الثمانين بالمائة، إذ لم يتقبّلوا مرورهم بالمراحل الكلاسيكية في المدرسة، الكنس وجمع النفايات ورميها. أم نسبة الذين بقوا فقد أصبحوا يستعجلون تعلم الفنون القتالية، وعندما يُطلب منهم تعلم التأمّل والصبر على إتقان حركة واحدة، سيرفضون ذلك بحجة أن لا وقت لهم، فهم يريدون التدرّج السريع وأخذ التصريح والعرفان بأنهم أبناء تلك المدرسة، وكذا متخرجين منها كأساتذة.

ما الذي حدث؟  -لقد تنازلت المدرسة عن مبادئها القديمة وخفّضت من معاييرها إلى الدرجة الدنيا، إذ أن تمسكها بها كان سيعرضها حتما لعزوف الشباب على الالتحاق بها، وبالتالي غلقها المؤكد وتحولها إلى مكان يُزار كتراث لا كمركز تعليم. 

لقد أصبحت هذه المدرسة بلا معنا، تلقي التعاليم في الورق وتطلب من الملتحقين حفظها في المنزل، لم يعد الصبر إلزاميا، لم يعد هناك حصص  لإتقان الحركة الواحدة تلو الأخرى، لقد اجتمعت كل الحركات في يوم واحد، يمتحن فيها الطالب في اليوم لذي يليه.
لقد كان الرّفض عماد المدرسة لقبول النخبة التي كانت تكوّن رجالا عظماء، بدورهم أساتذةً لطلاب عظماء، والآن، صارَ القبول بداية النهاية لحقبة زمنية زاهية.

___
 ¹ تحية عكسرية رومانية، وتعني (سلامًا أيها القيصر، إن الذين سيموتون يُحيّونك)

المقال 372
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...