في رأبِ اليَبابِ.
فلسفة الدوائر الدقيقة داخلَ الساعة الأمّ.
الخرابُ يُرمّم. وليس كلّ خراب يُرمم، بل الخراب الواضح خرابه للعيانِ، الخراب الملموس قبل المعنوي.
ولا يرمم إلا الخراب الذي بدأ من قريب، فهو الوحيد القابل للترميم. وقبل ذلك، لا يرمّم شيء غير مُعترف بخرابه، فقد يُرى الخرابُ خراباً عند فئة، ويُرى أنه مأوى عند فئة، فبيت الضِباع لا يشبه بيتَ الخيل، ولا تتطابقُ نظراتهم للحياة، رغم اشتراطهم في الحيوانيّة. ولا يكون اليباب معترف به، إلا إذا اتفق عليه الغالبية، ولا يرمّم شيء غير معروف أو واضح إن هو خرابٌ أو أمرٌ طبيعي، فربما بتشابه على الناس الهرمُ المبنيّ من التل الطبيعيّ.
وربما لا يكون خراباً بل ثقافةً وعُرفا عند أقوامٍ، والثقافة لا ترمّم ولم يتم إصلاحها، إذ هي لا تُرى إلا بعين الصواب والتصويب، بل يجبُ أن تُستأصل وتُبتر ثمّ تُعوّض بثقافة أخرى، إذا أُريدَ الاستغناء عنها. ولا يرمّم الخراب بالخراب، ولا كثرةُ الثقوب بالترقيع، فالأولى عدم إهدار الطاقات في الاستدراكات، بل في العمل على مشروع جذري. ولا يرمم اليباب بمُداراتِ سطحه أو جوانبه، فما يوضع فوق الخراب، يَخِرُّ ويُخرّب. كذلك ينضح الخراب بعد أن يصعد من كلّ الجوانب التي طُوّق بها. والترميم ليس إصلاحاً، بل هو ترقيعٌ للثغور والفجوات، فمشروع رأبِ اليباب أقسام، أدناها الترميم، ثم يتوسّطها الإصلاح والتسوية، فإذا استوت الأرض، يتم التطوير والإعلاء فيها على أُسسٍ صلبة متينة.
رأب اليباب أصعب ما يمكن فعلهُ، فهو إحياء للأرض بعدَ موتها، ثم العمل على إدارة تفاصيلها الدقيقة، مثل ساعةٍ سويسريّة تستوطنُها ساعات دقيقة، تدفعُ بعضها بعضاً لتتحرّك العجلةُ الكًبرى. والمجتمعاتُ المتطوّرة عبارة عن ساعاتٍ متراصّة تُشبهُ بعضها البعض في النبض والدورة الحياتية، بينما تختلفُ في لونها وشكلها ومظهرها الخارجي. أما المُجتمعات الأخرى، بنات الأرض اليباب، فهي التي تمرّ من أمام زجاج المحلّات، تحاولُ شراءَ ثقافة مجتمع جاهزة، بَيْدَ أن الجاهزَ رُمّمَ وأًصلحَ ثمّ طُوٍّرَ لأرضه ومُناخه، لنظرة مجتمعه، الذي قد يكونُ من صنف الخيل، أو من صنف السِّنّور، أو من صنف الضّباع.
وقد عَلمنا أن الأرضَ اليباب مرّت على مراحل تبدأ بما كانت، ثم ما صارت، ثم إلى ما عادت، وإلى أين أصبحت. وكلّها ترميماتٌ ابنةٌ للبيئة، وكلّ ما كان غير ابناُ للبيئة سقم. وقد كان الرأبُ عند المجتمعات بالتأثّر وأخذ العِبر، وليس بالاستنساخ، فلا البيت الترابي يبقى متماسكاً في الطبيعة الجليدية، ولا المِعمار المصنوع بالأقبية يتماسك في الصحراء.
فالترميم لا يكون عشوائيا، فقد يُباد الخراب لمصلحة مشروعٍ غير ذا وجهة، وليس له مستقبل. وقد يكون الخرابُ ابن بيئته كما أسلفت، وقد يكون ما بعدهُ أكثر هشاشة. فبعض الأرَضين المأزومة لا تحتاج استئصالاً لعلاج الخراب، فإذا غابَ الترميم فُضّل التريّث حتى ينضُجَ نخبةٌ من أهلها، ولا يُستحب كنسها بالكامل. فالصّبر لجيلين أو ثلاثة، أحسن من دعوة استئصال، فيؤخذ الورم وكل ما معه من بذور صالحة، كانت لتُحيي ما حولها هي الأخرى، وتحيى في حضن بيئتها. ولا خيرَ في أمة لا يُرمّمها أبنائها، فأهل مكة أدرى بشعابها،فيرفعون عيوبها كمن تقوم بنمص حاجبيها. كما أن لا صلاحَ في أمة لا تأكل من زرعها، فبطونها معجونة على ترابها.
وربّما تشبّعَ مفكّروها بالعلوم، فانصهرت في حياتهم قبل أن يدّعوها، وجعلوا يترجمونها ترجمةً لا حرفيّة، ترجمةً يُحفّ منها ما لا ينبِتُ، ويُطردُ منها كل ما يُفسد الزرع والنسل. فهذه هي فلسفة رأبِ اليباب، فمن وَهِمَ أن التقليد رأب، والعنف رأب، والنقد الهدام رأب، وجلد الذات رأب، والعجلة رأب، والهروب من الواقع رأب، فإنما يُساهم في الخراب من أبوابٍ خَفيّة، وربما صنعوا لنا أبواباً نحنُ في غناً عنها.
المقال 320
#عمادالدين_زناف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق