الأحد، 22 يونيو 2025

مجتمع الجزائر قديما ( عاتري قفصي وهراني سيفاري)





الإنسان في الجزائر قديما : العاتريّ، القبصي، الوهراني والسفاريّ.
مقال عماد الدين زناف

شهدت منطقتنا (شمال أفريقيا) وجودًا بشريًا مبكرًا ومستمرًا منذ بداية الخلق في الأرض، وتُعد ثلاثُ ثقافات ما قبل تاريخية في المنطقة من أبرز مراحل هذا الوجود البشريّ: الثقافة العاترية (Atérien)، والثقافة الإيبروموريسية (Ibéromaurusien) المعروفة أيضًا بالوهرانية (Oranien)، ثم الثقافة القفصية(Capsien). هذه الثقافات تغطي فترات زمنية مختلفة كما توضحه أبحاث العلماء، والحديث هنا عن بدايات العاترية في حوالي 145.000 سنة قبل الميلاد إلى حوالي حدود 6000 سنة قبل الميلاد، تمثل تطورات تقنية وسلوكية وإنسانية هامة في تاريخ شمال أفريقيا وأبعد من ذلك. تُعدّ الثقافة العاترية إذا أقدم هذه الثقافات، حيثُ امتدت تقريبًا بين 145.000 إلى 20.000 سنة قبل الميلاد، انتشرت في نقاط مختلفة من وسط ليبيا إلى أقصى الغرب، وارتبطت بصناعة حجرية مميزة، تتسم باستخدام رؤوس أدوات حجرية ذات قاعدة مشذبة (pedonculées)، يُعتقد أنها كانت تُركب على مقابض خشبية، مما يُشير إلى تقدم في تقنيات الصيد والبناء أيضًا، ما دفع الباحثين إلى تقريب النشاطات الحضارية بين مصر القديمة وباقي شمال إفريقيا. كما وُجِدت دلائل واضحة على ممارسة رمزية، مثل استخدام صبغة المغرة الحمراء (ocre rouge)، وحلي مصنوعة من الأصداف البحرية، ودفن موتى بشكل بدائي، ما يعكس نشاطًا ذهنيًا متطورًا لدى إنسان تلكَ الحِقبَة. وإذا أردنا التوغّل أكثر في أصول هذا الإنسان، فقد نجذ أن دراسات الحمض النووي القديم تشير إلى أن حاملي هذه الثقافة ينتمون إلى الإنسان العاقل (بالمصطلح العلمي المتداول)، وليس إلى النياندرتالي (Homo neanderthalensis) كما كان يُعتقد سابقًا.
بعد هذه الفترة، ظهرت الثقافة الإيبروموريسية (Ibéromaurusien)، والتي تعرف أيضًا بالثقافة الوهرانية (Oranien) ، التي سميت هكذا نسبة إلى المنطقة التي اكتُشفت فيها بعض أهم مواقعها، كما هو معروف، منطقة وهران تشمل معظم الغرب الجزائري وليس حدود الولاية الحالية. تطورت هذه الثقافة-الحضارة بين 22.000 و10.000 سنة قبل الميلاد، حيث امتدت على طول الساحل لكنها أكثر حصريّة جغرافيا من سابقتها، مع تركزها الخاص في الجزائر الغربية وشرق المغرب الأقصى. تميزت صناعتها الحجرية بطابع دقيق ومصقول (microlithique) إشارة إلى التطور التقني لأسلوب إنسان تلك الفترة، حيث وُجدت أدوات صغيرة مصنوعة من شرائح حجرية، وكذا أزاميل ومكاشط، كما كشفت الحفريات عن قبور غنية، بها بقايا بشرية من نوع "مشتة أفالو" (Mechta-Afalou)، مصحوبة بأدلة رمزية كالحلي والمغرة، وبقايا أثارها ما زالت تُكتشف في مناطق عين الصفرة بالنعامة مؤخرا. في السابق القريب، اعتُقد أن الجماجم الموجودة تعود إلى سلالة بشرية مختلفة (مختلطة)، ولكن التحاليل الجينية الحديثة بيّنت أنهم ينتمون إلى مجموعة شمال أفريقية ذات مكون أوروبي-آسيوي قديم يعود لفترة الخروج الأول للإنسان من أفريقيا، دون علاقة مباشرة مع الأوروبيين المعاصرين لهم في العصر الحجري الأعلى. Science, 2018* ثم جاءت الثقافة القفصية (Capsien)، والتي ظهرت ما بين 10.000 و6.000 سنة قبل الميلاد، وتركزت أساسًا في ضواحي مدينة قفصة النوميدية شرق الجزائر (مع كل من تبسة، سوق أهراس وقالمة). إذ تطورت فيها الصناعة الحجرية بشكل كبير، وهي الأكثر ثراءً وأكثرها معرفةً لدى المختصين لقربها الزمني، حيث كثُرت الأدوات الصغيرة الدقيقة، واستخدمت العظام والفخار في بعض المواقع المتأخرة. كذلك عرفت هذه الثقافة تطورًا كبيرًا في الممارسات الرمزية والفنية، إذ انتقل الإنسان من الحاجة إلى الفن (الرخاء)، مثل النقوش على الحجارة والعظام، ودفن الموتى مع أصداف ومغرة، ما يدل على طقوس جنائزية معقدة وبداية انتشار الطقوس الدينية. فاقتصاديًا، انتقلت المجتمعات "القفصية" نحو استغلال موارد متنوعة، كجمع الحلزونات البرية (escargots) وصيد الحيوانات الصغيرة، مع مؤشرات أولى على بداية الاستقرار شبه الدائم في بعض المواقع، مما يُعد تمهيدًا مبكرًا للمرحلة النيوليتية. . African Archaeological Review, 1984*
وعكس ما كان شائعًا في النظريات القديمة وما هو "للأسف" منتشر في المعلومات غير المستحدَثَة، لم تكن هذه الثقافات ناتجة عن تأثيرات أوروبية أو شرقية البتّة، بل تكشف الحفريات والدراسات الحديثة عن تطور محلي مستقل بشكل كبير جدًا، مع تفاعل انتقائي مع محيط البحر المتوسط والجنوب الصحراوي.
 لعبت شمال أفريقيا (مناطق واسعة في جزائرنا الحالية) دورًا حيويًا في تطور الإنسان، ليس فقط كممر عبور وربط حضاري متوسطي أفريقي مشرقي، بل أيضًا كمركز إبداع ثقافي وتقني منذ العصر الحجري الأوسط.
الآن بعد هذه الجولة التعريفية، السؤال المُتبادر على الذِهن : ما العلاقة بين الثقافات العاترية والقفصية والإيبروموريسية (الوهرانية) وآثار الإنسان في سيفار (وغيرها)؟ لأننا نقرأ ونسمع ونرى عنها الكثير، لكننا ما زلنا ندرها بمعزل عن أي ثقافة أو حضارة قائمة ومعروفة. 
إن منطقة طاسيلي ناجر الواقعة جنوب شرق الوطن، هي أحد أغنى وأهم المواقع الأثرية في العالم لما قبل التاريخ، وتحديدًا لما يعرف بـ"الفن الصخري الصحراوي". فكما شهد شمال أفريقيا (تحديدا مناطق واسعة من الجزائر الحالية) سلسلة من الثقافات الحجرية الكبرى مثل العاترية (Atérien)، الإيبروموريسية (Ibéromaurusien) والقفصية (Capsien). يثير هذا التنوع الزمني والجغرافي سؤالاً جوهريًا في علم الآثار عن ما مدى وجود صلة ثقافية أو تطورية بين هذه الثقافات القديمة وسكان منطقة طاسيلي ناجر، خصوصًا أولئك الذين تركوا بصماتهم على جدران كهوف سيفار وغيرها من المناطق المجاورة؟ عن حياة زاخرة جميلة من ناحية، وكذا مخيفة ومثيرة من ناحية أخرى.
