الأحد، 31 يوليو 2022

الحياة كلها مصلحة



الحياةُ، هي المصلحة.
مقال يُطالع برويّة.

أول ما يتبادر على ذهن القارئ عندما يقرأ مُصطلح "مصلحة"، هي المصلحة المادية، مصلحة المناصب والصداقات، مصلحة الزيجة الكريمة وكثرة الأولاد. ولقد قرأنا كثيراً من الفلاسفة الذين أرادوا الإلمام بالحياة في مُصطلحٍ جامعٍ، فمنهم من قالَ القوّة ومنهم من قال المرح ومنهم من قال العبث ومنهم من قال البؤس والكثيرون لخّصوها في السعادة، أو الأخلاق، أو الطاعويّة. والكثيرون لا يزالون يحاولون تلخيصَ الحياة، بشكلٍ يعقله جميع البشر على اختلافِ ثقافاتهم. والحقيقة أن في ديننا العديد من المصطلحات التي تجمع الحياة في كلمة او كلمتين، ومنه أن المال والبنون هم زينة الحياة الدنيا، ومنه أيضاً أن الماء هو الحياة، ومنه كذلك أن الحياة متاع الغرور، وأن الحياة كلها لعبادة لله، وكلها حقّ من الحق سبحانه.
فنستطيع استنباط كلّ هذه الأمور وجعلها في شقّين، الشقّ المادي للحياة، والشّق الروحي. لكنّ قبل ذلك، دعونا نضع النقاط على الحروف، لنعرف ما الحياة التي نتحدّث عنها، ومع من نتحدّث عنها. فلا يمكننا أن نتحدّث عن نفس الحياة التي يراها غير المؤمن كمن يراها المؤمن، ومن هذا المنطلق يقسّم المؤمن الحياة إلى ثلاثة، الحياة الدنيا، وهي الحياة المؤقتة، وحياة البرزخ، وهي حياة القبور، والحياة الآخرة وهي الأبديّة. فأما الحياة الدنيا، فهي تقسّم بدورها إلى حياة الحسّ والملموس، وحياة الفكر والروح. وأما حياة البرزخ، فهي حياة الانتظار، يكون فيها الإنسان منعّما أو في رعب. وأما الحياة الآخرة، فهي في علم الغيب، نعرف منها الحساب، فإما الخلود في الجنة مباشرةً، أو بعد سابق عذاب، أو الخلود في النار. 
أما بالنسبة لغير المؤمن، فالحياة أضيق بكثير، إذ يُمكن اختصار الحياة في أنها عبارة عن مادة لا روحَ فيها، عبارة عن مخلوقات تدبّ في الأرض ثم تختفي عندما يتوقّف عمل جسمها المادّي. وعلى هذا الأساس، فبالفعل، يمكننا حصر هذه الحياة الماديّة في حياة مليئة بالحزن، أو الترف، أو العبث، أو أخلاق مادّية، أو قوّة وتجبّر، أو طاعة وانبطاح، وكلّها ترمي إلى شيءٍ واحد، التلذّذ. فالمنبطح يتلذذ بانبطاحه كما يتلذذ السكّير بمسكّره، ولا يظن المتجبّر أن شيئا ما سيوقفه، ولا يرى العبثيّ في وجوده من حكمة، فيهيم مع الرياح مثل السنابل. وأما المادّي الحزين، فهو فاقد لكل شيءٍ، ليس للبشر منه منفعة، ولا من نفسه كذلك، وغالبا ما يختصر حياته بإنهائها. 
أما المؤمن، فحياته مُركّبة تركيبا فسيفسائيّ، فهو يرى بكلتا عينيه، ويعقل ويدرك ما وراء المادة وما حولها، فله نظرة واسعة عميقة لذاته، وللكون بأسره، ولا يجد أن من المنطقيّ ان نَختصر حياةً فيها الرّب والملائكة والروح والمادة والخلائق جميعاً، واليوم الآخر، وسائرَ الحيواة الأُخر، في شعور واحد مثل السعادة والتفاؤل، أو الحزن والتشاؤم، أو العبث وعدم التخطيط والتفكير والتدبّر، أو في الترف دون تأنيبٍ للضمير، أو الكآبة كأن لا خالقَ له ولا رازق. 
 ولكنّ العجيبَ أن ما يجمع الإنسان المؤمن وغير المؤمن هي المصلحة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى ضيّقٍ وواسع. فلم أقم باختيار هذا المصطلح بعبثيّة، فانظر معي أن المصلحة تنطلق من الذات، ولنبدأ بمصلحة غير المؤمن المرجوّة منه.
يرى غير المؤمن أن من مصلحته أن يعيش الترف كي يبقى سعيداً مبتهجاً، فهو يرى النفع كله في الملذّات والشهوات، وكلما عمل أكثر، انفقَ على ما يريده كثر فأكثر فهو يرى المصلحة في صورة واحدة، ألا وهي الربح لإسعاد الذات. كذلك يرى بأن الحزن والانطواء والعزلة يحميه من الآخرين، فمن مصلحته أن يبقى متقوقعاً لكي يعيش حزنه بالكامل دون ضجيج وإزعاج، فهناك من يحبّذ تلك الحياة، حياة الأشجان. يكاد يسعى إليها دونَ أن يشعر، ما يسمّى النّكديّ. وتجد منهم أيضا العبثي، فهو يرى مصلحته في عدم الإيمان بشيء، ولا الاهتمام بشيء، فهذا الشيء الوحيد الذي يجعله مرتاحَ البال، فلا قديم يُعاد، ولا آت مهمّ، ولا حاضر مثير للاهتمام، فمصلحته هنا هي راحة البال والتنصّل من أي مسؤولية كانت، حتى على ذاته. وترى المتملّقين والمتجبّرين والكاذبين والخائنين يضعون جامّ ثقلهم في الحصول على مبتغاهم، لا لشيء سوى لإشباع نزوتهم التسلّطيّة، فقد ينتهجون حياة ملئها النفاق والتلصّص والتجسّس والمحاباة لمصلحة السلطة والثراء والمناصب.  فما مصلحة المؤمن؟ 
سؤال وجيه، فقد فهمنا مصلحة غير المؤمن، والمصلحة بشكل عام مصطلح سلبيّ، لكنّه مصطلح متجرّد من أي انحياز، فإذا استعملناه في مكانٍ طيّب صار طيّباً. فمن مصلحة المؤمن أن يصلي لربّه، فالله غنيّ عنه وعن كل خلائقه، فإذا صلّى المؤمن وتصدّق واعتمر وصام وتخلّق، فهو يفعل هذا لمصلحته حصراً. فيعلّمنا الله أن من يقم بحسنة فهي له، ومن يقم بسيّئة فهي عليه، فهو لا يضرّ الله ولا ينفعه. ومن مصلحة المؤمن أن يعمّر أرضه، ويتعلّم، ويُعلّم، ويبحث في خلق الله، ويكتشف، ويُبدع، ويسعد ويبتهج بالنعم. وإذا حزن، من مصلحته أن يدعو القادر على كل شيء، ومن مصلحته أن يمتثل لأوامره ولأوامر نبيّه. ومن مصلحة المؤمن أن يكون متعلّما، يقرأ ويكتب، وأن يكون حكيماً، يفهم ويدرك مقاصد العلوم والغيب. فالجهل نقمة على صاحبه، لا يضرّ بها أحدا سوى نفسه، إذ أنه آمن دونَ عمل، فلم يبتهج بالمادّة كغير المؤمن، ولم يبتهج بإيمانه كالمؤمن.  
إن الإنسان لو فهم ماهية المصلحة، لتريّث قبل أن يحصرها في شيء مادّي بحت، أو شيء خياليّ بحت، فلو أراد الله لخلق الحياة دون محسوس، ولكنّنا في عالم يندمجان فيه، ويكمّلان بعضها بعضاً، فمن غير الحكمة أن نتغافل عن أحدهما.
فالحياة بعد كلّ هذا أختصرها في المصلحة، ثم بعد ذلك لكلّ ما يراه مصلحته، فمن رُزق الحكمة عرف أن مصلحته في إرضاء الله، ومن لم يسعى لصقل مفهومه للمصلحة، بقيَ شريداً بين الناس.

