السبت، 20 أغسطس 2022

جِيُوسياسة المعرفة



جِيُوسِياسَةْ المَعرِفَة.
مقال مُكثّف بالمعلومات التاريخيّة، لفهم علاقة الجغرافيا السياسية مع المعرفة، بأسهل الطرق.

الجيوبوليتيك عيارة عن مادة يُدرّس فيها تأثير المناطق الجغرافية، محل البلدان والتقاطعات، في السياسة المحلية والعالمية. كذلك، هي تدرس تاريخ المناطق الجغرافية والتطورات التي طرأت عليها، وانعكاس ذلك على العقيدة العسكرية، وإ
إدارة المنطقة والإقليم.
أما المعرفة فهو مصطلح يشمل العلوم والتكنولوجيا بكل أصنافها، فالمعرفة تعني الإحاطة بالمعارف، أي المعلومات، ومن يُحيط بالعلوم يسمى عارفاً، والمُتقن في علمٍ ما يسمى عالماً أو عارفاً كذلك، أما البلد الذي يحتضن المعارف فهو بلد متطوّر وكمثال على تأثير الجغرافيا على السياسة، وبذلك على توزيع المعرفة من تلك الأمكنة، نذكر الحضارة المينوسية، و التي أنجبت مملكة كنوسوس الإغريقية، أين يتواجد قصر مينوس الأثري، التي تُعتبر مهداً للحضارة الغربية جمعاء في العصر البرونزي، ومنطقتها في الحوض المتوسط بين اليونان وتركيا ومصر جعلها منطقة استراتيجية في التأثير المعرفي الثقافي القادم. وقد كانت نشأتها في نفس زمن الأهرامات المِصرية جنوباً، وقد كانت الحضارة المصرية هي مركز الربط الافريقي والغرب آسيوي مع الحوض المتوسط. 
لكنهما ليسا أوّل المناطق الجغرافيّة الجوهريّة في المُنطلق المعرفي، فقد عرف التاريخ بابل في العراق، بيد أن منطقة الوركاء، جنوب العراق، تُعدّ مهداً للكتابة في التاريخ. أما حديثاً، فقد أصبحت مدينة شنجن الصينية هي ورشة العالم، بحيثُ يتواجد فيها أكبر عدد من المصانع من مختلف المواد -المصنوعة في الصين-، وقد كانت منطقة للصيد البحري في البداية، بيد أن الكثافة الجغرافية في تلك المنطقة جعلتها مركزاً عالميا للصناعة، وبذلك، مكزاً للسيطرة الثقافية المعرفية الصينية. 
وهذا ما يحفّز الصراع بين الصين وتايوان حالياً، فتلك المنطقة ملغّمة بالمصانع والكثافة الديموغرافية العالية، كذلك محاولة سيطرة روسيا على القرم وأوكرانيا كاملةً، فالبلدان التي تقع في مناطق التقاطع تعطي لأصحابها قوة كبيرة. 
كذلك كان مشروع طريق بغداد الألماني، قُبيل الحرب العالمية الأولي، مهداً للحرب، وهذا ما يُفسّر تواجد باب عشتار في برلين حاليا. فقد كان مشروع طريق يُشبه طريق الحرير التاريخية، التي تحدثت عنها بإسهاب في كتابي الشفق وأيضا في مقال مستقل في مُدوّنتي. 
فالطريق التجارية من وإلى، هي طريق تنقل المعرفة أيضا، وهذا ما كانت عليه فاران (اسم مكة في الكتب المقدّسة)، فطريق التجارة نحو مكة كانت غنية بنقل المعارف والمعلومات. وكذلك بغداد في العصر العباسي، فقد نقل المأمون معارف الدنيا وترجمها في بيت الحكمة، بذلك جعل من بغداد منطقة جغرافية باعثة للمعرفة عبر العالم.  
أما عن الحكماء، فإن معظمهم لا يهتمون للجانب الحَكيم من التكنولوجيا وعلاقتها بالجيوبوليتيك، عدى بعض الأمثلة المنحصرة تاريخياً مثل الطاغية الحكيم كليوبولوس، الحاكم اليوناني الاسبرطي، أحد حكماء اليونان السبع، فقد توسع دون تدمير ومجازر. والذي يقابله في قلة الحكمة الإسكندر المقدوني، الذي توسّع في الأرض دون حكمة ولا عائد معرفي لليونان. 
ونجد مثالا للحكمة الجيوسياسية والمعرفية الملك الروماني تراجان، الذي حكم أوسع جغرافيا للإمبراطورية الرومانية، فقد لامست أوج عطائها في زمنه. ذلكَ أن تراجان وحّد حضارات البحر المتوسط رغم اختلافاتهم، وهذا باعتماده على بعض الثقافات المنتشرة في امبراطوريته، فلم يكن مركزيا بل كان متفتحاً، ليجعل روما بؤرة العالم معرفيا. ويُذكر أنه كان يعتمد على أبولودوروس الدمشقي السّوري (من سلاسة الذين بنوا البتراء في الأردن)، كمهندس معماري لكل ما يصنعه، فقد كان أبولودوروس وراء بناء بانثيون روما سنة 27 ميلادية، البناء المبني بالإسمنت غير المُسلّح كعادة الرومان.
وفي عصرنا، نجد منطقة وادي السيلكون الأمريكية، التي تجمع أكبر الشركات المعلوماتية، هي إغريق العصر وبابلها ومصرها وبغدادها ورومانها، فالمركز المعرفي متمحور في تلك المنطقة، والأسلوب التاريخي واحد، طريق الحرير انتقلت إلى طريق لا سلكيّ، والمعرفة العالمية تخدم مصالح تلك المنطقة باستمرار بأسلوب الملك تراجان. 
فالمعرفة تريد أرضاً جغرافية هادئة تستقر فيها، وأرضا خصبة ولودة، وإرادة قوّة بشريّة عالية للتوسّع، فمن دون إرادة توسّع لا ينطلق شيء على الاطلاق.

استخلاص وإعادة صياغة أفكار محاضرة د.إدريس أبركان.
المقال 321
#عمادالدين_زناف

الخميس، 18 أغسطس 2022

رأب اليباب



في رأبِ اليَبابِ.
فلسفة الدوائر الدقيقة داخلَ الساعة الأمّ. 

الخرابُ يُرمّم. وليس كلّ خراب يُرمم، بل الخراب الواضح خرابه للعيانِ، الخراب الملموس قبل المعنوي. 

ولا يرمم إلا الخراب الذي بدأ من قريب، فهو الوحيد القابل للترميم. وقبل ذلك، لا يرمّم شيء غير مُعترف بخرابه، فقد يُرى الخرابُ خراباً عند فئة، ويُرى أنه مأوى عند فئة، فبيت الضِباع لا يشبه بيتَ الخيل، ولا تتطابقُ نظراتهم للحياة، رغم اشتراطهم في الحيوانيّة. ولا يكون اليباب معترف به، إلا إذا اتفق عليه الغالبية، ولا يرمّم شيء غير معروف أو واضح إن هو خرابٌ أو أمرٌ طبيعي، فربما بتشابه على الناس الهرمُ المبنيّ من التل الطبيعيّ. 

وربما لا يكون خراباً بل ثقافةً وعُرفا عند أقوامٍ، والثقافة لا ترمّم ولم يتم إصلاحها، إذ هي لا تُرى إلا بعين الصواب والتصويب، بل يجبُ أن تُستأصل وتُبتر ثمّ تُعوّض بثقافة أخرى، إذا أُريدَ الاستغناء عنها. ولا يرمّم الخراب بالخراب، ولا كثرةُ الثقوب بالترقيع، فالأولى عدم إهدار الطاقات في الاستدراكات، بل في العمل على مشروع جذري. ولا يرمم اليباب بمُداراتِ سطحه أو جوانبه، فما يوضع فوق الخراب، يَخِرُّ ويُخرّب. كذلك ينضح الخراب بعد أن يصعد من كلّ الجوانب التي طُوّق بها.  والترميم ليس إصلاحاً، بل هو ترقيعٌ للثغور والفجوات، فمشروع رأبِ اليباب أقسام، أدناها الترميم، ثم يتوسّطها الإصلاح والتسوية، فإذا استوت الأرض، يتم التطوير والإعلاء فيها على أُسسٍ صلبة متينة.

 رأب اليباب أصعب ما يمكن فعلهُ، فهو إحياء للأرض بعدَ موتها، ثم العمل على إدارة تفاصيلها الدقيقة، مثل ساعةٍ سويسريّة تستوطنُها ساعات دقيقة، تدفعُ بعضها بعضاً لتتحرّك العجلةُ الكًبرى. والمجتمعاتُ المتطوّرة عبارة عن ساعاتٍ متراصّة تُشبهُ بعضها البعض في النبض والدورة الحياتية، بينما تختلفُ في لونها وشكلها ومظهرها الخارجي. أما المُجتمعات الأخرى، بنات الأرض اليباب، فهي التي تمرّ من أمام زجاج المحلّات، تحاولُ شراءَ ثقافة مجتمع جاهزة، بَيْدَ أن الجاهزَ رُمّمَ وأًصلحَ ثمّ طُوٍّرَ لأرضه ومُناخه، لنظرة مجتمعه، الذي قد يكونُ من صنف الخيل، أو من صنف السِّنّور، أو من صنف الضّباع.  

وقد عَلمنا أن الأرضَ اليباب مرّت على مراحل تبدأ بما كانت، ثم ما صارت، ثم إلى ما عادت، وإلى أين أصبحت. وكلّها ترميماتٌ ابنةٌ للبيئة، وكلّ ما كان غير ابناُ للبيئة سقم. وقد كان الرأبُ عند المجتمعات بالتأثّر وأخذ العِبر، وليس بالاستنساخ، فلا البيت الترابي يبقى متماسكاً في الطبيعة الجليدية، ولا المِعمار المصنوع بالأقبية يتماسك في الصحراء.

 فالترميم لا يكون عشوائيا، فقد يُباد الخراب لمصلحة مشروعٍ غير ذا وجهة، وليس له مستقبل. وقد يكون الخرابُ ابن بيئته كما أسلفت، وقد يكون ما بعدهُ أكثر هشاشة. فبعض الأرَضين المأزومة لا تحتاج استئصالاً لعلاج الخراب، فإذا غابَ الترميم فُضّل التريّث حتى ينضُجَ نخبةٌ من أهلها، ولا يُستحب كنسها بالكامل. فالصّبر لجيلين أو ثلاثة، أحسن من دعوة استئصال، فيؤخذ الورم وكل ما معه من بذور صالحة، كانت لتُحيي ما حولها هي الأخرى، وتحيى في حضن بيئتها.  ولا خيرَ في أمة لا يُرمّمها أبنائها، فأهل مكة أدرى بشعابها،فيرفعون عيوبها كمن تقوم بنمص حاجبيها.  كما أن لا صلاحَ في أمة لا تأكل من زرعها، فبطونها معجونة على ترابها.

وربّما تشبّعَ مفكّروها بالعلوم، فانصهرت في حياتهم قبل أن يدّعوها، وجعلوا يترجمونها ترجمةً لا حرفيّة، ترجمةً يُحفّ منها ما لا ينبِتُ، ويُطردُ منها كل ما يُفسد الزرع والنسل. فهذه هي فلسفة رأبِ اليباب، فمن وَهِمَ أن التقليد رأب، والعنف رأب، والنقد الهدام رأب، وجلد الذات رأب، والعجلة رأب، والهروب من الواقع رأب، فإنما يُساهم في الخراب من أبوابٍ خَفيّة، وربما صنعوا لنا أبواباً نحنُ في غناً عنها. 

المقال 320
#عمادالدين_زناف

الأربعاء، 17 أغسطس 2022

عقم المادة وما تلده الفلسفة

عُقم المادة وما تلده الفلسفة.




لقد كُتِبَ في الحياة أن التفوق المادي لا يكونُ إلا بعد التفوق المعنوي النفسي.والفرق بينهما جوهري.

فمن يبحث عن التفوق المادي دون المعنوي سيُطيل الانتظار، أو يظلمُ الناس كي يصل، فإذا وصل بالظلم حرص على مكانته بالبطش والحيلة، وان تلاعب بالمصطلحات وأسماها ذكاءً وشطارة. فمن يصل بالمعنى والنفس لم يكن ذا غاية محدودة، بل يتمتع بروحانية عالية، فهو لا يعاني من نفس سقم البطّاش. وإن اشترك المادي والمتفلسف نفس المنصبّ، فهما لا يشتركان الرؤية والمَكانَة. فالروح والخاطر هما من يصنع الفوارق.

إن راحة النفس لا تُرى بالعين الجارحة، ولا تُعقلُ بالحدقة والبؤبؤ، إنما بالبصيرة والإحساس. فالذي طوّر نفسه ماديا لا معنويا لا يكونُ ذا وهرة ووقار، بحيثُ يُرى فيه الطمع والتهوّر وحب التملّك والاستئثار.

فلا يظلم المرء إلا إذا حرَصَ على الماديات دونَ المعنويات والروحانيات، فإذا لم يجعلها وسيلة في ذاتها، لن ينهار من متغيّراتها، فالمادة والمناصب أمورٌ مُتغيرة. أما العلم، بتثبيت الله، لا يُزال من القلوب والعقول بسهولة. فإذا كنزَ الإنسان العلم، فقد أبقى لنفسه جوهراً وَلوداً لتكرار المُحاولات إلى غاية فناء عمره.

فصرف الوقت في محاولة تثبيت المتغيرات هو مضيعة له، بل وجب أن يُصرف في بناء الجوهر الثابت، من طلب العلم والمعرفة من حيث أتت. فالعيش في الحياة لا يكون بنكران كامل لها، ولا غوص تام فيها.

الماديات نتيجة رزق، والرزق بالسعي، والسعي لا يكون في سبيل المتغيّر كما أسلفت الذكر، بل للثابت كي يسهل انتقالك من منصب إلى من منصب، ويسهل إعادة بناؤك للمشاريع مرارا وتكراراً، فلا تَكون بعد ذلك ابن المشروع الواحد.

فطلب الحكمة والفلسفة والفقه هو طلب دوام النعمة، وطلب صناعة الفُرص.
أما طلب المناصب والمال، هو طلب المتعة اللحظية، وطلب الحظ والقِمار.

وحب المناصب دوناً عن العلم والمعرفة من التسرّع، والتسرّع نابع من الاستياء. ذلك أن المُستاء في منافسة دائمة وهمية مع محيطه وتاريخه البائس غالباً. والمُستاء الباحث عن حرق الأشواط، لا علاقات له إلا العلاقات السامة، مبدئها الطمع والتصيّد ونصب الفِخاخ.

وبلوغ المستاء لأهدافه المحسوسة لا يُعالجه، بل سيُخفي بعضاً من عيبوه، التي تبقى في تفاصيل حياته مع محيطه، ويُبرز أخرى صارت تُغذى بالترف.

وما الذي ينمو إذا كان لا يتجدّد ويتطوّر في نموّه، فالمادة لا تلد نفسها والمناصب كذلك، فمن تطوّر ماديا لم يتطوّر معنويا بالضرورة، ينما العكس صحيح. ولا يتطوّر المرء بالنصائح إنما بالتجارب، وبادئ التجربة العلم، ونهايتها العلم.

وفي الأخير، النجاح دون فلسفة محض صدفة، والصدفة لا تتكرر، ذلك أن مُنطلقها ضبابي غير مرئي لا يحسن المرء تكراره. فمن اعتقد بالصدفة والحيل، خسر بالصدفة والحيل، ومن اعتمد العلم قبل القول والعمل، أعاد التجارب بالعلم والعمل.

المقال 319
#عمادالدين_زناف

الجمعة، 12 أغسطس 2022

فلسفة الفارس في عصرنا



فلسفة الفُروسيّة في عصرنا.
مقالة حول نفسيّة الفارس في عصر التكنولوجيا.

لم تَعد لدينا نحن المعاصرون علاقةُ بعالم الفُروسيّة. هكذا أستهلّ هذا المقال، الذي سأحاول إحياء فيه فلسفة ونفسيّة الفارس وكيف يكون منهجه في كلّ زمان ومكان، فالفروسيّة ليست فقط في حمل السّيف واعتلاء الفرس واقتحام الثغور واعلاء الرايات، هذا جزءٌ من جزءٍ من الفروسية، فالفروسيّة شقّان، شقّ نفسي، وهو الذي سأستفيضُ فيه، وشقّ عملي، والعمليّ ينقسم لعدّة أجزاء، من بينها جزء المعارك. 
فما الذي يدفع المرء إلى المعارك والمقاومة بشكل عام، وما الذي يجعله لا يعرف ما الخوف وما الشك والريبة، كيف يهمّ الفارس صوبَ هدفه وهو يعي المخاطر، هذه الجزئيات ليست سوى ترجمة لنفسيّة عظيمة جداً، أكبر من مجرّد رجل يحبّ معاركة الناس. 
الإنسان المُعاصر يُشبه دونكيشوت في رواية سيرفانتيس، أوّل رواية حداثيّة ومعاصرة، كأنها فاروق بين العالمين في مجال الفروسية. فحتى لو أرادَ دونكيشوت أن يعيش بتلك الطريقة من البسالة والشجاعة، فالعالمُ المحيط به يتنصّل من كل أخلاق الفروسيّة، إلى أن يبدو أحدنا مجنونا يحاربُ الطواحين. فرواية سيرفانتيس أظهرت أن العالم بدأ يسخر من الفروسية وأخلاقها، وأن "الفارس المتديّن" فكرة قد عفا عنها الزّمن. ذلك أن المجتمعات قد بدأت في تلك الحقبة تتّجه شيئا فشيء لفكرة التخلّي عن المروءة والفحولة لصالح الحداثة والسهولة والخضوع للرقابة العامّة مقابل المال.  وإلى جانب دونكيشوت، لدينا شخصيّة نقيضة له وهي سانشو بانثا، الرجل البدين فوقَ حماره كما يصوّره سيرفانتيس، الذي يمثّل الرجل الحداثيّ بامتياز، رجل يبالغ في العقلانية والسلامة والحذر، براغماتي يسبّق مصلحته وحماية ذاته عن خوض أي تجربة أو مغامرة خطرة في سبيل أحلامه أو دفاعا عن ثوابت معيّنة. والمثير في هذه الرواية التي آثرت الانطلاق منها، ذاك ألا رواية تضاهيها عبرةً لموضوعي هذا، فلا يُعرف إن كان سيرفانتيس يسخر من الفروسية أم ينعى نهايتها، فقدّ رواها بشكل يترك للقارئ استخلاص ما شاء، وقد كان هو بنفسه فارساً، والمعروف أنه سُجنَ هنا لفترة في الجزائر العاصمة إبان الحكم العثماني بعد معركة ليبانت الشهيرة بين التحالف الأوروبي والدولة العثمانية، "ويروى عنه أنه حاول الفرار، بيدَ أن من معه فشلوا في اخراجه، وعندما أرادَ الحرس معاقبتهم قال لهم عاقبوني أنا لوحدي." هذا وقد رويَ أن يده قد قُطعت في تلك المعركة، وقد كان البعض يسخرون من إعاقته، فكان ذلك يؤلمه ويقول إنه قد فقدها في معركةٍ سيذكرها التاريخ للأبد، ولم يفقدها في أشياء سخيفة. 
مقالة الكاتب عماد الدين زناف.
فمن عاشَ تجارب الفروسية، وكان شاعراً أو أديباً في نفس الوقت، لن تستطيعَ أن تلمس في نصوصه محل النعي والسخرية والجد والهزل، ذلك أن الحبر والورق لا يسع الآلام والتجارب، وقد يضطر الفارس إلى الاختزال بالمعاني والاشارات والرمزيات فحسب. وقد كان هذا القوس الكبير عن قصة سيرفانتيس وروايته، سواءً صحّت أم لم تصحّ كما هي، لهي مجرّد مقدّمة لمعرفة الفروسية، معناها، جانبها النفسي، وسبب غسقها. 
قبل الشروع في ماهيّة الفروسية، كل البشر المعاصرون يعشقون شخصيات الفرسان، وأخلاق الفرسان، فقد نشأنا على قصص منها حقيقيّة، مثل ما ورد على نبيّنا وأصحابه على رأسهم سيدنا عليّ، الذي كان فتى قريش، وأسد الله الغالب، تلمع أعيننا عندَما نقرأ كيف هزمَ أعتى المحاربين في جولاتٍ يسيرة، ونبقى بلا لسان عندما تنصهر هذه الشجاعة مع أخلاقه العالية وورعه وتقاه، وكذلك سيدنا خالد ابن الوليد والكثيرون من بعده. وكذلك كنا نحب مسلسلات زورو وما شابهها من أبطال يستبسلون ولا يهابون الموت في سبيل الحق. لكن هذا الهُيام بشخصية البطل هو حالة "تعطّش" لإشباع "رغبة" شبه مستحيلة في عصر قضا على الفروسيّة من جذورها، والمعلوم أن البشر يميلون لما هو غير موجود، سواءً أموراً خياليّة فانتازية، أم حضارات من الماضي ذهبت وانقضت، لكن السؤال هو، هل سيسعدُ هؤلاء البشر بحياة الفروسية تلك، وهم الذين اعتادوا أن يُدافع عنهم، وأن يصلهم الأكل والمؤونة إلى البيت، وهل سيتركون الترف حقا من أجل القيم والمبادئ؟ الجواب هو لا. لكن لحسن الحظ أن للفروسية جوانبَ أخرى يمكنها أن تُجسّد بطرق مختلفة في كل زمان. 
فإن الفروسية التي أتحدّث عنها هي الفروسية المعنوية، فلسفة الفتى الفارس التي يستحيل أن تزول ما لم يزل الإنسان من الأرض. فالفروسية ليست مقرونة بالأحصنة والرماح، ولا بالأسلحة والطائرات، بل الفروسية شعور في الأفئدة ومنهج كما ذكرت، يمكن اسقاطه على كل تفاصيل الحياة.  
لا يكونُ الفارسُ فارسا حتى يكونَ له أشياءٌ يُقدّسها.
والقداسة هنا تختلف من شخص إلى آخر، من ثقافة إلى أخرى، من معتقد إلى آخر، ولكن الفرسان وإن كانوا متضادين في كل شيء، يحترمون فروسيّة بعضهم البعض، بل ويعرفون قدر بعضهم البعض، فللفرسان أخلاق خاصة بعيدة عن البقيّة، ولقد قرأنا وشاهدنا قصص لا تكاد تنتهي، في هؤلاء الفرسان الأعداء الذين يمدحون بعضهم البعض. 
لا يكونُ الفارسُ فارساً حتى يكونَ متواضعاً. 
فالتواضع صفة العظماء في كل عصر ومصر، والمتواضع لم يتواضع في الأرض إلى لثقل ما يحمل من أخلاق وعلم وشجاعة.
مقالة الكاتب عماد الدين زناف.
لا يكون الفارس فارساً وهو يظلم الناس.
الفارس شجاع مقدام، ذو أخلاق وهمّة، فلا تراه يعامل الآخر بالقوة والحزم التي معه إلا إذا كان خصمه على سعة من التحمل. كذلك تجد المثقف والعالم والفقيه والباحث يعامل الناس، فهو لا يحتقر ولا يستعلي ولا يظلم بعلمه عامة الناس، بل هو يشتدّ مع قرينه فقط. 
لا يكون الفارس فارسا حتى يحترم المرأة. 
وصلتنا أخبار بالمئين، على شخصيات قوية تربّت يتيمة الأب. فقد كان هؤلاء أبناءً لأمهاتهم، فكانوا أشدّاء أقوياء، وفي نفس الوقت متواضعين ومتخلقين، والفارس الحق يعلم فضل أمه، وبذلك يعلم قيمة المرأة في كل شيء، فهي أم أو ستكون كذلك، ولا تُعامل الأم إلا باحترام، ولا يعاملها بالقوة لأن ذلك من الجبن والحقارة، بل يعاملها باللين مهما حاولت أن تستقوي عليه، فهو يحفظ مكانتها وقلة حيلتها. 
لا يكون الفارس فارساً وهو ينكسر للباطل.
الفارس صاحب مبادئ، وحياة الفارس هي حياة صراع طوال الوقت، لا يتخللها الا شيء يسير من الراحة. صراع مع الذات والباطل، فمن ينكسر لهواه انكسر لكل شيء بعده. الفارس لا يتوسّل الطرق الملتوية ولا يخون أبدا، وهو لا يكذب إلا للإصلاح.
لا يكون الفارس فارساً وهو ينتظر المدح والثناء.
من يعمل كي يُقال عمل وفعل هو إنسان سخيف وسطحي جدا، من ينتظر الثناء فارغ يريد ملئ نفسه بآراء الناس، ومن الناس من يكذب في رأيه وينافق ويتملق، فالمصالح رأس مال البشر، فمن يكسر نفسه ويذلها من أجل سطر من الشكر، ليس له حظ من الكرامة قبل أن يكون له حظ من الفروسية.
لا فروسيّة لأحدٍ دون هدف نبيل.
الأهداف الشخصية محمودة، لكنها لا تساوي شيئا أمام الأهداف العظمى الباقية، وهدف العظماء عظيم مثلهم. فأهداف الفارس هو العطاء للمحيط والأمة والبشرية جمعاء، هدف الفارس أن يضيف أشياء لا أن يسلب ويستهلك فقط، الفارس مِعطاء لا أخّاذ.
مقالة الكاتب عماد الدين زناف.
هذا جزء يسير من السيرة الذاتية التي يجب أن تصاحب كل مدّع للفروسية، فالفروسية عملية نفسية معنوية وليست وظيفة زمكانية. فالفارس مُحارب نعم، يحارب في كل الميادين الممكنة، وان لم يعد هناك وجود لميدان الحرب، بقيت ألاف الميادين ليثبت فيها المرء فروسيته.

المقال 319
#عمادالدين_زناف

الخميس، 11 أغسطس 2022

فلسفة الزينة


فلسفةُ الزينة. 
مقالة منهجية في التعاطي مع المال والبنون.

لقد اعتدنا سماعَ العديد من الناس، يكررون ما قاله أجدادهم في أن المال وَسَخُ الدنيا، وأن البنون تكاثر بلا معنى عندما لا تكون هناك مؤهلات ومرافق ومستقبل واضح. ولكي أكون صادقاً، هذه المقولة يمكن أن نأخذها بشقّين، الأول هو أخذها كجملة خبريّة، وهذا خطأ فادح ومُغالطة منطقيّة، وسأشرح لمَ، والثانية أخذها كجملة تعليلية، وهنا يمكن أن نقبلها بعلّة، والعلّة هنا هذه العبارة قد تكون صحيحة -إذا- اُستعملَ المال بطريقة سلبية، أو إذا تمّت عمليّة التكاثر في المجتمع، بلا منهجيّة ولا تخطيط ولا دراسة وانشاء مؤسسات، أي، أخذ أصحاب هذه المقولة بالنتيجة كحُكم مسبق، وأخذوا النتيجة 'الممكنة" مكان السبب، وتناسوا أنها ليس بقاعدة.
فليسَ هناك قاعدة تقول إن المال والبنون سيّئان بالمُطلق، بل إن الآية قد ذكرت بأنها زينةٌ لكنّها مؤقتةٌ، كغيرها من أمور الدُنيا غير الباقية، فكلّ من عليها فانٍ. إذا ليسَ هنالك مكسبٌ باقٍ ومُخلّدٌ في الدنيا، سواءٌ أكان جيّدا في ظاهره أم سيّئا. لكنَّ لكلّ شيءٍ علّة وقرينة، فالمادّة بكل أصنافها والأبناء (التزاوج والتكاثر والانجاب) وغيرها من المكاسب المادية والمعنوية، مستقلةٌ عن مفهوم الخير والشر، بل هي في الحِياد في أوّل الأمر، بعدها ستنحاز لأحدهما فورَ استعمال الناس لتلك المكاسب، فإما استعمال جيدّ للمال، أم سيّء، أو تربية حسنة للأبناء، أم اهمال وغيرها من البوائق في حقهم.
 فيقول الله: المال والبنون زينةُ الحياة الدُنيا، وقد شرحها الشيخ ابن عاشور قائلاً (أريد به الموعظة والعبرة للمؤمنين بأن ما فيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو إلا زينة الحياة الدنيا التي علمتم أنها إلى زوال) لذلك كان لِحاقُ الآية هو (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) أي أن الأعمال الصالحة 'باقية، عكس بائدة وزائلة' وهي التي تدوم عندما تزول المحسوسات الدُنيوية. 
الآن، عرفنا أن المال كمادة زائل، فلا يجب أن يغترّ به المؤمن، وقد يزول مالهُ وهو لم يقضي عمره بعد، وربما قد يقضي هو ويبقى ماله من بعده، فزال هو ولم يزل مالهُ، وهي نفس الحالة ونفس النتيجة، أي أن أحدهما يسبق الآخر في الرحيل.  وقد جاء المال في الآية أسبق من البنين لأنه هدف الجميع بمختلف ثقافاتهم ومعتقداتهم وظروفهم وأزمنتهم، أما البنون، فهم مقرونون بالمال، فالمالُ أصلٌ.  فالتكاثر مقرون بالتباهي، المقرونُ في الأساس بالمال الذي سيأتي، فهما أكثر أمرين يطلبهما الإنسان.
تكلّمنا عن المال والبنون المؤقتون، وتكلمنا أن الباقيات الصالحات من ذكر وعمل مخلص لله، فما الزينة؟ 
التزيّن في عُرفنا هو الشيء الذي يُضاف على الأساس، مثل ربطة العنق في البذلة، ومثل العطر بعد الاستحمام، ومثل هُلام الشعر بعد تصفيفه. والزينة نوعان، زينةٌ يسعى إليها الانسان ويقاتل من أجلها مثل المال والبنون، فهي وإن كانت زينة فقط، فهو يراها أساسية، لأنه ينظر ببصيرة المجتمع وليس فعينيه فقط.  وزينة لا يقاتل من أجلها، مثل الذين ذكرتهم وضف إليه ما حضر في مخيّلتك من مُكمّلات.  والزينة سمّيت كذلك لأنها تُقابل الضروريات، فلو قارنا المال بالهواء والماء والصحة، فهو زينةٌ لا محالة، والمال في سياق الآية هو المال الوفير، وليس القوت الشحيح الذي يكفي الانسان يومه. 
وما يعتقد فيه الانسان عزّا وجاهاً، قد ينقلبُ عليه ذلا وانكسارا، فالمال قد يُغير نفسية الشخص ويظهر باطنه المتجبر، فيفقد ناسه وأحبابه ويستحيل وحيداً بعيدا، لا يستمتع بماله ولا يجد له حلاوة، وربما يريد ابنا ليباهي به، فيستحيل ابنه سكيرا منحرفا، أو قد يسرقه ويعقّه، فيصبح ما ظنّه زينةً جحيماً. لذلك جعل الله المال والبنون زينة فقط، لأن احتمالية الفرح بهما تبقى نسبيّة، وتُقيّد بشروط، وهي في ذاتها تُقيّد الناس وتُغيّر نفسياتهم. 
يقول رسول الله عليه صلوات الله (مَنْ أَصبح مِنكُمْ آمِنًا في سِرْبِهِ، مُعَافًى في جَسدِه، عِندهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحذافِيرِها)، فيُفهمُ من قول سيّدنا أن ما فوق ذلكَ زينة وزيادة.   حسنا، مع ذلك لم نفهم سبب تسمية المقالة بـ "فلسفة المال والبنون".
ما الفلسفة؟ الفلسفة هي طرح التساؤلات، مع محاولة إيجاد أنسب الحلول المنطقية والواقعية، وبما أننا فصّلنا في موضوع المال والبنون، بقيَ لنا معرفة التعامل مع هذا الموضوع، فهناك من يُبالغ في حب المال، مستدلّا بأنه يقضي الحوائج ويبعث بالراحة النفسية، وأن اليد العليا خير من اليد السفلى، التي تطلب ولا تكدح، وهذا صحيح لا خلاف فيه. وهناك من يبالغ في كره المال، والخوف منه، محاولا تبرير الفقر وجعله حسنةً، وربطه بالزّهد، بالرغم من أن الزهد لا يكون سوى لمن فتحت له زهرة الحياة الدنيا وتركها لله متصدّقا، وقد يكون له جزء من الحق، إذ أن المال مُخيف لذوي الأنفس الضعيفة أمام الملذات. 
وأما البنون، فأغلب الشباب لا ينظرون إلى هذا الجانب كما ينظر إليه المسنون. ومع الوقت، يُدرك هؤلاء الشباب أن هناك أشياءً أحسن من الملابس والسيارات والتنزه والعيش الباذخ، ألا وهو الأطفال. فمع النضج والتعقّل إذا كانَ من أصحاب العقول، يبدأ ذلك الشاب في التفكير فيما فوق المحسوسات، وما وراء المادة، أي في النفسيات والروحانيات ونهاياته بين الوحدة والالتفاف، وهذا ما جُبل عليه الانسان، فقد خلق الله فينا غريزة التكاثر، بما يحوم حولها من شهوات ولذات ومتاع وزينة. 
فالتعامل الحكيم مع هذه الزينة يكون في النظر إليها وانتظارها على أنها زينة كمالية لا غير، وهذا لوحده كفيل بأن يجعل المرء يعيش في راحة نفسية لا نظير لها. 
أي أن الزينة قد تأتي، وقد لا تأتي، وإن أتت، قد تُعمّر، وقد لا تفعل، وأن الزينة ليس أساس الحياة بل إضافة، وأن المجتمعات هي من جعلت الزينة أساساً، ذلك أن الناس لا يستطيعون العيش إلا بالتفاخر على بعضهم البعض، يقول سبحانه (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ _وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ_ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، فمن جعل الأشياء الثانوية أساسياتٌ لسعادته تَعِسَ، ومن تخلّى عنها بالكامل تعسَ كذلكَ، لأنه لن يستشعرَ نعم الله في رزق مادي حلال، أو في أبناء نجباء، فتجده يجحد ولا يشكر، فإما يريد المزيد، أو لا يرى في تلك النعم "رزقا" بل "شيء طبيعي"، فيشقى حتى يموت.

المقال 318
#عمادالدين_زناف

الاثنين، 8 أغسطس 2022

وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ


مقالة تحليلية عن الذين يتّبعُون النور كالفراش.

 آية يعرفها الجميع، بيدَ أن معنى التقفّي غائب عن الأكثريّة. فالتّقفي هو الاتباع والتتبّع، وقال، لا تقل رأيتُ وسمعت وأنت لم تر ولم تسمع (في تتمة الآية "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا")، كما ذكره القرطبي في تفسيره. فتقفّي الأمور التي لا نعلمها، وادّعاء العلم والقول به ليسَ أسلوباً علميا ولا أسلوب الحُكماء، فهو كما قال النبي (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، والمتشبّع بما لم يُعط تعني أنّه يدّعي شيئا ليس فيهِ، (كقول إنه مؤثّر في مجالٍ ما، وهو لم يُعطَ من ذلك العلم شيئا، أو يُعيد ذكر أشياء دونَ أن يفهمها). فإن مُصطلح النور الذي يتقفّى أثره هؤلاء أصلهُ من النّار، غير أن الناسَ لا يرون من النور سوى ضياؤه، ولا يعلمون أن وراء ذلك النور، مجهولَ المصدر، لهيبٌ قد يكوي صاحبه. والحقيقة أن العامّة تكتفي بالظاهر والظواهر والمظاهر والتظاهر، فهم لم يُمرّنوا عقولهم على السؤال والنّبش في جوهر الأشياء، وكما قال الإمام عليّ: رحم الله امرأً عرف من أين، وفي أين، وإلى أين. 
فمعرفةُ من أين جاءَ العلمُ والمعلومة وبواعثها وأصحابها، وفي أي موضعٍ وظرفٍ وزمانٍ قيلت أو فُعلت، وإلى أين ترمي وتهدف وتصبو وتهدي وتقضي، هو سبيل الإنسان الكيّس الفطن، الذي لا يكتفي بالمحسوس، بل يرى ما وراء ذلك. فمن ادّعى أنه فهم علما واتّبعه، أو ادّعى أنه فهم علماً، فأعاده كما هو بالببغاء، يُشبه قول العرب (تزبّبَ قبل أن يتحصرم) أي، أراد أن يُصبحَ مثل زبيب العنب مباشرةً حتى قبل أن يتحصرم، أي قبل أن يخضرّ ويطيب، وهو ما يدعى حرق الأشواط.
فمن أوتي الحكمة، اوتي الفراسة، وكلاهما يجعلانك لا تقفُ ما ليسَ لك به علم. 
 فقد قال الرسول عليه صلوات الله: اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله. والفراسة هي معرفة بواطن الأشياء والأماكن في لُحيظة، دون عناءٍ كبير، فيعلم بما علّمه الله إن هي توافق ظواهرها، ويكشف له إن هي تخونها وتكذبُ عليها أم تصدّقها.  والمؤمن لديه فِراسة، ودليل فراسته أنه يرى بنور الله، ولا يرى ببصره المحسوس ظواهر الأشياء البرّاقة مهما اجتمعت فيها المحاسن واجتملت. 
ومن الأشياء البرّاقة الوهّاجة، العلوم الزائفة، التي يدّعي أصحابها أنها أتت بما لم يأت به الأوائل، وما جاء هذا إلا في عصر الكسل والخمول، فالعلماء درسوا لعقودٍ مجالا واحداً، ومنهم من ماتَ ولم يُحط بذلك العلم الواحد، ولم يدّعي فهمه التام. أما اليوم، فيذهبُ بنا "عصافير القُرمود" بلمح البصر إلى النهايات، فمنهم من يفسّر القرآن بحدسه، ومنهم من يشرح النفسيات، والظواهر الاجتماعية، ومنهم من يضع قواعد فلسفية، ومنهم من يُقوّل العلماء والفلاسفة ما لم يقولوا، ومنهم من يترجم بخيانة، ومنهم يُخفي ما لا يساعف مبتغاه، ويُظهر ما يواكبُ هواه.  ونشهد كذلك مساعفةَ الذين لم يتحصرموا بعضهم بعضاً، فإذا عمّ الجهل خفّ، بل وقد يصيراُ حقّاً. وقد قال ابن قتيبة: لا يزال المرء عالمًا ما دام في طلب العلم، فإذا ظن أنّه قد علم فقد بدأ جهله. ولا يُخيّل لكم أن المتعالم سيقول إنه يعلم، بل شاعَ في الكثيرين "التواضع الكاذب"، أي، ينفون عن أنفسهم العلم، وهو ضرب عصافير بحجرٍ واحد، التنصّل من أي متابعة، التظاهر بالأخلاق، التلويح بالفضيلة، كسب ودّ العامّة والطيبين، ولكي يقال نعمَة المتواضعون من الجميع، لذلك تحدّثتُ عن الفراسة، فهي فقط من تكشفُ لكَ زيف هؤلاء، فكن مؤمناً بحق، تُرزقها.
ومن ظنّ العلمَ في نفسه فهو جاهل، ومن ظنّ العلم في أحدٍ، دون أن يتحقّق من علمه، فهو جاهل، ومن نشر ما لم يعلمه حق العلم، ولم يفهمه حق الفهم، فهو جاهل، ومن تابعهما على ذلك، فهو جاهل أيضا، حتى لو كان كل هذا المُحيط يشعّ في ظاهره نوراً وعلما. فما يدريهم أصدقوا أم كذبوا، وإن أعجبهم لسانهم وقولهم. 
وفي هذا المقال رسالة شديدة اللهجة، مفادها الحثّ عن البحث والتتبع والتأكد من كل قول، كذلك الصّمت حتى يتأكّد أحدنا أن ما سيقوله حقّ، فإن كان في شكّ فليذكر أنه في شكّ للأمانة.  ولا يكتب أحدنا ولا يتلفّظ بشيء، إلا إذا كان قادراً على أن يدافع عنه بنزاهة، أي، دونَ شخصنةٍ ولا عنفٍ، وكذا بالمصادر والبراهين. 
ونصيحتي في آخر المقال، أن نتركَ عنا تضخيم الظاهر، ولنعتني بالبواطن، فإذا كانت سرائرنا باذخة بالعلم والأخلاق، فسوف تنضح في ظواهرنا، وسيراها المتنبّهون، أما من اكتف بتزيين الظاهر، فمصير كل علبة فارغة هو الانطواء في ذاتها يوما، وتصبح صغيرة جدا.

المقال 316
#عمادالدين_زناف

الجمعة، 5 أغسطس 2022

فلسفة الأديب مع محيطه



-التكنولوجيا والأدب-
في فلسفة الكاتب والمفكر بالمحيط.

لا يجمع الكثيرون بين هذين المصطلحين المتناقضين في الظاهر ولنقل المتباعدين في المعنى والخِدمة، رغم ذلك، وكما ذكرت في قضية اقتران اللغة بالعلوم والفكر ومساهمتها في النتيجة الحضارية للعصر وبروزها في حلّة راقية لازدهاره، فإنّ التكنولوجيا مقترنة تماما بالأدب والأدب مقترن بالتكنولوجـــيا قد يُخيل لكم أنّني سأتحدث عن آلة الطباعة التي شاعت في زمن "إيفان" الرهيب قيصر روسيا، والتي ساهمت في سهولة طباعة الأوراق وكثرة الإصدارات، صحيح ولكن ليس هذا هو موضوع الفقرة. 

الموضوع هو كيف تطور الأدب العالمي مع تطوّر محيط الإنسان. القارئ للأدب الروسي يعلم علم اليقين أنّه أدب نَفسيّ داخليّ بحت. "دوستويفسكي" كان عالماَ نفسيا بامتياز كما ذكر "نيتشه" في أحد كتبه، كذلك عندما تقرأ لـ"تولستوي"، تدرك أنّه شخص يخاطب الأنفس منتقلا من التمرّد إلى الصلاح. قرأت لـ"أنطون تشيخوف"، وفي طيات مسرحياته، تجده يُعالج القضايا الحساسة أُسريا، كثيرا ما كان يحدّث عن نفسيّته وعن الحب، وإذا أردنا ربط تلك الحقبة العظيمة للأدب الروسيّ بالمرحلة التكنولوجية و الآلات، فسوف نتأكد من أنّ روسيا تلك لم تكن مع ركب الدول الغربية المتقدمة، على غرار ألمانيا وفرنسا وسوف أعرّج عليهما، فصبرا.

عندما نتحدّث عن الأدب الروسي، فسنعتبره مأساة البحث عن الدفء، دراسة عاطفية للشخصيات، الأدب الروسي يستدفئ بالقارئ الذي يشعر بقساوة المحيط، إنّه مثل العلاج النفسيّ طويل المدى، تشعر فيه بنقص حادٍ بالمتعة، والمتعة في كلّ زمن منوطة بالتقدم الحضاري التكنولوجي، فالتكنولوجيا رفاهية للإنسان، لأنّها تُسهّل عليه الكثير من المشقة، ولأنّ المتعة تُنسي البشر في الموت وما يتولّد من فكرٍ إذن لن ترحل فكرة الموت بغيابها.

أمّا عن الأدب الفرنسي فالمعروف عنه أنّه أدب المُحيط، ماذا يُقصد بأدب المُحيط؟ هو أدب يتحدّث عمّا يُحيط بالإنسان أدباء فرنسا عِلميّون جداً، تصفّح لـ"مونتيسكيو"، "فولتير" "روسو"، "ديكارت"، وستصل لنفس خلاصتي.
وعلى ذكر "ديكارت" فقد كان رياضياً لدرجة أنّه هو من اخترع الأس، فعلاوة على كونهم فلاسفة المُحيط، لا يخلو الأديب الفرنسي من مساهمة علمية، لا أغمز بهذا الأدب الروسيّ، فأنا أعلم أنّ روسيا تعجّ بالأدباء العلميين، لكنّ هل تعلم أنّ "باسكال" كان كلّ شيء في آن واحد، لذلك تسمى فرنسا بـ بلد "باسكال!"
 وهذا الأمر ما زال، للفرنسيين الفضل في اختراع الليزر، وآلة الطباعة ثلاثية الأبعاد، وتتشارك اختراع اللقاح، والعديد من الأمور، فالأدب الفرنسي منذ القرن الخامس عشر، لا يخلو من الفلاسفة العلماء، وهذا ما أثّر كثيراً في فكر الفرد الفرنسي الكاتب إذ دائماً ما يفكر الأديب فيها في إصلاح "العالم"، في إنشاء نُظم مثل العقد الاجتماعي لروسو، أدوية، مدارس، إلى غاية اختراع الأسلحة، فرصاصة مينيه غيرت جذريا نوعية السلاح.
كلّ هذه الإرادة، جعلت محيط فرنسا حيويا، رغم بؤساء هيغو، لأنّ التكنولوجيا كانت لها الكلمة العليا، فلم تكن هي الإمبراطورية الأقوى هزوًا، كلّها عوامل تكمل بعضها البعض. إنّ الأدب الفرنسي متأثر بقوة الملوك والتسلح، والفسحة في الثقافة والفنون، ممّا جعل أدبها يفكر فيما وراء فرنسا.

ولكي نتحدث عن الأدب الألماني، فعلينا تأكيد عدم اختلافه عن الأدب الفرنسي كثيرا، لكن ما يختلفان فيه يجعله مُتفرّداً جدّاً، سأقولها وبكل ثقة: ليس هناك بلد قدّم للعالم فلاسفة بالجملة وبالجودة كفلاسفة ألمانيا، ولا حتى اليونان نفسها.
دائما ما يقال، إنّ الأصل ليس في الكمّ، بل في الجودة، وأنا أقول أنّ ألمانيا كسرت هذه القاعدة، انظر إلى ألمانيا اليوم وقارنها باليونان، لماذا تغرق اليونان في الديون؟ لماذا أصبحت اليونان مهددة بالدخول إلى نصب العالم الثالث؟ هل من المعقول أن يسقط بلد "سقراط" و"أفلاطون" و"أرسطو" و"ديوجين" و"أبيقور" وغيرهم سقطةً لا وقفة بعدها؟
 "بلا جزم"، لم أصادف مقالاً ولا تحليلاً منطقيا يتحدث ويحلّل هذه المفارقة. الفرق بينها وألمانيا، هو أنّ ألمانيا لم "تسرق" فلسفة بعيدة عن طبيعتها كما فعل الهلسيتين حين تبنّوا فلسفة الشرق "دون ذكر المصادر"، والأمر الآخر هو أنّ ما فكّك اليونان هو حروب دول المدينة، كما حدث مع إسبرطة وأثينا كبلد من العالم السفليّ وآخر من العالم الأول، رغم أنّهم إغريقيون جميعاً.
ولكي أعود لألمانيا، فهي دولة ثابتة ومستقرة -لا تُقوّلوني ما لم أقله- دخلت في صراعات وتغيّر اسمها، لكنّها دولة مستقرة عرقيا وثقافيا، ممتازة بانغلاقها على ذاتها إلى غاية الحروب العالمية، نعم لديها مستعمرات، لكنّها محتشمة بالمقارنة مع فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، من هنا بدأنا نفهم مولد الفلسفة الألمانية، العالم من يأخذ من ألمانيا و لا تأخذ من العالم، نظرة الألماني الآري متعالية جدا ومتغطرسة، وعندما يريد "نيتشه" أن يغمزهم بسوء، يكرر ذلك على مسامعهم، لينتقد "كانط" وغيرهم، لأنّه يعود لعائلة بولونيّة الأصل، رغم جذوره الألمانية (حسب جان غرانييه). 
وهل عليّ ذكر سيّد الأمثلة؟ "كارل ماركس" الألماني الذي أحيا روسيا لينين ومعها العالم بأيديولوجية لم تلامس فقط المجتمعات، بل التكنولوجيا والأسلحة والتنظيم والتدريس والأدب والفنون والاقتصاد، دائما ما كانت ألمانيا في سجال مع فرنسا، وعندما يكون خصمك عالي المستوى، فإمّا أن تجاريه وبهذا تصبح أنت أيضا متوافقاً معه، أو يحطّمك وتنتهي تاريخيا وهذا ما لم يحدث لألمانيا في أسوأ حالاتها ضدّ فرنسا في أبهى عصورها.
قوة الثقافة الألمانية لم تجعلها تمر بفراغ ليتمّ ملؤه وغزوه بثقافة أخرى، ويُقال، لولا الولايات المتحدية الأمريكية التي أنقدت فرنسا في شمالها، لأصبح الفرنسيون اليوم يتكلمون الألمانية.
لن تحتاجوا أن أذكر "ليبنتز" و"جوته" و"كانط" و"هيغل" و"شوبنهاور" و"مارتن لوثر" والكثير الكثير، كلّهم أحدثوا ثورات في الأدب والفلسفة. الفلسفة في ألمانيا عبقرية موروثة. الاختراع أيضا يجري في عروق الألمان، فحياتهم كانت مميزة بالرخاء، إنّها بلد القصور الفاخرة.
قد نظلم روسيا إذا وضعناها في هذه المقارنات، بسبب جغرافية روسيا وموقعها الكامن بين آسيا وأوروبا وبعدها عن قلب الحضارة الغربية التي تتمحور في شرق وجنوب القارة. مهما كان، روسيا أنتجت أدباً يتماشى وحالة شعبها والنزاعات على طول حدودها الكبيرة كبر العالم، وليس بالغريب، أن يكون الأدب الروسي هو السيّد في بلداننا، فنحن نعيش ذلك العصر المخطوط في روايات أسياد المشاعر والحسّ والنفس.
أمّا الكتابة والأدب مع التكنولوجيا اليوم، فهما يعيشان المجد، لكنّه مجد مفكّك، لأنّ العالم يشهد شرخاً بين الشمال والجنوب، رغم تصورنا بأنّنا نعايش الغرب، إلاّ أن الفروقات لا تقل عن المئتين من السنين، وليس الأمر في الهواتف والسيارات الأمر في الفلسفة التي ترمي إلى اختراع الهواتف والسيارات.

الكاتب اليوم لم يستنتج من تجارب الأمس، والتجربة التي لا تفتأ تتكرر هي ارتباط النجاح الأدبي بالتحكم بعالم الكاتِب فحتى لو كان قلمك يساوي قلم "كانط"، فلن يتغير شيء في مجتمع لا يفهم قلم "كانط"، لأنّ أدب "كانط"، كان لعالم "كانط"، وأدب فولتير، فقد كان غرضه فرض ثقافة فولتير وأدب تولستوي، كان لتعساء تولستوي، فما هو أدبك؟ لا تُجب لم يكن سؤالاً حقيقياً.

مقال من كتابي الشفق.
#عمادالدين_زناف

الأربعاء، 3 أغسطس 2022

تجربة طاولة الأكل



تجربة ”طاولة الأكل“
لشرح عملية تحوّل "العلوم" من شيءٍ «محبّذ» إلى شيءٍ «منبوذ».
التجربة من كتاب (حرّروا عقولكم) لـ إدريس أبركان. 

في هذا المثال، تنزل طالبة صغيرة إلى البوفيه الخاص بفندق فخم، فتجد في طاولة كبيرة ما لذ وطاب من المأكولات والحلويات والفواكه، فتبدأ باللّف حول الطاولة ولعابها يتطاير من الشهية. 
وهي كذلك، يحضر النادل ويأمر بغلق باب الفندق! وبعدها يحاصر الفتاة أمام تلك الطاولة الشهية! ويأمر الفتاة بأكل كل تلك المأكولات! فإذا تركت أي شيءٍ من تلك المأكولات، ستدفع ثمنه، وتُطرد من الفندق تحت صافرات الاستهجان من الجميع، عُمال وزبائن!
ليس هذا فحسب، بل وجب أن تأكل كل شيء في ظرف ساعة واحدة فقط، تحت مراقبة النادل وعدّه.

في هذه الحالة، المأكولات لم تتغيّر، ما تغيّر هي النظرة والطريقة والقوانين.

المأكولات هي المواد التي يدرسها الطلاب، الفندق يمثل المدرسة، النادل يمثل المؤسسات التعليمية، الزبائن والعمال هم الأولياء والمدرسون وباقي الناس.  
المشكلة في ضخّ عدد هائل من المعلومات بطريقة إجبارية وبأسلوب يُشبه التعذيب، بالرغم من أن العلم أُكلة شهية وجب أن نستمتع بها، لا أن نأخذها على مضدد وفي وقت محدد، سواءً للاستيعاب أو للامتحان. 

وكذلك العلم وجب أن يُحبّب للطلاب، لا أن يُنفّرهم منه. والمعلوم أن ربط التقييم بالتنقيط أمر سلبي أكثر منه إيجابي، فيصبح لذا الطالب نوع من التوتر عندما يتم التصحيح له، فالتصحيح لا يزال مقروناً بالتوبيخ، بالرغم من أن التصحيح عملية إنسانية مُمتعة وراقية وجب أن نبحث عنها، لكن إذا ما اقترن التصحيح بالتقييم والتنقيط الذي قد يُسفر على إعادة السنة أو الطّرد، فإنه يُنمّي في ذهنية القارىء أن التصحيح أمر سلبي وجب تحاشيه، وكذلك يفعل في باقي حياته، لذلك نجد أن مُعظم الناس لا يحبون من يصحح لهم، لهذه الخلفية التي نشأنا عليها.

بهذه الطريقة انتقلت نظرتنا عن الحلويات (العلوم) من شيء نبحثُ عنه، إلى شيء يجعلنا نشعر بالنفور، خاصة داخل المدارس. فكوّنا أجيالاً تضجر من ذكر الرياضيات والفلسفة كمثال، وضف إليهم ما شئت حسب درجة التنفير التي يشعر بها كل طالب. 

فالمدرسة كوّنت في الناس رُهاباً عِوَضَ أن تدفعهم لغير ذلك. 

فكما يقول دافينشي، لا يجب أن نجعل الطبيعة تشبهنا قصراً، بل علينا أن نعمل على محاكاة الطبيعة والامتثال بها.  فكذلك نقول، لا يجب أن نجعل عقولنا تشبه المدارسي، علينا إخضاع المدارس لتُحاكي عقولنا. وبذلك، علينا نجعل تدريس المادة العلمية بشكل يتماشى وأسلوبنا في حب الحلويات وكل ما لذّ وطاب، وأن نبتعد عن الطرق التقليدية التي تزيد من التوتّر، وتوهم الناس أنهم في تقدّم، بينما يريدون التخلّص من تلك المهام في (حشو المعلومات وتحاشي التقييمات) صباح ومساء كل يوم.
 

المقال 315
#عمادالدين_زناف

الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

شعوذة مدرب التنمية



تفكيك منهجيّة روّاد التنمية والتحفيز، 
وكيف ينوّمون العوام.
مقال مخصص عن «المدربين»

إن الحديث في التحفيز والتنمية والتطوير هو شكل من أشكال المصادرة على المطلوب في غالب الأمر، فهو عبارة عن تكرار نفس الآليات بصياغة لغوية تكاد لا تختلف، ونفس الغايات المادية بغلافها الروحاني، رغم اختلاف الأماكن والثقافات والظروف والأزمنة، رغم علمنا أن الإنسان ابن بيئته وليس ابنا للعالم.

المُصادِر على المطلوب هو المستفيد الوحيد من تكرار ما يزعزع الخواطر لدى الحالمين، والتي تتجاوب مع الهرمونات، فربما كرّر مقولاته تلك عقب كلّ صباحية ومساء، ومع مرور كل مجموعة وفريق، وربما شعر بالملل وكشّر عن أنيابه إذا ما ولّى وجهه شطر الحائط، وربما استهزأ كذلك من أسئلة وطلبات هؤلاء الناس بعد مغادرتهم، وقد يسبّ بعضهم في غيبتهم، هؤلاء "الملحون على النجاح"، وقد يجعل من حياة أو أجساد أو طريقة كلام البعض نكتة مع زملاءه المدربين.  فالمدرب يعمل على تحفيز الناس وإقناعهم بأن للنجاح طُرق محددة يصفها لهم، فمن غبر المعقول ألا يصف لهم شيئا من عنده، فالثمن يكون مدفوعاً على ذلك "الاختلاف" وان كان اختلافا في الصياغة كما أسلفت الذكر.

 ويسعى ذلك المدرب على الاختلاف حتى تعظُم ذاته في نفسه، حتى يتوهم أنه أفضل من جرّب وتحدّث في التجارب، وربّما وهِمَ حقا أن الناس بحاجته دون غيره، وقد ينتقلون من رؤيته كشيخ طريقة في التطوير والتحفيز، إلى ربّ لا يخطئ، فيقصدونه في كل تفاصيل حياتهم، حتى تلك التي تتجاوز طلباتهم المادية المغلّفة براموسٍ نفسيّ.

ويتوّهم "المُتحفّزون والمتنمّين" أن مدرّبهم يملك الحلول لمشاكلهم، وأن المدرب والدٌ ومُرشد وطبيب نفسي، وبتوهّم المسكين أن مدرّبه يبادله نفس الاهتمام ونفس الخصوصية، وكذلك يعتقد هؤلاء جميعاً. فالمُتحفّز يعرف مدربّه، بينما مدربّه يعرفُ خلقاً من المُريدين. والعلاقة السامة بينهما تكمن في أنّ المدرّب يوهم مُتحفّزه أن  له مكانةً خاصة في عقله وقلبه، بينما يستحيل أن تكون كذلك، بل تلك المودّة عادة تجارية على لسانه، لكن الغريق يتمسك بطرف قماش.

وقد يوهم تلميذه أن له شيئاً خاصّاً وطاقة متحجّرة ومُكنزة لم تخرج بعد، ولن تخرج إلى العلن حتى يدفع ثمن الدورة كاملةً، فروحانيّة المدرّب والتلميذ مرتبطة بالأجرة، فما لم يدفع ويُكمل الدورة فهو لن يفهم السر، وما لم يدفع لن تُفكّ عقدته. ويقول له أن عليه مواصلة العمل بجدّ، أي، مواصلة السماع  للجمل والطرق التي تجعلك "فريداً" حتى لو لم تكن تملك الجينات المناسبة لما تريد فعله. 
فهو لن يخبركَ بأن قِصر القامة بعد سنّ العشرين، لا يسعفك بأن تكون لاعب كرة سلّة مُحترف، بل يُبقي فيك تلك الإرادة، لأن تفكير الحالم بواقعية خطر على كل مدرّب تنمية وتطوير وتحفيز.

فإذا ولجت مقراتهم، فاعلم أن الإضاءة والكراسي والمايكروفون والشاشات وما يترتّب عليه  من فاتورة كهرباء، هي ما تجعل ثمن دوراتهم غالية، وليس كلامهم الإنشائي، لكنهم يضربون عصفورين بحجرة واحدة، فالمبلغ كفيل بأن يوهم الحالم بأن الدورة غنية بالمعلومات، وكذا يكفي وزيادة ليغتنيَ المدرّب.

ولو عدنا إلى الأستاذية القديمة، فقد كان العلماء والفقهاء لا يحيدون عن منهج التعليم الحقيقي، فلا تعنيهم الأماكن، ولا المال، يل يعنيهم تكوين الطالب، وأما الربح، فهو آخر شيء، لذلك كانت تنزل البركة على الجميع. وقد كان الطالب قديماً يرى في أستاذه قدوة في العلم، بينما يرى حالم اليوم مدربه قدوة في الثراء والشهرة.

ومريدي التنمية والتطوير هم من المستاءين الذين يريدون الانتقام من حياة الفقر والاستهزاء التي عانوا فيها سابقاً، وتعويض قلة حكمتهم ونباهتهم بشراء نباهة وحكمة مطبوخة، علّهم ينجحون في التقليد كآخر الحلول.  وما غرضهم سوى الانتقام من الحبيب الذي رفضهم لفقرهم، ومن زجر الناس لهم لنسبهم المتواضع، أو لعيبٍ خُلُقيّ ما.  فقضيّة الباحث عن المناصب وعن سبلها قضية نفسيّة نابعة عن استياء من نظرة الآخر، فهيهات أن تجد من يريد تقديم شيء لدينه وبلده ولأمته، وأن يضع ذاته جانباً.

وقد يستعملون الخطاب الوعظي الديني، فهو وسيلة لحمايتهم أخلاقيا ومعنوياً، ولكي يكون حديثهم مقبولا غير مخيفاً، فانظر قول "الحمد لله" من طرف نجمٍ ما في مواقع التواصل، لتعرف أن الناس تخرّ ساجدة لمن يبيعها شيئاً من العاطفة الدينية. فالحالمين يطالبون مدربهم ببراءته الدينية، والناس تريد براءة بعضها "ظاهريا" في ذلك أيضاً. 

في الأخير، وكيلا أطيل، الكلام صار كالصورة، تستطيع أن توهم به من تشاء بما تشاء، كمن يعدّل صورته ليضعها في مكانٍ ما من الأرض. والباحث عن المناصب والمكانة والرفعة لن يبلغها إلى بتعلّم الوسائل المؤدية إلى العلوم (علوم الآلة) ثم بالإحاطة بكثير من العلوم، وذلك ما يضع ويُظهر الفوارق بين الناس لا غير، أما المناصب والمادّة فقد تكون بالوراثة دون جهد ولا عمل، وإن ضاعت بسبب جهل صاحبها بعلم الاقتصاد والاستثمار وغيرها. 

المقال 314
#عمادالدين_زناف

الاثنين، 1 أغسطس 2022

الترقية وكيف تكون



الترقية عمل داخل الوظيفة!
مقالة في مجال العمل.

الترقية هي عملية انتقال من حالة دُنيا إلى حالة عُليا، في الوظيفة أو في أي عملٍ كان، وقد يترقّى الإنسان بصيغة شخصيّة معنويّاً (ثقافياً)، أو بشكل حسّس في صورة الشهادات. وقد يُرقّى من أطراف أخرى، سواءً من مسؤوله المُباشر في المؤسسة، أو من طرف الزبائن الذين يجعلونه أشهر بالحديث عنه وعن منتوجه.

فهناك ترقية المناصب، وهي الصعود درجة في المسؤولية قبل أن تكون تشريفاً، وهناك ترقية روحيّة، ثقافيا وفكريا، أو دينياً وإيماناً، وهناك ترقية ماديّة محسوسة، كالشهادات الجامعية والدورات المستقلة، وهناك ترقية من تزكية الجمهور. 
عند الكثير من الناس أفكار مغلوطة عن الترقيات، فسوف أحاول تناولها نقطةً نُقطة لتفكيكها.

- السنوات لا تُرقّي صاحبها!
يعتقد البعض أن السنوات المهدورة في عملٍ ما ووظيفةٍ ما، قد تشفع لهم في صعودهم اجتماعيا وثقافيا، أو في الانتقال من منصبهم إلى منصب أعلى. إذا بقيَ أحدنا في مكانٍ ما يُعيد نفس العمل دون أي إضافة، فهذا يضعه في محل فريسة يمكن تعويضها بسهولة، فالذي لا يقدّم ما يجعله لا يُعوّض، فهو لن يبرح مكانه، بل إنً مكانه مُهدّد حتى بعد سنوات طوال!

-الوقت لا يتقدّم إلا بالحركة!
نستطيع إسقاط هذا القانون الفيزيائي في كل شيء، ذلك أن حركة الأرض والشمس والكواكب هي التي تصنع الليل والنهار والأيام والأشهر والسنوات. وكذلك الوظيفة والعمل الذي نختلف إليه، فإذا لم تطرأ عليه الحركة لن يكون لهو أيام وسنوات، فسيبقى مثل ساعته الأولى لا يتقدم، وإن توهمنا أن الوقت يمضي، فالعمل وأنت فيه متحجّر ليس فيه ليل ولا نهار، وبذلك، لن تلامس الترقية، خلاف الذي قد يعيد الحياة والحركة لها في فترةٍ وجيزة.

-الترقية تكون بالقيمة المضافة دائماً!
زيادة على ما شرحت أعلاه، القيمة المضافة هي الوظيفة الحقيقية المنتظرة من الجميع، بيد أن لا أحد يطلبها منك، والبعض يعتقد أن الوظيفة أو العمل هما من تعملان عليه لا هو، فمجرّد حضور الشخص والقيام بما طُلب منه، لا يجعله أهلاً للترقية، ذلك أن كل الأعمال والوظائف تحتاج لمسة إنسانية فوق المادة والروتين، وتحتاج بصمة خاصة لشخص عن آخر، ما يجعل ذلك الشخص لا يُعوّض، فالمتربصين بالوظائف والأعمال كُثر، ولا يضرّ المسؤول تغيير شخص بشخص آخر ما لم يقدم ما يشفع له ألا يُعوّض، وكذلك الجمهور، فهو لا يجد حرجاً في الانتقال من ماركة إلى أخرى، ومن شكرة إلى أخرى، ما لم يجد ما يشدّه من اختلاف حقيقي وإن كان طفيفاً.

- لا علاقة بالشهادات في الترقيات!
قد يستاء المتخرجون وذوي الشهادات من معاملتهم بشكل لا يوازي شهاداتهم، وقد يتناسى  أن الشهادات صارت أكثر من طاقة استيعاب المؤسسات، وقد تضطر المؤسسات إلى توظيفهم من درجات أدنى من شهاداتهم، فلا يقبلونها. وربما نسوا أن الترقي يكون بالخبرة الميدانية والعطاء الإبداعي، وليس في الشهادة التي تمثّل أن صاحبها قد اجتهد في استيعاب المعلومات وإعادة طرحها، بيد أن الحياة العملية شيءٌ آخر، فالحياة تحتاج مهارات إضافية أخرى مثل الصبر، النباهة، العطاء اللامشروط، المنافسة المستدامة، دراسة المحيط، تطوير العلاقات الاجتماعية والنفسية، التثقف بشكل مستمر.. وهذا كما نلاحظ مختلف تماما عن الشهادة النظرية، وشهادات الحفظ وفهم ما هو مقرّر سلفاً.

-خلاصة القول؛
الترقية لا تكون إلا بعدما يرتقي الإنسان بنفسه، نفسياً، عقلياً، ثقافياً وفي التجارب. وكذلك تكون بقبول الخسارة وعدم الاستسلام لها، وكذلك تكون في نسيان أن الوظيفة لها مزية على الموظف، بل للموظف مزية عليها، وذلك في إثراء مكانه وإزهاره بالإبداع والحركة لكي يكون الوقت عبارة عن منحنى تصاعدي، لا مستقيم استقامة دقات قلب الميت.

 
المقال 213
#عمادالدين_زناف