الحياةُ، هي المصلحة.
مقال يُطالع برويّة.
أول ما يتبادر على ذهن القارئ عندما يقرأ مُصطلح "مصلحة"، هي المصلحة المادية، مصلحة المناصب والصداقات، مصلحة الزيجة الكريمة وكثرة الأولاد. ولقد قرأنا كثيراً من الفلاسفة الذين أرادوا الإلمام بالحياة في مُصطلحٍ جامعٍ، فمنهم من قالَ القوّة ومنهم من قال المرح ومنهم من قال العبث ومنهم من قال البؤس والكثيرون لخّصوها في السعادة، أو الأخلاق، أو الطاعويّة. والكثيرون لا يزالون يحاولون تلخيصَ الحياة، بشكلٍ يعقله جميع البشر على اختلافِ ثقافاتهم. والحقيقة أن في ديننا العديد من المصطلحات التي تجمع الحياة في كلمة او كلمتين، ومنه أن المال والبنون هم زينة الحياة الدنيا، ومنه أيضاً أن الماء هو الحياة، ومنه كذلك أن الحياة متاع الغرور، وأن الحياة كلها لعبادة لله، وكلها حقّ من الحق سبحانه.
فنستطيع استنباط كلّ هذه الأمور وجعلها في شقّين، الشقّ المادي للحياة، والشّق الروحي. لكنّ قبل ذلك، دعونا نضع النقاط على الحروف، لنعرف ما الحياة التي نتحدّث عنها، ومع من نتحدّث عنها. فلا يمكننا أن نتحدّث عن نفس الحياة التي يراها غير المؤمن كمن يراها المؤمن، ومن هذا المنطلق يقسّم المؤمن الحياة إلى ثلاثة، الحياة الدنيا، وهي الحياة المؤقتة، وحياة البرزخ، وهي حياة القبور، والحياة الآخرة وهي الأبديّة. فأما الحياة الدنيا، فهي تقسّم بدورها إلى حياة الحسّ والملموس، وحياة الفكر والروح. وأما حياة البرزخ، فهي حياة الانتظار، يكون فيها الإنسان منعّما أو في رعب. وأما الحياة الآخرة، فهي في علم الغيب، نعرف منها الحساب، فإما الخلود في الجنة مباشرةً، أو بعد سابق عذاب، أو الخلود في النار.
أما بالنسبة لغير المؤمن، فالحياة أضيق بكثير، إذ يُمكن اختصار الحياة في أنها عبارة عن مادة لا روحَ فيها، عبارة عن مخلوقات تدبّ في الأرض ثم تختفي عندما يتوقّف عمل جسمها المادّي. وعلى هذا الأساس، فبالفعل، يمكننا حصر هذه الحياة الماديّة في حياة مليئة بالحزن، أو الترف، أو العبث، أو أخلاق مادّية، أو قوّة وتجبّر، أو طاعة وانبطاح، وكلّها ترمي إلى شيءٍ واحد، التلذّذ. فالمنبطح يتلذذ بانبطاحه كما يتلذذ السكّير بمسكّره، ولا يظن المتجبّر أن شيئا ما سيوقفه، ولا يرى العبثيّ في وجوده من حكمة، فيهيم مع الرياح مثل السنابل. وأما المادّي الحزين، فهو فاقد لكل شيءٍ، ليس للبشر منه منفعة، ولا من نفسه كذلك، وغالبا ما يختصر حياته بإنهائها.
أما المؤمن، فحياته مُركّبة تركيبا فسيفسائيّ، فهو يرى بكلتا عينيه، ويعقل ويدرك ما وراء المادة وما حولها، فله نظرة واسعة عميقة لذاته، وللكون بأسره، ولا يجد أن من المنطقيّ ان نَختصر حياةً فيها الرّب والملائكة والروح والمادة والخلائق جميعاً، واليوم الآخر، وسائرَ الحيواة الأُخر، في شعور واحد مثل السعادة والتفاؤل، أو الحزن والتشاؤم، أو العبث وعدم التخطيط والتفكير والتدبّر، أو في الترف دون تأنيبٍ للضمير، أو الكآبة كأن لا خالقَ له ولا رازق.
ولكنّ العجيبَ أن ما يجمع الإنسان المؤمن وغير المؤمن هي المصلحة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى ضيّقٍ وواسع. فلم أقم باختيار هذا المصطلح بعبثيّة، فانظر معي أن المصلحة تنطلق من الذات، ولنبدأ بمصلحة غير المؤمن المرجوّة منه.
يرى غير المؤمن أن من مصلحته أن يعيش الترف كي يبقى سعيداً مبتهجاً، فهو يرى النفع كله في الملذّات والشهوات، وكلما عمل أكثر، انفقَ على ما يريده كثر فأكثر فهو يرى المصلحة في صورة واحدة، ألا وهي الربح لإسعاد الذات. كذلك يرى بأن الحزن والانطواء والعزلة يحميه من الآخرين، فمن مصلحته أن يبقى متقوقعاً لكي يعيش حزنه بالكامل دون ضجيج وإزعاج، فهناك من يحبّذ تلك الحياة، حياة الأشجان. يكاد يسعى إليها دونَ أن يشعر، ما يسمّى النّكديّ. وتجد منهم أيضا العبثي، فهو يرى مصلحته في عدم الإيمان بشيء، ولا الاهتمام بشيء، فهذا الشيء الوحيد الذي يجعله مرتاحَ البال، فلا قديم يُعاد، ولا آت مهمّ، ولا حاضر مثير للاهتمام، فمصلحته هنا هي راحة البال والتنصّل من أي مسؤولية كانت، حتى على ذاته. وترى المتملّقين والمتجبّرين والكاذبين والخائنين يضعون جامّ ثقلهم في الحصول على مبتغاهم، لا لشيء سوى لإشباع نزوتهم التسلّطيّة، فقد ينتهجون حياة ملئها النفاق والتلصّص والتجسّس والمحاباة لمصلحة السلطة والثراء والمناصب. فما مصلحة المؤمن؟
سؤال وجيه، فقد فهمنا مصلحة غير المؤمن، والمصلحة بشكل عام مصطلح سلبيّ، لكنّه مصطلح متجرّد من أي انحياز، فإذا استعملناه في مكانٍ طيّب صار طيّباً. فمن مصلحة المؤمن أن يصلي لربّه، فالله غنيّ عنه وعن كل خلائقه، فإذا صلّى المؤمن وتصدّق واعتمر وصام وتخلّق، فهو يفعل هذا لمصلحته حصراً. فيعلّمنا الله أن من يقم بحسنة فهي له، ومن يقم بسيّئة فهي عليه، فهو لا يضرّ الله ولا ينفعه. ومن مصلحة المؤمن أن يعمّر أرضه، ويتعلّم، ويُعلّم، ويبحث في خلق الله، ويكتشف، ويُبدع، ويسعد ويبتهج بالنعم. وإذا حزن، من مصلحته أن يدعو القادر على كل شيء، ومن مصلحته أن يمتثل لأوامره ولأوامر نبيّه. ومن مصلحة المؤمن أن يكون متعلّما، يقرأ ويكتب، وأن يكون حكيماً، يفهم ويدرك مقاصد العلوم والغيب. فالجهل نقمة على صاحبه، لا يضرّ بها أحدا سوى نفسه، إذ أنه آمن دونَ عمل، فلم يبتهج بالمادّة كغير المؤمن، ولم يبتهج بإيمانه كالمؤمن.
إن الإنسان لو فهم ماهية المصلحة، لتريّث قبل أن يحصرها في شيء مادّي بحت، أو شيء خياليّ بحت، فلو أراد الله لخلق الحياة دون محسوس، ولكنّنا في عالم يندمجان فيه، ويكمّلان بعضها بعضاً، فمن غير الحكمة أن نتغافل عن أحدهما.
فالحياة بعد كلّ هذا أختصرها في المصلحة، ثم بعد ذلك لكلّ ما يراه مصلحته، فمن رُزق الحكمة عرف أن مصلحته في إرضاء الله، ومن لم يسعى لصقل مفهومه للمصلحة، بقيَ شريداً بين الناس.
المقال 312
#عمادالدين_زناف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق