الأربعاء، 26 أبريل 2023

قانون براندوليني (سلطة الهراء)



عندما يكون تصنيع الهراء أسهل بكثير من تكذيبه.

هذا ما يسمى بقانون براندوليني، أو مبدأ عدم تناسق وتناظر الكلام. ومعناه بالمجل هو أن " الأكاذيب والمعلومات المُضللة المنشورة تحتاج إلى جهد لدحضها أكبر بكثير من الجهد المبذول في تلفيقها"

فصناعة الكذب والدعاية لا يحتاج شيئا عدى التفوه به أمام مجموعة أشخاص غير مختصين وتغلب عليهم الحميّة، فانتشاره بين أفراد المجتمع لا يتطلّب دليلا، فإذا كان من السهل إنشاء معلومات خاطئة أو استنتاج أو إدعاء فهم كاذب، وذلك من حيث الجوهر والشكل لا يتطلب سوى بضعة دقائق، فمن المحتمل أن يستغرق الأمر عدة ساعات وربما أيامًا لتفكيك كل نقطة وإظهار زيفها بطرق منهجية متينة. ورغم المجهود القائم، إلا أن هذا لا يضمن نجاحًا، لأن الضّرر قد حلّ بمجرّد إطلاق تلك الدعاية، لأن أكثر من ثمانون بالمائة من الناس لن تتغيّر عواطفهم الميالة للدعاية والكذبة الأولى، حتى بعد إصلاحها علميا.

إن المعالجة العلمية والتصحيحات المنهجية في ذاتها لن تطال مسامع كلّ من تلقوا الكذبة والمغالطة الأولى، وحتى إذا بلغتهم فهم ليسوا من أهل الإختصاص لمناقشتها، بل هم يستقبلون المعلومات حسب ميلهم العاطفي لها.

 ينتقد هذا المبدأ تقنية الدعاية التي تتمثل في نشر المعلومات بشكل همجي ومكثّف، من أجل استغلال سذاجة جمهور معين يتوسّل التفكير السريع بطريقة غريزيّة وعاطفيّة تُداعب انحيازاته المعرفية. 

إن لهذه القضية أصل تاريخي، فقد  صاغ جوناثان سويفت هذا المفهوم في كتاب "فن الكذب السياسي" سنة 1733م: "الكذبة تطير، ثم تتأرجح الحقيقة ببطء بعد ذلك. إن الحقيقة أتت بعدَ فوات الأوان، المهزلة قد انتهت.. وكان للحكاية تأثيرها" .

 تم تعميم هذا المبدأ لأول مرة في سنة 2013، من قبل المبرمج الإيطالي ألبرتو براندوليني [المدرج في الصورة] تحت عنوان: مبدأ عدم تناسق السخافة.  فقد صاغ براندوليني هذا المبدأ بعد سماعه مقابلة للسياسي الإيطالي سيلفيو برلسكوني، أدلى فيها بالعديد من التأكيدات الكاذبة دون أن يستجوبه الصحفي أو أن يناقضه فيها حتى. 

يترتب على هذا القول المأثور أن للمعلومات المضللة ميزة وخطوة استباقسة كبيرة جدا عن الحقيقة، لأن إثبات الحقيقة مكلف كثيرًا من حيث الوقت والطاقة والإمكانيات، بينما إطلاق أحكام عبثية وقصص خيالية ونظريات المؤامرة لا تكلف صاحبها سوى منصّة وحفنة من الأشخاص ليتلقّفوا تلك القصص وينشروها كالنار على الهشيم.

 في العلم والقانون،  يقع عبء "الإثبات" دائمًا على عاتق الشخص الذي يأتي ليؤكد الفرضيات والمعلومات والاستنتاجات والإدّعاءات، وإلا، يمكن لأي شخص تأكيد أي شيء دون أدنى دليل و مرجع..ثم تعمّ الفوضى بعد ذلك.  

"يخبرك قانون براندوليني أنه عندما يكون هناك وقت متساو بين شخص قال شيئًا غير دقيقٍ وغير موثٌّق وشخص  يحاول شرح سبب عدم صحته بالبراهين، فإن الشخص الذي يحاول شرح سبب فساد مقولة المُدّعي يخسر دائمًا" وهذا لأن الجملة الواحدة قد تحمل مغالطات منطقية وعلمية وتاريخية،  يتم إطلاقها في دقيقة، وتلك الأغلاط ستُعجب الناس حتمًا، بينما سيكون من الصّعب إقلاعها من خواطرهم بنفس تلك المدّة... بل يحتاج الأمر استدعاء المصادر والمراجع، وكما أسلفت، لن ينجح الأمر سوى في استرجاع نسبة ضعيفة من المغرر بهم.

المقال 352
#عمادالدين_زناف

الثلاثاء، 25 أبريل 2023

عن كسل أم إنهاك؟



هل أصبح البشر كسالى أم هم يعانون من الإنهاك؟

القضية الأولى: ما الذي حدث لشعوب أوروبا؟ 
بعد الحربين العالميتين الطاحنتين، والتي شهدت أكبر عدد ضحايا في وقت قصير في تاريخ البشرية، خرجت أوروبا مُنهكةً من الدماء التي استبيحت، وانتقلت السياسة العامة بين الغريين شيئا فشيء من الصراع العسكري البشري، إلى الصراع القانوني، أي، انتقل الغربيون إلى ما يسمى الاحتكام إلى القانون والأعراف الدولية، أو عقد قوانين ومواثيق لتسوية الخلافات. وبعد أن تجاوزوا كل الخلافات، انتقلوا إلى مرحلة جديدة قديمة، وهي العودة إلى الصراع الأيديولوجي ما قبل الحربين العالميتين، وهو بين اليمين واليسار في البلد، بين من هم محافظون (القوميين والمتدينين) و(المنفتحين واللاسلطويين)، مع عديد الملفات المستحدثة، مثل الهجرة والتنوع الديني والتفتح الجن.سي والقضية العر.قية التي انتشرت في أوطانهم وصارت حديث آخر عقد.  الشعوب الأوروبية تشهد انهيار آخر ما تبقى لهم من قيم ولا تحرك ساكنا، وعندما نتحدث عن القيم، فهي قيم يتفق عليها المؤمن وغير المؤمن، قيم إنسانية اتفقت على مبادئها كل حضارات العالم منذ القدم، كالتعايش والتبادل والتجارة  والسلم والاستقامة الطبيعية في القضايا الأسرية بكل تفاصيلها.  أما حضارة اليوم، فهي لا تشبه الحضارات السابقة، فهي أكثر حضارة منحلة أخلاقيا، ومع ذلك، لا تجد انتفاضة شعبوية لاستعادة القيم، بل كأننا نشعر بأن الحكومات والشعوب الغربية مستقلين عن بعضهم البعض، الحكومات تسن قوانين تعادي الطبيعة، والشعوب بين ادأقلية موافقة وناشطة سياسيا وإعلاميا، وغالبية معارضة لكنها صامعة وجبانة، فتظهر لنا كأنها غير موجودة، وأن الطرف الآخر يشكل أغلبية.   ما الذي حدث بالضبط؟ هل تعبت شعوب أوروبا من الصراعات والمعارك؟ هل ابتعدت كثيرا عن فكرة الموت من أجل قضية حتى أصبحت تقبل كل شيء فقط لكي تُبقي على روتينها ولذاتها اليومية دون إزعاج؟! 

القضية الثانية: هل نحن (شعوب الجنوب) في طريقنا لهذا الكسل؟
قبل الحديث عن الكسل، هل نحن شعوب منهكة من الحروب؟ -المسألة متشابكة كثيرا، لأن المعارك التي خاضتها شعوب الجنوب من بلاد فارس إلى الرباط عمرها لا يزيد عن خمسون سنة، وهي أدنى من الحروب العالمية التي انتهت قبل ذلك. بالرغم من التفاوت الكبير في حجم الخسائر وكذا في الظرف القصير والمكثف التي وقعت فيها. فصدمة شعوب أوروبا النفسية كبيرة جدا، في ظرف أربعون سنة شهدوا موت 160 مليون ضحية وملايين من حالات الاغت.صاب في ألمانيا وبلدان أخرى. بينما عرفت مناطقنا معارك وإبادات متفرقة زمنيا، ورغم تجذر الاستعمار سياسيا، إلا أن المقاومة الثقافية والدينية بقيت صدا منيعا رهم هشاشتها بالمجمل لا بالتفصيل. نحن شعوب منهكة من ماذا؟ هل نحن شعوب منهكة من الفساد الداخلي حقا؟ من الابتعاد عن الأصل الديني وااثقافي الذي قمنا عليه، ونستنكر له في جسدنا المجتمعي حاليا؟ أم من الطموح التعجيزي للتشبه بالغربيين بأي ثمن؟ 
نحن شعوب مثلها مثل الغربيين، لا تقاوم إلا من أجل اللذة، نقاوم لبقاء هذا الروتين الركيك، والثمن هو قضايا عميقة، قضايا القيم، قضايا الأرض والدين والتاريخ. قد يكون الخمول عن كسل، فقد ترعرعنا في ظروف توفر كل الملذات، فنحن شعوب مخدرة هوايتنا تحفيز هرموناتها صباحا ومساءً، لا تريد ان تسمع عن قضايا تعتبرها مقلقة ومزهجة لراحتها، وسواءً كان هذا الأمر عن خمول أو عن انهاك تاريخي، فنحن والشعوب الغربية نشبه بعضنا في العدمية المفرطة، ونتشارك  في تحطيم المشترك الحضاري في مواضيع حساسة تقودها أقليات يسارية هدفها انهاء كل موروث إنساني طيب.

المقال 351
#عمادالدين_زناف

الجمعة، 7 أبريل 2023

الآيات والأحاديث وضعف العقل الحديث



الآيات والأحاديث.. وضعف العقل الحديث.

بين من يؤمن بآيات القرآن المليئة بالخوارق، ويكذب الأحاديث لأن فيها خوارق.. ذلك الذي يؤمن بتواتر القرآن بالرجال ويثق في حفظهم.. نفسه يكذب تواتر السنة بالرجال ولا يثق في حفظهم، نجد أنفسنا أمام مُسلم «داخل في بعضه» يريد دينا يتماشى مع لباسه وقصة شعره والعصر الذي هو فيه، يريد أن يؤمن بشيء ويكذب بشيء بالرغم من أنهما من نفس الينبوع والمشرب. كلما أثار أحدهم شُبهة راحَ يوافقه، لأنه أفهمه أن عقله عظيم، يمكنه أن يفصل في أمور خطيرة مثل هذه { ولا يمكن لعقله أن يجد له وظيفة تليق به، أو أن يحوز مكانة مرموقة ويصبح ثريا، أو أن يفك معضلة سيراكوز في الرياضيات مثلا أو يساهم بشيء في أي علم}

قبل أن ألج عمق الموضوع، أذكّر هؤلاء بشخصية تُدعى عمرو بن عبيد، وهو رأس من رؤوس المعتزلة. فقد كان يرى ﴿كما ترى المعتزلة﴾ أن العقل سابق على النقل، فقد أثر عنه أنه قال، قال معاذ العنبري سمعت عمرو بنَ عبيد يقول، وذكر حديث الصادق المصدوق عليه صلوات الله: " لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذَّبْتُه، ولو سمعت زيدَ بن وهب يقول هذا ما أجبتُه، ولو سمعتُ عبدالله بنَ مسعود يقول هذا ما قَبِلْتُه، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله تعالى يقول هذا لقلت له: ليس على هذا أخذت ميثاقَنا".   أرأيت الجرأة في نكران الأحاديث أين تقود؟  تيقّن أن عمرو أذكى منك بمراحل، أنت لا تستطيع حتى أن تجعل شخصين يتبعانك، فكيف بك أن تكون على رأس فرقة كبيرة.. وقد لا تصل لخيراته لو عشت عُمرين، فقد قيل أنه كان يعتمر حافيا، وكان يتاجر ليعول حرائر وفقراء ويتامى العراق، مع ذلك تجرّأ على الله مباشرة، فقد أخذه اعجابه بعقله إلى مهلكة عُظمى.  صديقي، إذا كنت ترى أنك تستطيع مناقشة الدين بالعقل فقط، فاترك الدين ولا تتعب نفسك، لأنه سيتجاوز عقلك حتما، أو اسدِ خدمة لنفسك واسكت، ولا تحاول أن تناقش ما يتجاوزك، فالدين أصله اتباع وليس مناقشة فكرية يساهم فيها كل من أعجبته خواطره.

أنت تؤمن بأن النبي أسريَ به إلى السماء السابعة، ولم يجد عقلك حرجا في قول أن النبي اخترق الفضاء والسماوات بالبراق، أن يأجوج ومأجوج حق، أن القمر قد انشق، أن البحر انفلق شطرين، أن تيسى يحيي الموتى، أن الله كلم موسى تكليما، وحجتك أن هذا ذكر في القرآن، الذي وصلنا ثقة عن ثقة عن ثقة (بشر)،  وتكذّب أن النبي عليه صلوات الله  ذكر بعلامات قيام الساعة، كخروج الدجال، نزول سيدنا عيسى، خروج الدابة.. لأن عقلك يرفض هذا؟! بأي عقل تفكر لكي نعرف من أين نُحدّثك، أنت الآن أمام منطقية مشكلة كبيرة، فإما أن تكون متوازنا ومتفقا مع نفسك، وتؤمن أن ما جاء من عند الله ونبيه، من ثقات عن ثقات حتى وصلنا، هو حق، او ان تنكر ذلك جملة وتلحد، أما أن تختار، فلست أهلا حتى على اختيار لباسك وترسيحة شعرك وما تتفوه به خشية من ضحك الناس، فلا تعط نفسك أكثر مما تستحق.

يستطيع الإنسان أن يفسّر كثيرا من الأمور علمياً وتجريبياً، أو أن  يؤمن بها غيباً، وتظهر له حقيقتها بإشارات عديدة متفرقة.
.
لنناقش مسألة الآيات بشكل عقلاني يا أبَ العقلاء.

 درس أبي حامد الغزالي هذا الحيّز بذكاء مبهر، بحيث يقول نفس ما يقوله علماء الفيزياء، بأن كثير من المواد في هذا العالم تبقى محبوسة فيه، تتغير وتأخذ شكلا آخراً، فإذا كان يعتقد الناس بأنها خوارق، فهذا لقصر معرفتهم بالطبيعة، يقول؛ إن تغير الشعور بحر النار إلى برد وسلام، خوارق على تمس عادة الطبيعة وليس منطق الطبيعة، فإذا اختفت الجاذبية، أو تغيرت طريقة تفاعل الأوزان في منطقة معينة على الارض، فهذا يعد ظاهرة داخل الكون، وليس ظاهرة خارجه، ما المقصود؟

خلق الله الكون وجعل له مسار دقيق، ومع تقدم علوم الإنسان، اكتشفوا بعضاً من صيرورة هذا النظام المعقد، بطريقة رياضية، فلا شك ولا ريب عند كل البشر، من آدم إلى اليوم، أن الكون مبني على نظام 1+1 يساوي 2، ولا يجادل في هذا إلا من له حجة في أن الواحد يحمل في بطنه أعدادا لم تُعدّ.   هذا نظام الكون، أي قلبه النابض لأبصارنا.

فإذا أردت أن تفترض أن في الكون خوارق بقول أن النار لم تحرق فلاناً، وأن فلاناً مشى فوق الماء، وآخر استطاع أن يسمع ما يقال في قارة أخرى، نجيب أنها لم تغير أسس نظام الكون الرياضية، وأن تداخل العوالم [كالسحر والمس] الذي يجعلك ترى وتشعر وتفكر بطرق غريبة، أو آيات الله في صورة الكرامات لبعض الناس، أو تلك الآيات التي ارسلها للرسل عليهم صلوات الله، قد تسبب في حدوث كسر لصيرورة وسيرورة ما اعتاد الناس على مشاهدته، ولا يعد شيئا جديدا على الكون ذاته، الذي خلقه الله ولا يعرف الانسان منه الا ما أدركه، ولا يقاس الصانع بما صنع فهو فعال لما يريد.

إن  الانسان لا يعرف عن قدرة ربه الا القليل، وأن هذه الطبيعة لم تعدنا بدوام حالات التفاعل ولم تستشرنا فيه، وأنزما لا نفهمه منها يفوق قدرة العقل ولا يعاكسه. والمؤمن يدرك أن هناك مخلوقات أخرى كالجن والشياطين تغشي أبصار الناس وتزعزع بصرهم وبصيرتهم، إليك قصة موسى وكيف قال الله أن تلك الحبال [صُوّرت لهم] على أنها ثعابين.

هناك من يبتلع العقارب والحجر والرمال والسموم ولا يحدث له شيء، لو كان أمراً علمياً، أي يؤخذ بالتجربة، لاستطعنا التعلم منه طريقة ابتلاع الحجر والعقارب والثعابين دون أن نموت، ولكن هؤلاء خوارق ليسوا يدرجون ضمن علم معين. 