بحسب مطالعاتي المتكررة، استخلصت أنه لا بد من التمييز بين مستويين مختلفين من الدراسة في هذا الأساس: المستوى الأثري التقني (أي صناعة الأدوات الحجرية والأنشطة الاقتصادية)، والمستوى الرمزي والفني (مثل النقوش والرسوم)، وكغير مختص، لا يمكنني أن أصنع ربطا بينهما دون دليل علمي منشور. فالثقافات العاترية والإيبروموريسية والقفصية تُعرف أساسًا عبر الأدوات الحجرية ومخلفات الدفن، بينما تُعرف طاسيلي ناجر بشكل رئيسي عبر الفن الصخري، الذي يعود تاريخه – حسب التأريخ بالكربون المشع – إلى ما بين 10.000 و2.000 سنة قبل الميلاد، أي أنه يغطي الفترة القفصية والنيوليتية والصحراوية، وليس الفترة العاترية التي تسبقها بكثير، إذا لدينا مادة علمية مهمة جدا لفهم ودراسة الفترة. 
تأتي الروابط الزمانية لتشير إلى أن المرحلة النيوليتية أي حوالي 7000–3000 ق.م، أي ما بعد القفصية، هي الأقرب زمنياً لفترة ازدهار فنون طاسيلي ناجر، خاصة ما يُعرف بـ"مرحلة البقر" (Bovidian period). وقد عرفت هذه المرحلة تحولاً بيئيًا كبيرًا في الصحراء الكبرى، حيث كانت المنطقة تتمتع بمناخ رطب نسبيًا، مما أتاح الاستقرار البشري، الرعي، وترك آثار ثقافية غنية تمثلت في رسوم الحيوانات والطقوس الدينية والأنشطة اليومية، ومن يرى الخرائط الجغرافية العلمية لتلك الفترة، لرأى قُرب بحيرة عظيمة جدا من سيفار، ما يشرح النشاط الاجتماعي والاقتصادي فيها، وهذا ما يفسر أيضا وجود مياه جوفية عظيمة تحت هذه الأرض. وبالرغم من غياب أدلة مباشرة تربط تقنيًا بين أدوات القفصيين الشماليين وسكان طاسيلي، إلا أن التراكم الثقافي في شمال أفريقيا، وخاصة من خلال الهجرات الجنوبية، يشير إلى أن سكان النيوليت الصحراوي الذين خلّفوا رسومات سيفار قد يكونونَ امتدادًا تطوريًا أو متأثرين بالثقافات التي سبقتهم، خاصة القفصية، من حيث الرمزية واستخدام الأصباغ وممارسات الدفن، وهو ما يُفترض من التشابه في استخدام المغرة (Ocre rouge)، واختيار مواقع مرتفعة للدفن والرسم.. وهذا في ذاته تقدم رهيب في فهم سر هذه المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، يشير باحثون مثل Jean-Loïc Le Quellec وHenri Lhote إلى أن مرحلة "رعاة البقر" في فنون طاسيلي تتزامن مع وجود ثقافة رعوية – زراعية، وقد تكون هذه المرحلة مرتبطة بما يسمى في الأدبيات الغربية بـ"النيوليت الصحراوي" (Saharan Neolithic)، وهي حضارة لاحقة للقفصيين في الشمال، فهل يمكننا أن نتهوّر بقول أنه اتحاد شعبي قديم بدأ يترسّخ في تلك المنطقة منذ تلك العصور؟ الفكرة غير مستبعدة.  
كما أن الأبحاث الجينية الحديثة مثل دراسة Lazaridis et al., 2018 تظهر أن سكان شمال أفريقيا "بعد القفصيين" تفاعلوا وراثيًا مع شعوب قادمة من الشرق والجنوب، وهو ما يعزز فرضية حدوث امتداد سكاني وثقافي من الساحل المتوسطي نحو أعماق الصحراء في فترة النيوليت. وما يدعم هذه النظرية هم ثلاث أشياء :
1. الامتداد الجغرافي والتدرج البيئي، إذ من الممكن أن القفصيين أو من خلفهم انتقلوا جنوبًا تدريجيًا، خاصة خلال فترات الرطوبة الكبرى (Green Sahara) التي امتدت تقريبًا بين 9000 و3000 ق.م، ما أتاح الاستيطان في عمق الصحراء الكبرى، التي لم تطن صحراءً في تلك الفترة. 
2. الاستمرارية الرمزية واستخدام الأصباغ، رسوم الحيوانات، الشعائر الجنائزية، كلها عناصر ظهرت أولاً في الثقافات المتقدمة لشمال أفريقيا قبل أن تتخذ شكلًا أكثر تطورًا وفنية في فنون طاسيلي ناجر.
3. الشبه الأنثروبولوجيفي بعض الرسوم في طاسيلي (مثل الكائنات ذات الرؤوس المستديرة أو الهيئات العملاقة) قد تشير إلى معتقدات أو رموز بدائية بدأت في مراحل أقدم، مع فرضية تطورها أو تحورها مع الزمن والموقع.
_

بعض المصادر العلمية الأساسية التي اعتمدت عليها :
• van de Loosdrecht et al., Science, 2018 : https://www.science.org/doi/10.1126/science.aar8380
• Hublin et al., Nature, 2017 : https://www.nature.com/articles/nature22336
• Camps G., Les civilisations préhistoriques de l’Afrique du Nord et du Sahara, CNRS, 1974
• Tixier J., Typologie de l’Atérien, L’Anthropologie, 1967
• Lubell D. et al., African Archaeological Review, 1984 : https://doi.org/10.1007/BF01117461
• Le Quellec, J.-L. (2004). Du Sahara au Nil. Peintures et gravures d’avant les pharaons. Éditions Errance.
• Lhote, H. (1959). Les fresques du Tassili. Arthaud, Paris.
• Smith, A.B. (2005). African Herders: Emergence of Pastoral Traditions. AltaMira Press.
• Kuper, R., & Kröpelin, S. (2006). Climate-controlled Holocene occupation in the Sahara: Motor of Africa’s evolution. Science, 313(5788), 803–807. https://doi.org/10.1126/science.1130989
• Lazaridis, I. et al. (2018). Genomic insights into the origin of farming in the ancient Near East. Nature, 536, 419–424. https://www.nature.com/articles/nature19310

🚀 الروابطة المباشرة للمطالعة :
• https://archive.org/details/revue-generale-des-sciences_1933-11-15_44_21/page/606/mode/2up?q=at%C3%A9rien&view=theater
• https://archive.org/details/libyca_1955_3/mode/2up?q=at%C3%A9rien
• https://archive.org/details/bulletin-de-la-societe-histoire-naturelle-de-afrique-du-nord_january-february-1956_47_1-2/mode/2up?q=at%C3%A9rien
• https://archive.org/details/bulletin-de-la-societe-histoire-naturelle-de-afrique-du-nord_1934-11_25_8/page/334/mode/2up?q=at%C3%A9rien
• https://archive.org/details/encyclopedie_berbere_n_16/encyclopedie_berbere_n_1/mode/2up?q=at%C3%A9rien
• https://archive.org/details/histoire-de-lhumanite-vol-vii-le-xx-e-siecle-de-1914-a-nos-jours/histoire%20de%20l%27humanit%C3%A9%20-%20vol%20I%20-%20de%20la%20pr%C3%A9histoire%20aux%20d%C3%A9buts%20de%20la%20civilisation%20/mode/2up?q=at%C3%A9rien

#عمادالدين_زناف #الجزائر #استرجع_تراثك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق