التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عقم المادة وما تلده الفلسفة

عُقم المادة وما تلده الفلسفة.




لقد كُتِبَ في الحياة أن التفوق المادي لا يكونُ إلا بعد التفوق المعنوي النفسي.والفرق بينهما جوهري.

فمن يبحث عن التفوق المادي دون المعنوي سيُطيل الانتظار، أو يظلمُ الناس كي يصل، فإذا وصل بالظلم حرص على مكانته بالبطش والحيلة، وان تلاعب بالمصطلحات وأسماها ذكاءً وشطارة. فمن يصل بالمعنى والنفس لم يكن ذا غاية محدودة، بل يتمتع بروحانية عالية، فهو لا يعاني من نفس سقم البطّاش. وإن اشترك المادي والمتفلسف نفس المنصبّ، فهما لا يشتركان الرؤية والمَكانَة. فالروح والخاطر هما من يصنع الفوارق.

إن راحة النفس لا تُرى بالعين الجارحة، ولا تُعقلُ بالحدقة والبؤبؤ، إنما بالبصيرة والإحساس. فالذي طوّر نفسه ماديا لا معنويا لا يكونُ ذا وهرة ووقار، بحيثُ يُرى فيه الطمع والتهوّر وحب التملّك والاستئثار.

فلا يظلم المرء إلا إذا حرَصَ على الماديات دونَ المعنويات والروحانيات، فإذا لم يجعلها وسيلة في ذاتها، لن ينهار من متغيّراتها، فالمادة والمناصب أمورٌ مُتغيرة. أما العلم، بتثبيت الله، لا يُزال من القلوب والعقول بسهولة. فإذا كنزَ الإنسان العلم، فقد أبقى لنفسه جوهراً وَلوداً لتكرار المُحاولات إلى غاية فناء عمره.

فصرف الوقت في محاولة تثبيت المتغيرات هو مضيعة له، بل وجب أن يُصرف في بناء الجوهر الثابت، من طلب العلم والمعرفة من حيث أتت. فالعيش في الحياة لا يكون بنكران كامل لها، ولا غوص تام فيها.

الماديات نتيجة رزق، والرزق بالسعي، والسعي لا يكون في سبيل المتغيّر كما أسلفت الذكر، بل للثابت كي يسهل انتقالك من منصب إلى من منصب، ويسهل إعادة بناؤك للمشاريع مرارا وتكراراً، فلا تَكون بعد ذلك ابن المشروع الواحد.

فطلب الحكمة والفلسفة والفقه هو طلب دوام النعمة، وطلب صناعة الفُرص.
أما طلب المناصب والمال، هو طلب المتعة اللحظية، وطلب الحظ والقِمار.

وحب المناصب دوناً عن العلم والمعرفة من التسرّع، والتسرّع نابع من الاستياء. ذلك أن المُستاء في منافسة دائمة وهمية مع محيطه وتاريخه البائس غالباً. والمُستاء الباحث عن حرق الأشواط، لا علاقات له إلا العلاقات السامة، مبدئها الطمع والتصيّد ونصب الفِخاخ.

وبلوغ المستاء لأهدافه المحسوسة لا يُعالجه، بل سيُخفي بعضاً من عيبوه، التي تبقى في تفاصيل حياته مع محيطه، ويُبرز أخرى صارت تُغذى بالترف.

وما الذي ينمو إذا كان لا يتجدّد ويتطوّر في نموّه، فالمادة لا تلد نفسها والمناصب كذلك، فمن تطوّر ماديا لم يتطوّر معنويا بالضرورة، ينما العكس صحيح. ولا يتطوّر المرء بالنصائح إنما بالتجارب، وبادئ التجربة العلم، ونهايتها العلم.

وفي الأخير، النجاح دون فلسفة محض صدفة، والصدفة لا تتكرر، ذلك أن مُنطلقها ضبابي غير مرئي لا يحسن المرء تكراره. فمن اعتقد بالصدفة والحيل، خسر بالصدفة والحيل، ومن اعتمد العلم قبل القول والعمل، أعاد التجارب بالعلم والعمل.

المقال 319
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...