ولو حدثتك عن تجربتي الشخصية لآية حدثت معي لكذبتني!  واك الحق في ذلك لأن لا دليل لدي عنها، لكنك لن تكذب نفسك إذا ما حدثت معك يوما، وإذا ما حدث لك شيء يفوق قدرة عقلك على فهمه وإدراكه، فتواضع يومها وقل؛ وما اوتيت من علم إلا قليلا، وقل ربي زدني علما.

المقال 350
#عمادالدين_زناف

الآيات والأحديث وضعف العقل الحديث



الآيات والأحاديث.. وضعف العقل الحديث.

بين من يؤمن بآيات القرآن المليئة بالخوارق، ويكذب الأحاديث لأن فيها خوارق.. ذلك الذي يؤمن بتواتر القرآن بالرجال ويثق في حفظهم.. نفسه يكذب تواتر السنة بالرجال ولا يثق في حفظهم، نجد أنفسنا أمام مُسلم «داخل في بعضه» يريد دينا يتماشى مع لباسه وقصة شعره والعصر الذي هو فيه، يريد أن يؤمن بشيء ويكذب بشيء بالرغم من أنهما من نفس الينبوع والمشرب.  كلما أثار أحدهم شُبهة راحَ يوافقه، لأنه أفهمه أن عقله عظيم، يمكنه أن يفصل في أمور خطيرة مثل هذه { ولا يمكن لعقله أن يجد له وظيفة تليق به، أو أن يحوز مكانة مرموقة ويصبح ثريا، أو أن يفك معضلة سيراكوز في الرياضيات مثلا أو يساهم بشيء في أي علم}

قبل أن ألج عمق الموضوع، أذكّر هؤلاء بشخصية تُدعى عمرو بن عبيد، وهو رأس من رؤوس المعتزلة. فقد كان يرى ﴿كما ترى المعتزلة﴾ أن العقل سابق على النقل، فقد أثر عنه أنه قال، قال معاذ العنبري سمعت عمرو بنَ عبيد يقول، وذكر حديث الصادق المصدوق عليه صلوات الله: " لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذَّبْتُه، ولو سمعت زيدَ بن وهب يقول هذا ما أجبتُه، ولو سمعتُ عبدالله بنَ مسعود يقول هذا ما قَبِلْتُه، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله تعالى يقول هذا لقلت له: ليس على هذا أخذت ميثاقَنا".   أرأيت الجرأة في نكران الأحاديث أين تقود؟  تيقّن أن عمرو أذكى منك بمراحل، أنت لا تستطيع حتى أن تجعل شخصين يتبعانك، فكيف بك أن تكون على رأس فرقة كبيرة.. وقد لا تصل لخيراته لو عشت عُمرين، فقد قيل أنه كان يعتمر حافيا، وكان يتاجر ليعول حرائر وفقراء ويتامى العراق، مع ذلك تجرّأ على الله مباشرة، فقد أخذه اعجابه بعقله إلى مهلكة عُظمى.  صديقي، إذا كنت ترى أنك تستطيع مناقشة الدين بالعقل فقط، فاترك الدين ولا تتعب نفسك، لأنه سيتجاوز عقلك حتما، أو اسدِ خدمة لنفسك واسكت، ولا تحاول أن تناقش ما يتجاوزك، فالدين أصله اتباع وليس مناقشة فكرية يساهم فيها كل من أعجبته خواطره.

أنت تؤمن بأن النبي أسريَ به إلى السماء السابعة، ولم يجد عقلك حرجا في قول أن النبي اخترق الفضاء والسماوات بالبراق، أن يأجوج ومأجوج حق، أن القمر قد انشق، أن البحر انفلق شطرين، أن تيسى يحيي الموتى، أن الله كلم موسى تكليما، وحجتك أن هذا ذكر في القرآن، الذي وصلنا ثقة عن ثقة عن ثقة (بشر)،  وتكذّب أن النبي عليه صلوات الله  ذكر بعلامات قيام الساعة، كخروج الدجال، نزول سيدنا عيسى، خروج الدابة.. لأن عقلك يرفض هذا؟! بأي عقل تفكر لكي نعرف من أين نُحدّثك، أنت الآن أمام منطقية مشكلة كبيرة، فإما أن تكون متوازنا ومتفقا مع نفسك، وتؤمن أن ما جاء من عند الله ونبيه، من ثقات عن ثقات حتى وصلنا، هو حق، او ان تنكر ذلك جملة وتلحد، أما أن تختار، فلست أهلا حتى على اختيار لباسك وترسيحة شعرك وما تتفوه به خشية من ضحك الناس، فلا تعط نفسك أكثر مما تستحق.

يستطيع الإنسان أن يفسّر كثيرا من الأمور علمياً وتجريبياً، أو أن  يؤمن بها غيباً، وتظهر له حقيقتها بإشارات عديدة متفرقة.
.
لنناقش مسألة الآيات بشكل عقلاني يا أبَ العقلاء.

 درس أبي حامد الغزالي هذا الحيّز بذكاء مبهر، بحيث يقول نفس ما يقوله علماء الفيزياء، بأن كثير من المواد في هذا العالم تبقى محبوسة فيه، تتغير وتأخذ شكلا آخراً، فإذا كان يعتقد الناس بأنها خوارق، فهذا لقصر معرفتهم بالطبيعة، يقول؛ إن تغير الشعور بحر النار إلى برد وسلام، خوارق على تمس عادة الطبيعة وليس منطق الطبيعة، فإذا اختفت الجاذبية، أو تغيرت طريقة تفاعل الأوزان في منطقة معينة على الارض، فهذا يعد ظاهرة داخل الكون، وليس ظاهرة خارجه، ما المقصود؟

خلق الله الكون وجعل له مسار دقيق، ومع تقدم علوم الإنسان، اكتشفوا بعضاً من صيرورة هذا النظام المعقد، بطريقة رياضية، فلا شك ولا ريب عند كل البشر، من آدم إلى اليوم، أن الكون مبني على نظام 1+1 يساوي 2، ولا يجادل في هذا إلا من له حجة في أن الواحد يحمل في بطنه أعدادا لم تُعدّ.   هذا نظام الكون، أي قلبه النابض لأبصارنا.

فإذا أردت أن تفترض أن في الكون خوارق بقول أن النار لم تحرق فلاناً، وأن فلاناً مشى فوق الماء، وآخر استطاع أن يسمع ما يقال في قارة أخرى، نجيب أنها لم تغير أسس نظام الكون الرياضية، وأن تداخل العوالم [كالسحر والمس] الذي يجعلك ترى وتشعر وتفكر بطرق غريبة، أو آيات الله في صورة الكرامات لبعض الناس، أو تلك الآيات التي ارسلها للرسل عليهم صلوات الله، قد تسبب في حدوث كسر لصيرورة وسيرورة ما اعتاد الناس على مشاهدته، ولا يعد شيئا جديدا على الكون ذاته، الذي خلقه الله ولا يعرف الانسان منه الا ما أدركه، ولا يقاس الصانع بما صنع فهو فعال لما يريد.

إن  الانسان لا يعرف عن قدرة ربه الا القليل، وأن هذه الطبيعة لم تعدنا بدوام حالات التفاعل ولم تستشرنا فيه، وأنزما لا نفهمه منها يفوق قدرة العقل ولا يعاكسه. والمؤمن يدرك أن هناك مخلوقات أخرى كالجن والشياطين تغشي أبصار الناس وتزعزع بصرهم وبصيرتهم، إليك قصة موسى وكيف قال الله أن تلك الحبال [صُوّرت لهم] على أنها ثعابين.

هناك من يبتلع العقارب والحجر والرمال والسموم ولا يحدث له شيء، لو كان أمراً علمياً، أي يؤخذ بالتجربة، لاستطعنا التعلم منه طريقة ابتلاع الحجر والعقارب والثعابين دون أن نموت، ولكن هؤلاء خوارق ليسوا يدرجون ضمن علم معين. 

ولو حدثتك عن تجربتي الشخصية لآية حدثت معي لكذبتني!  واك الحق في ذلك لأن لا دليل لدي عنها، لكنك لن تكذب نفسك إذا ما حدثت معك يوما، وإذا ما حدث لك شيء يفوق قدرة عقلك على فهمه وإدراكه، فتواضع يومها وقل؛ وما اوتيت من علم إلا قليلا، وقل ربي زدني علما.

المقال 350
#عمادالدين_زناف