المقال 312
#عمادالدين_زناف

الجمعة، 29 يوليو 2022

العقل المُستعار


أحلامٌ تُصنع، وعقول تستعار.
مقال جديد.

المطلع على أحوال الشباب، يرتأى له أن الأحوال قد ساءت عما كانت عليه قبل عقودٍ يسيرة. وعلى الرغم من بعض التغيرات التي تؤخذ من منظور علميّ حسّي، إلا أن الجانب العقلانيّ في تدهور مستمرّ، فالتباعد بين المادة والحكمة يشبه التباعد الذي طغى بين الذهب والورق (العملات)، وكلما زاد الشرخ بينهما فقد المتبوع قيمته رغم تضخّمه المستمر، فالتضخّم في الكمّ لا يعكس شيئا ذا جودة. بل على العكس، فمن الرخيص الكثير، أما الغالي يُكنَزُ تحت الأرضِ بعيجاً عن الأنظار.
والعلم خيرات مُكثّفة، بينما العالمُ لا يكون خيّراً بالضرورة، فكلّما كانت حكمته باردة وشحيحة، زادت مخاطر علمِه الحسّي والمعنوي على الناس.  
ولقد رأينا ما حدث في الحرب العالمية الثانية، عندما فقدت الولايات المتحدة عقلها وراحت تستعرض جنونها على اليابان، وهذا بتدمير شعوبٍ بكاملها. 
كذلك فعلت ألمانيا في الحقبة الناز.ية، وكذلك فعلت وتفعل كل الدول التي غلّبت المادّة على الروح، ففقدا معناهما معاً. 
ثم عملت الولايات المتحدة الأمريكية على تلميع صورتها، لاستعادة ثقة العالم لقائده الوحيد إلى غاية وقت وجيز، عن طريق نشر الفتات على دول وشعوب العالم، وعلى الرغم من قالبها الخيري، إلا أن الثعلب لا يأمن حتى من نفسه، فإذا كانَ طيباً، فلا يكون ذلك إلا لمكرٍ يليه. 
وقد كان مشروع بعت علم النفس المعرفي من كبرى المشاريع الروحية للترويح على شعوب العالم، ولكي يتسنى لهذا العالم الحلمُ بحلمها، ويطمح بطموحها، ويسعى لبلوغ مرادها عنها، تواضعاً ومحبّةً. والجميع في هذا مستفيد. ذلكَ ان بناء المؤسسات القائمة على اجتهاد الأفراد يعمل في نهاية المطاف على إعلاء عملة الدولار في كل مرّة، وشدّ أسر الشركات التي لا تعيش سوى بصدقات الفقراء. وها نحن هؤلاء ندفع لكل مؤسسة أمريكية مبلغا مُعيّناً بطريقة غير مباشرة وبشكلٍ يوميّ، فهي تترجم حماسنا لعملة ومادّة، بينما نعيش حُلم بلوغِ شيءٍ ما، إلى حين. 
الحلم الذي صار مبتغى في ذاته، بعد أن كان وسيلة تفكير لبلوغ النجاح الحقيقي. ففي السابق، لم يكن الحلم مدفوعَ الثّمن، بل كان شيئا مجانيا في عقول وأفئدة الجميع، وبلوغ ما يحلم به الحالم هو في حكم القضاء والقدر. بينما اليوم، نحن نعيش زمن بيع الحلم للناس، بل وتكوين حلم جاهز لهم، فلا ينطلق الحلم من ذواتهم، بل من عقول وأفئدة غيرهم، فهم من يعلمونهم ما يجب أن يحلموا به، فالشعوب بالنسبة لهم لا تحلم بشكلٍ صحيح، فكل من لا يحلم باتجاه الرأسمالية الليبرالية المتطرّفة، فلا يعدّ حلمه حلما، إنما يعدّ جهلاً وتخلّفاً، ورجعيّة وانحطاط، فمن يحلم خارج الحيّز المرسوم له "مُعتدٍ". 
وفي كثير من الأحيان، الحالم بعكس اتّجاه سيران العالم عدوّ، فمن لا يعمل على إطالة عمر الشركات الأمريكية ومُشتقّاتها التابعةِ لها في كل مِصر، يصنّف عدوّاً للإنسانيّة والتطور العلمي. وفي كل عصر، عليك أن تحلم باتجاه السلطة العالمية، والمؤسسات المُسيطرة، وإلا فاحذر العواقب، لأن المنطق يتغيّر مع ظروف الزّمن، وليسَ كما قيلَ لنا أنه ثابت. ومنطق القويّ يُغشي الأبصار، أو يشتري الذمم والصمت، ويحارب الأبرار.
وربما كانَ ظلماً مني أني ذكرت علم النفس المعرفي، ولم أذكر في هذه الأسطر التنمية البشريّة وتوابعها ومشتقاتها، بيد أن هذا الشيء لا ينحصر في موضوعٍ واحد، فمعالجة الداء يكون من عدة أبواب، وقد خُضتُ في التنمية وأخواتها من قبل، وقد أفردُ الموضوعَ بكتابٍ في يومٍ ما.  وإننا قد نُدخل الدواء من النوافذ خلسةً في بعض الأحيان، فالمتعصّبون لآرائهم كُثر، وليسَ من المرونة أن نُسفّه الناس، ثم ندعوهم لأن يعقلوا البديل الذي نطرحُهُ لهم، فالوسم بالغباء، يعني القطيعة والانشقاق، وليس الدعوة للتفكير. 
وإنه قد ينفذ منا شيءٌ من باب الانحياز المعرفيّ الذي يسيّر ويوجّه قراراتنا وما نعتقد أنه صواب، وقد ينفذ منا حكمٌ مسبق لا رائحةَ علمٍ ومنطقٍ فيه. فعلينا تطبيق العدل على كل شيء، وأن نقوم بتنفيذ ما أمرنا به في صورة العدل. فكذلك صاحب الحق ينحاز لما هو ليس بعلم، وهذا ما يضعّف من حجّته هو الآخر.  فليس علينا أن نُهدي عقولنا وقلوبنا ليُصنع لنا حلم على مقاسِ الغرباء، ورغبة على نظرتهم، وهدفٌ على مرادهم، ومشروع على منطقهم، بل وجبَ علينا أن نُبصر قبل أن نحلم. 
وعلينا، نحنُ الشباب، أن نوازي بين المادة والعقل، وأن نجمع بينهما، وألا نسعى للمال، بل للعلم، فالسعي للمادة يطرد العقل، أما السعي للعقل، فيستميل المادة إلى صاحبها، ويهذّبها له، حتى لا تجعله منفصلا على العقل، فيصبحُ أعرجاً غير حكيم.

المقال 311
#عمادالدين_زناف

الجمعة، 15 يوليو 2022

ما بعد الإنسان



ما بعد الإنسان، وكارثة انقطاع العلوم عن الحكمة.

نحنُ على أبوابِ ما يُسمّى ما بعدَ الإنسان (Transhumanism)، وهو تزاوج بين تطوّر الذكاء الاصطناعي مع علم البيولوجيا، يهدف إلى تجاوز الإنسان الحالي، وجعله إنساناً خارقاً بالمعنى الحرفي، والهدف الأسمى كما يروّج لهُ المدافعون عنه، هو محاربة الموت، أو تأخير الموت لسنواتٍ طويلة أخرى. 
طبعاً، الحديث في هذا الموضوع يحتاج كتاباً بحاله، لأنه يفتح عدّة أبواب يجب معالجتها علاجاً علميا، بكل تفرعات العلم، الحسي العقلي والنقلي، غيرَ أن حتى في هذه المصادر، لا يتفق البشر، فمن يصدّق بنظرية ما بعد الإنسان، لا يؤمن بالروح قولاً واحداً، ومن لا يؤمن بالروح، يعتقد أن الإنسان يُعالج مادياً وحسيّاً فحسب، وبالنسبة لهم، سبب الموت هو الشيخوخة والكِبَر، وأن هذا الشيء "مرض عضوي" راجع للتخلّف العلمي الذي هم فيه!  مُعالجة الموت بالنسبة لهم تمرّ بمعالجة الأمراض والقضاء عليها، بعد ذلك، يتم معالجة العمل العضوي الداخلي بإضفاء آلة (صناعية) تعمل على إطالة عمره. ومن بين هذا ذكرت في كتابي الشفق محاولة ايلون موسك للمساهمة في تطوير شريحة نيورالينك، التي تُزرع في الدماغ، لتجعل العقل يعمل بطريقة خارقة (تحليل وبحوث ومعلومات وحفظ بيانات). أما هذه، فهي لا تعمل على إطالة عمر الإنسان، بل تعمل على "نجاحه" في كل الحالات، وربما تزيد من التباعد الطبقي بين الناس، بين من يملك شريحة في عقله، وبين من يفكر بشكل طبيعي. 
قضيتنا اليوم ليست في زراعة أعضاء آلية لكي تخلف اليد الحقيقة والرجل الحقيقة أو أي عضو مبتور أو عضو داخلي سقيم، فقد تكون هذه من حسنات العلم والتطور، مثلما ساهم العلم في اختراع نظارات وسماعات، يستطيع ربط الآلة بأعصاب الجسم لكي يتحكم فيها.  القضية أعمق من هذا بكثير، فالتطور العلمي أمر لا بدّ منه، فالإنسان يستكشف يومياً أموراً تجعله يفكّر بطريقة مختلة عن السابق، فليس الذي يعلم كالذي لا يعلم، والعلم هذا يفتح أفاق ويجعلك تجرّب دائماً. 
لكن كيف تحوّلت الفانتازيا في شاكلة العمر الأبدي وقصص مصاصي الدماء إلى محاولة واقعية؟ كيف تجاوزَ هؤلاء الحاجز بين الحقيقة والمستحيلات وجعلوا المستحيلَ غاية؟ السبب هو غياب الحكمة بشكل كامل، والغرور بالعلم والمادة التي ينعمون بهما.
في السابق، تلكم الحكماء من الفلاسفة عن فن الموت، وفن تقبل الموت، على رأسهم الفلسفة الرواقية، فقد قرّروا في فلسفتهم أن الحياة نوعان على البشر، نوع يُتحكّمُ فيه، ونوعٌ لا يُتحكّم فيه. فما تتحكّم فيه مثل الاجتهاد والعمل والتربية والأخلاق والعبادة والتمييز والتحليل هو من الممكنات، أي ممكن أين تفعله أو لا تفعله، أما ما لا تتحكّم فيه مثل المرض وجنسك ونسبك وموتك، فهو من المستحيلات، وما يتبقى لك فيهم سوى التمنيات. فقد كانت الشعوب تتمنى هلاك الملوك الظلمة، وتدعوا بطوال عمر الملوك العادلين، بيدَ أنها أمور لا تتغير بالقدرة البشريّة. وهذه الفكرة تتماشى مع ما جاء به ديننا، فنقول إنه دعاء لله بالتخفيف من وقع المصائب، وإطالة عمر الخيرات. وقد كانت كل ثقافات العالم تدرك هذا المعنى عقلياً، فقد كانوا إلى زمن قريب يفكرون بأسلوب عقلاني وبفطرة تامة، فالسجيّة تدرك الناس المعقول من المستحيل عقلا، وأن المحسوس لا ينفي المعقول، وأن المعقول ال يُدحض بالمحسوس! 
إلى أن جاء هذا الزمن، الذي تجرّأ فيه الإنسان عن فطرته بعد أن كان يحترمها لوقت قريب. وإنما لا يحدث هذا إلا عندما يحسبُ الإنسان أنه بلغ من العلم ما يجعله ربا على نفسه، فهذا ما جرّأ فرعون وسائر ملوك مصر إلا من كان حكيما منهم، وما جرّأ من قبلهم الآشوريين والبابليين، ومن بعدهما الإغريق والرومان، فقد وصلنا من تاريخهم أن العالم لم يعرف قبلهم تفتّحاً على العلوم، حتى أسموا أنفهم بأرباب لا ملوك، ومع ذلك، دالت عليهم وانقرضوا الحضارة تلو الأخرى! 
فلو كان لهذا العالم من الحكمة الشيء اليسير، لعرفوا أن واسع العلم والمعرفة لا يجل الإنسان يتجاوز رغبته في الذهاب إلى الحمام للتغوّط، ولا يجعله يتجاوز مشاعره، ولن يفعل ذلك حتى يهدم طبيعته وبذلك يعجّل بهلاكه (شاهد فيلم equilibrium) وحتما لا يجعله يتجاوز المرض، وطبعا لن يتجاوز الموت بأيّ حال من الأحوال، حتى لو أعاد تركيب نفسه بكل عضوٍ من الذهب الخالص.
غياب الحكمة من نكران الروح، ونكران الروح من نكران الخالق، فالحكمة كلها في توحيد الله دائماً، ومن زاغَ عن هذه الحكمة بنا من علمه هرما من الورق، يهبط ويخر في أيّة لحظة وبأي نسمة. 
فطلب البقاء الذي يبحثون عنه نابعٌ عن شقّين، الأول هو اليأس، فالإنسان المُفرغ روحيا، وكلما تقدم به العمر، شعر باليأس والخوف القريب من الرهاب من الموت، فيجعلُ يبحث عن كل الطرق لإطالة عمره، وأن يمدّ من شبابه، وهذا عُرف من القدم، بينما أعطى العلم نفساً لليائسين بأن تطولَ اعمراهم حقيقةً لا مجازاً. أما الثاني فهو الطغيان الصّرف، والطغيان من جنس التحدّي، فهم يتحدّون الله بشكل صريح، وآخرون يتحدّون طبيعتهم، ويعتقدون أنهم يستطيعون ترويض كل شيء. 
فأما المؤمن بشكل عام، فهو أرقى مخلوق فكريا وعمليا في الكون، ذلك أنه يتّفق مع طبيعته، ويؤمن بعدم خلده في الحياة الأولى، وتقبّل الموت يولد في الإنسان الراحة، والعمل على ترك أثر حسن، والتطلع على آخرة مزهرة. 
قبل أن أختم المقال، أقول إن العلم إذا ما طلّق الحكمة فسوف يعود بنا إلى الحرب العالمية الأولى والثانية والقنابل النووية والتجارب العلمية التي أبادت وشوهت شعوباً، فالعلم غير الحكيم هو أكبر نقمة على الإنسانية حتى لو اكتسى لونا زاهي ورائحة الورود، فالغاية التي تبقى منحصرة على وفي الماديات، تستحيل دماراً شاملاً، ولا ريب ولا شكّ في أن كل المشاريع التي ترمي للبقاء في الأرض ستكون على حساب أرواح أخرى.

المقال 309
#عمادالدين_زناف

الخميس، 14 يوليو 2022

رواية مينيسوتا



بعضُ الإشارات عن مصادر وتنقيبات
                   وغايات  رواية ميـنيـسُوتا .

رواية مينيسوتا من النوعِ الأدبي الذي يسمى بالخيال السياسي. 
أبرز ما كتب في هذا النوع: الجمهورية لأفلاطون، دون كيشوت لسيرفانتيس، كانديد لفولتير، مزرعة الحيوان لأرويل، والشياطين لدوستويفسكي.

الرواية تحملُ كمّا لا بأسَ بهِ من المعلومات في المجال الحيواني، وكذا الثقافي بتفرعاته الدينية واللغوية والعُرفية، عند العرب وعند الأمريكيين، وصولاً إلى تفاصيلَ مثيرة للجدل مثل عملية استخراج الذهب في أقاصي جبال تلك الولاية الأمريكية!  وقبلَ أن تُرسلَ لدارِ أدليس الجزائرية، التي بدورها لم توفّر جُهداً في صناعة طبقٍ يليق بالطرفين، وبالقرّاء أيضاً، تم قراءة أكثر من كتاب عامّ ومُتخصّص، في الأدب الأمريكي، وفي التخصصات العلمية مثل البيطرة، وعلوم التربة، واذكرُ بعض المراجع بُعيدَ قليل. هذا لكي نضعَ تلك المعلومات التي تخدم النص والهدف، في قالب روائي بلغة عالية، يلتمس بها القرىء التزاوج بين الأدب والعلوم والتديّن. 

فلم تكن العمليّة بتلكَ السهولة في بداية الأمر، ذلك أن الفكرة كانت في ربط ثقافتين لتحليلهما واستنتاجِ ما يجب استنتاجه، وعلى إثر ذلك، وضعنا أمامنا كُتباً عديدة من الأدب الأمريكي مثل رواية فئرانٌ ورجال لجون ستينبك، الشيخُ والبَحر لارنست هيمنغواي، موبي ديك لهرمان مالفل، الحارس في حقل الشوفان لجيروم سالينجر، مارتن ايدن لجاك لوندون، نادي القتال لتشاك بولانيك، البريق لستيفان كينغ، ومغامرات توم سوير لمارك تواين، وكلها كانت عبارة عن استقراءات للإحاطة بشكل مكثف بمميزات الأدب الأمريكي، ثم انتقلنا لدراسة ثقافة مينيسوتا بكل تفاصلها، انطلاقا من بُحيراتها إلى حدائقها وعادات شعبها وأدبها، وكذا الاحتكاك الافتراضي بشوارعها، أين تدور فيها معظم الرواية.

ثم انتقلنا بعد ذلك لدراسة أساسيات البيطرة، وقد أخذ هذا نصيبَ الأسد من الوقت، ذلك أنه تخصص علمي مستقلّ وصعب، والروائي خريج كلية العلوم السياسية، بذلك بالغنا في البحث عن المواد التي تُدرّس لاستنباط رؤوس الأقلام الصحيحة، وهذا لكي نُحاكي تلك الظروف العلمية في المدرّج بتفاصيلها، فالرواية لا تكتفي بقصّة بطلها مُعاذ، بل تحاول إعطاء معلومات علمية مفيدة. 

لم نكتف بذلك، فكيف علينا أن نتحدّث عن مينيسوتا دون دراسة أصل التسمية، وأصول شعبها من هنود حُمر ونازحين من كَندا وأوروبا وغيرهم، فوضعنا طريقاً متناسقا بين المعرفة والأدب، للوصول إلى نقاط جوهرية أردنا أن تترسخ في ذهن القارئ الجزائري والعربي والمسلم بالعموم. 

وعلى ذكر الدين، لم نتوانى في ذكرِ قصص الفقهاء قصاً لطيفا سريعا، لنُسقطه على واقعنا، ولنستنبط منه السبل في الأدب والتهذيب، ولم نُخلي الرواية من الخيال، فقد جالت كثيراً دون مللٍ ولا حشوٍ، قبل أن تحطّ في الواقع، الذي يعتبر صدر الرواية وغايته.

#رواية_مينيسوتا 
#عمادالدين_زناف

الانحياز التاريخي


الانحياز  التاريخي وتفشي مرض الوهمالانحياز  التاريخي وتفشي مرض الوهم.
مقال مفصّل لإنهاء العبث الفايسبوكيّ!

تكلمت في السابق، وكذا في كتابي الشفق، عن الانحياز التاريخي في الأدب من باب ما يُسمى الرواية الوطنية، والرواية الوطنية صُنعت لتُمجّد مَرحلة تاريخية من تاريخ البلد، أو لتمجّد شخصيات أو أحداث مُعيّنة، أو أسرة حاكمة، وغيرها من الأمور التي تعمل على بناء لا وعي تاريخي جمعي لذا أبناء ذلك البلد، ولبعث روح الفخر وتعزيز الوحدة والتماسك الوطني فيهم. سواءً كانت الرواية التاريخية حقيقية أو محض خيال، فالنتيجة واحدة، بناء مخيّلة على أن تلك الأرض تحمل تاريخاً يفخر به الكبير والصغير، ومن هذا الجانب، لا يخلو بلدٌ من هذا، فلكل بلد رواياته التي تمجّد وتعظّم تاريخه، أو لنقل مرحلة أو مراحل متقطّعة من ذلك التاريخ. فالرواية التاريخية تختار بعناية تلك الأمور التي تريد إظهارها، والأخرى التي تريد طمرها، فلا يخلو بلد من نكسات وهزائم، فلا يوجد قاعدة شاذة لهذه الحتمية التاريخية، بيدَ أن الرواية الوطنية لا تتعاطى مع هذا الجانب، وان تعاطت، فسيكون من باب تمجيد البطولات كذلك، فتجعل الهزائم انتصارات من أبواب أخرى أيضاً. لهذا صُنعت الرواية الوطنية، ولو افترضنا أن بلداً اعتمد على التاريخ بجفائه وقساوته وحقائقه، لما قام لذلك البلد قائمةٌ، ولا افتخر أي شعب بوطنه إلا نزراً يسيراً. 
وإن الرواية الوطنية تجمع ولا تفرّق، فهذا هو خيرها، فهي توحّد الشعب على كلمةٍ سواء، أبطالهم وقصصهم وتوسعاتهم محفوظة عند الصغار والكبار، وهذا ما يضفي الولاء المعنوي لتلك الأرض.
لكن الانحياز التاريخي مشاكله أكثرَ من حسناته، فإذا عطفت الرواية الوطنية وهي تأخذ حجما أكبر من حجمها المعنوي داخل الشعب الواحد، فالانحياز التاريخي يطمس ويتعدى على شعوب أخرى بتاريخها وخصوصياتها. يحدث هذا عندما لا يتشبّع البلد برواياته المحليّة، أو عنما تتآكل الرواية الوطنية عنده، ولا يصبح لها تأثيراً محفزاً ولا مخدّراً.
فيعمل صناع الروايات التاريخية على بعت الرواية من جوانب أخرى، وهي جوانب تُحيي وتُقدّس بعض الفترات التاريخية في نفوس تلك الشعوب، لإعادة ضخّ تلك الدماء المتكبّدة من جراء تكرار نفس الروايات، والإنسان والشعوب ملّالة الطبع، تستاء من التكرار، وصناع التاريخ لا يتوقفون عن تزيين التاريخ عن طريق رمي البدلات الجديدة عليه من حين إلى آخر.
والمعلوم أن لكل بلدان العالم فترات انكماش، وفترات توسّع، وقد يدوم الانكماش قروناً، والتوسع سنة واحدة، فيأخذ لصّ التاريخ تلك السنة ليجعلها رمزاً لتاريخ وطنه، وذلك عن طريق الاعتداء عن الآخر، دون أن يذكر أن التاريخ كرٌّ وفرّ، احجامٌ واقدام، يومٌ يَحتَلّ، ويومٌ يُحتلّ. فقد عرف العالم إلى غاية ليلة الحرب العالمية الأولى توسع وتكمّش كل الدول التي نعرف اليوم، فليس هناك دولة لم تعرف تفتحاً جغرافياً ولا تضييقاً، وليس هناك حالة شاذّة. 
فإذا اعتمدنا عن فترة زمنيّة معينة، وجمّدنا التاريخ عندها، فهذا يعد انحيازٌ تاريخي، والانحياز كما نعلم ليس من العلم والحقيقة في شيء، لأن الاستقرار ليس من سنة الحياة، فالحياة دُول، ومن يعتقد أنه لا يدول مع التداول، فهو يرى نفسه أعلى من الحياة والمنطق والعلوم.  ثم إن لصّ التاريخ قد لا يتفطّن لفخّ الانحياز الذي يُسوّق له، ففترة الانفراج الجغرافي ليست من لدنّ العدم، فلا يخلو بلدٌ من التأثر الحضاري والثقافي والفكري، فقد يكون سبب ذلك الانفراج والتوسع حضارة أخرى، فيتناسى فضل التراكمات الحضارية التي احتضنها، وينسب الفضل لنفسه، وذلك التوسع غالبا لا يعود إلا ومعه ثقافات كل الجغرافيا التي توسع فيها، فلا يصبح أصيلاً كما ذهبَ. وقد يتناسى لصّ التاريخ، أن الخرائط لا تمثّل القِلاع، ولا تمثلّ الولاء، فلو أخذنا إمبراطورية فرنسا التي ابتلعت معظم أوروبا في فترة معينة، لم تجعل من الايطاليّ والسويسريّ والبولوني والهولندي، ثم بعده الجزائري فرنسيين! ولو كان ذلك حقاً، لظهر عليهم من عاداتهم وثقافاتهم ولسانهم، سواءً بالسلب أو بالإيجاب لنبقى محايدين تاريخياً.  فالتوسع المقصوص عن التاريخ الكامل وهم لا يجب أن يُستعمل أبداً، فهو دليل على ضعف وقلة حيلة، واللجوء إلى فترات سحيقة اعتراف بنفاذ الحِيل الحديثة، فالتاريخ لا يُستعمل بتلك الطريقة، وكسب ثقة الشعوب وتعزيز روحهم الوطنية لا تكون باستعمال العوامل والمؤثرات الخارجة عن الحدود، فهذا يبرز التآكل الداخلي، ولا يزيد من الإحباط سوى إحباطاً أثقل، والواقع لا يُعالج بالفانتازيا ولا بتجميد فترة تاريخية، الواقع هو الحياة اليومية، هو الاكتفاء، هو الانحياز للحقيقة من حيث أتت، ببناء مشاريع، وتعزيز وحدة الوطن بروايات وتاريخ لا يمس الآخر، فالاكتفاء بالذات دليل قوة وعظمة وإن مستهم الأيام والسنين.

المقال 308
#عمادالدين_زناف

الخميس، 7 يوليو 2022

من أجل عقل بارع


العقل البارع!
 تلخيص لأبرز نقاط محاضرة الدكتور إدريس أبركان.

بصفتي متتبع لأعمال هذا الكاتب والمُحاضر والباحث، أعتبر هذه المحاضرة عبارة عن جزء ثانٍ لمحاضرته الشهيرة التي ألقاها سنة 2018 بعنوان "كيفَ تحرّر عقلك؟"، والتي تعتبر كطريقة شفاهية للتعبير عن كتابه بنفس العنوان، الذي أملك نسخةً منه.  
إدريس أبركان متحصّل عل أكثر من دكتوراه، نستطيع القول إنه من نوابغ العالم الفرونكوفوني، رغم أنه لم يسلم من الانتقادات، سواءً حول سيرته الذاتية، ولا حول معلوماته. لكن أغلب ما ينشره يمكنك التحقق منه بسهولة عبر الانترنت، وسيتراءى لك صحيحا. 
من يقرأ العنوان، أقصد عنوانه السابق (حرروا عقولكم)، يعتقد أن الرجل يتحدث في التنمية البشرية، غير أن مجاله هو علم الاًعصاب والاسناد الى التاريخ وتطور الحضارات، بما في ذلك تطوّر آليات البشر وطريقة تعاطيهم مع الحضارة ومُحيطهم، كيف تآزرت الحضارات بطريقة غير مباشر في تطوير الآلات الإنسانية، وكيف وصلنا إلى ما نحن عليه من تطوّر تكنولوجي وتقني وربّما أوسع من ذلك بكثير. 
عنوان هذه المحاضرة كان (العقل الرائع، أو العقل العبقريّ)، وقد لامس فيه الروعة عندما أعطى للموضوع حقه الكامل. المثير في محاضراته، وقبل التفصيل في هذه، هو أن الدكتور يُسهب في تفاصيل لا تملّ منها، فإذا ذكر حضارة ما، أو اسم ما، أو مصطلح ما، يسترسل في أصله ومكانه وتطوره وترجمته لعدة لغات، بطريقة رائعة ومكثّفة، تزيد من ثقافة المستمع. 
 سوف أقسّم هذه الحاضرة إلى خَمسة أفكار رئيسية، مع شرح مُبسّط، بالرغم من أن محاضرته تجاوزت ثلاثة ساعات، بحيث لا يمكن الوقوف عند كلّ تفصيل، فالمقال لا يسع ذلك، والإطالة والمماطلة غير مفيدة للتعلّم بشكل عام. 
▪أولا: ردّة الفعل السريعة!
يقول بإن العقل العبقري يعمل على تمرين نفسه على ردّ الفعل السريع، ليسَ ذلك فحسب، بل ردة فعل سريعة صحيحة، مع عدد أخطاء شحيح جداً، وسوف أعود إليه بالتفصيل في النقطة الأخير (سيغما سيفن).   ضرب مثالاً على هذا بالبطل العالمي محمد علي كلاي، مع الملاكم المُرعب سوني ليستون. المقارنة بينهما قبل تلك المواجهة كانت ضرب من السخرية، فسوني ليستون كان لا يُقهر ولا يُهزم، وقد كانت قبضته أكبر من عضلات البايبس للملاكمين الآخرين. إلى أن واجهه محمد علي بقواعد في الملاكمة هو من اختراعها، مثل الركض الخفيف حول الحلبة (والتي ألهمت بروس لي)، عدم رفع قبضتاه للدفاع، والضربات السريعة الخاطفة! فقد وجد محمد علي السّر في هزم ليستون، وقد كان السر في ألا يدع هذا الأخير يلمسه إطلاقا، إلى ما ندر. وإذا ما أرهقه، نزل عليه بلكمات متتالية خاطفة سريعة جدا تصل سرعتها لأحد عشر لكمة في أقل من أحد عشر ثانية. 
والحكمة في طريقة محمد علي، هو ألا يتلقى خسارة كبيرة (بتعرضه للكم والألم)، مع تشحين كامل قواه في وقت ضيّق جدا، الوقت الذي يكون ليستون قد تعب من إهدار لكماته القاتلة في الهواء. وقد كانَ فوز محمد علي في هذه المواجهة حديث العالم بأسره. وسنأتي على التفاصيل العلمية في النقاط القادمة.
▪ثـانياً: تقوية الأعصاب عندما تخضع للتمرين!
داخل دماغ البشر قوس يُسمّى بالحزمة المقوسة The acruate fasciculus ، Le faisceau arqué.  هو مسار اللغة في الدماغ عند العمليات الصوتية، وكذا في تركيب الكلمات والتعبير عنها، وهذه الحزمة تتقوى كلّما عرّض البشري دماغه للتمرين الشاق.
وعلى عكس العضلات، التي تبرزُ وتكبر إذا ما تعرضت للتمرين، فإن الأعصاب داخل الدماغ لا تكبر إنما تتقوّى وتتماسك، وعملية الشحنات داخله تعمل بطريقة مثالية!  
ولوحظ أن تلك الحزمات تزداد صلابة وتماسكاً، كلما تمرّن الإنسان النطق والإلقاء السليم، لذلك عندما تتقوى، يسهل عليه الإلقاء في كل مرّة، وكلما كان نطقه يتعتع، نعرف أن ذلك راجع لقلة تمرينه على ذلك الشيء.
بذلك، نستطيع إسقاط هذا العملية على الفصوص في الدماغ، خاصة عمل المُخيخ، الذي يتحكم في الحركة، فكلما تمرّن الإنسان على حركة ما، كلما استطاع العقل على إعادتها بشكل مطابق.
التجربة والواقع العقليان يحكمان قبل العِلم الحسي، على أن الأشخاص الأمهر، هم الأكثر تمرنا، وليس للحظ مكان في برنامجهم، وقد خاضت تلك الشخصيات تمريناً قاسياً في ذهنها، جعلها أذكى وألطف (اللطف يعني الدقة) مع مرور السنوات، وجعل ذهنها أقوى حسياً كما ذكرت، وكذلك معنوياً. ونملك مثالاً جميلاً على ذلك، وهو مغني الراب إيمينام، الذي استطاع التلفظ بستة كلمات في الثانية، سبع وتسعون في خمسة عشرة ثانية، وأغذ بذلك جائزة غينيس! إذا كنت تعتقد أنه الوحيد الذي يستطيع فعل ذلك، فعليك أن تستمع إلى هؤلاء الذين كرروها وقد انتهوا إلى ما انتهى إليه هم كذلك، أي أننا بالتمرين والاهتمام، سنصل لفعل أمور لم نكن نعلم أننا نستطيع فعلها. 
▪ثـالثا: العقل يعيد صناعة ما يحبه!
 في الجسم هرمون قويّ يُسمّى الدوبامين، وهو هرمون مختصّ في تحفيز العقل والجسم على تكرار ما نجحنا فيه، ويصبّ هذا بعد تلقينا للثناء والمدح.  نستطيع تسميته هرمون الرضا، وليس السعادة بالتحديد، فهما مختلفان قليلاً. 
فعندما تقوم بتجربة معينة وتنجح لك، يعما هرمون الدوبامين بشكل كبير، غير أن أي خذلان أو أي خطأ، يجعل العقل يسحب نسبة منه، ما يجعلنا نشعر بما يسمى المصعد العاطفي، من رضا لقلق كبير. فالعملية الطبية التي يجعل العقل يعمل على إعادة مهارة بشكل مميز، هي البهجة التي نتلقاها بعد كل نجاح، وكمثال، نذكر رونالدينهو، اللاعب الذي كنا نرى سعادته في الميدان وهو يراوغ الجميع ويبستم ويضحكن فهو يرى في عمله متعة وليس وضيفة، بذلك كان يتطوّر بشكل سريع، وفي كل مرة يراوغ أحدهم يكرر ذلك المرة تلو الأخرى.  لكننا في زمن الكسل، وقد أخذ العديد من سكان المعمورة الطريق الأقصر لهذا، وهو الاعتماد على الكوكايين، الذي يحفز الدوبامين بلا أي جهد ولا تجربة ولا عمل، ما يعطي لمتعاطيها الإحساس على أنه فعل شيئا مرضيا وهو الآن يسعد بتلك النتيجة والثناء. 
فالفكرة هي أن تجربة الشيء بالتكرار، يولد الدقة، والدقة تولد الرضا، والرضا يحفز العمل الصحيح للعقل، ما يجعلك ماهرا في تكراراه في كل مرة. 
▪رابعـا: للتعلم بسرعة، وجب أن تصحح بكثافة!
سر نجاح تجربة سنغافورة وفنلندا في التعليم، هو ابعادهم التصحيح مع التقييم بالعلامة، فقد فهموا أن ربط التصحيح مع العلامة، يجعل من التلميذ لا يحب التصحيح، لأن فيه إحراج كبير، ويبعث فيه الهزيمة وفقدان الثقة بنفسه.
التصحيح يجب أن يكون دون توبيخ، ويجب ان يتم فصله عن العلامة، لكي يقبل التلميذ تصحيح أخطائه بصدر رحب. كذلك الانسان الباحث، وجب أن يُصوّب في كل خطأ دون ذم له، لأن ربط التصويب بالذم يجعل التصويب منبوذا، وبذلك يفضل أن يبقى أحدنا على جهله أحسن من أن يُحرج.
▪خامسـاً: الحيود السداسي أو معايير سيغما! 
هي نظرية تُستعمل كثيرا في إدارة الأعمال، وتقضي بزيادة عدد التجارب، مع تصحيح مكثف، للخروج بأقل عدد ممكن من الأخطاء! تعمل هذه العملية على ديمومة الجودة، لأن الطبيعة تمتلك وقتا للتكور، بينما عمل الانسان خاضع للوقت والمنافسة. 
والمعروف انها تعتمد على نظام DMAIC
D تحديد définir
M تقدير mesurer
A تحليل analyser 
I إضافة improve
C تحكم Controler
فالتجربة المكثفة تساعد أي شخص على بلوغ درجات عليا في المجال، فهي تصحح له أغلاطه، تجعله متحكما جيداً، ومقدراً، ومحددا أكثر فأكثر لأهدافه.

هذه هي النقاط باختصار شديد، وقد عملت على الايجاز، والترجمة، وإعادة الصياغة، ليتسنى للجميع فهم كل ما جاء به الدكتور!

المقال 307
#عمادالدين_زناف

Idriss Aberkane
j'ai essayé de traduire votre conférence en arabe, de mieux que j'ai pu!  merci pour ce bijoux