الجمعة، 30 ديسمبر 2022

يا بُنيّ، لست فيلسوفاً!



عندما نتجول بين أروقة الثقافة، نجد أن في بعض الزوايا أشخاصًا تبدو عليهم سمات المفكرين، منطوون في أنفسهم يكلمون بعضهم بصوت خافت حَذَر أن يؤخذ العلمُ من ألسنَتهم أخذاً.  هل تعلمون كيفَ يسمّيهم الفلاسفة؟ المتسلّلون.
هذا المقال سيكون عبارة عن تكملة لما ذكرته في منشور سابق –حول النظرة لعنوان كتاب (هذا هو الإنسان)1 - وعن سخافة عقول من يقتنون كتب الفلاسفة دون محاولة حقيقية لفهم تلك الكتب، ولا محاولة لتفكيك رموزها. مقتنياتهم لا تغدوا سوى تظاهراً بالاختلاف، وذلك خلف جوشن  2 الفلسفة الهُلامي. فلمَ الفلسفة بالضبط؟ -لأن الفلسفة مجال مفتوح، يستطيع أيّ شخصٍ أن يدّعيَ أنه مُتعمّق فيها، بحيث لا يكمن ان يتعرّض ذلك المدّعي لما يسميه كارل بوبر 3 بالتفنيد. التفنيد في النظريات العلمية هو القدرة على اثبات فعالية الشيء أو فشله، بينما لا نستطيع فعل ذلك إذا ما تعلّق الامر بالثرثرة على حواف الفلسفة، وبالتالي، ادّعاء التفلسف يعد من أسهل الوسائل للتهرب من الامتحان التقييمي لدى أي شخص، منه من ادّعاء العلم، أو التحكم في الرياضيات والفيزياء، ذلك أنها أمور تُخضع صاحبها للامتحان الآني، وفي ذلك إحراج كبير. القضيّة أننا أمام جيل وجد في غلاف الفلسفة النفق –أو المعبر- المثالي للدعاية. ويعتقد البعض أن ما لم يكن العلم ملموساً، فيحقّ للجميع أن يشاركوا فيه بآرائهم، وبذلك تولّد عند العقل الجمعي بأن السياسة وعلم النفس والاجتماع والفلسفة أشياء خاضعة لتبادل الآراء، لأنها أمور نسبية، وبالتالي  in fine ٤ ليست علوما بل مجرد مواضيع تُغذّي ألسنةَ المقاهي. بالتالي، كيف نسمي من يحاول الحديث عن شيء لا يعلم منه سوى ظاهره؟ نسميه بفيلسوف المقاهي.   إن فلسفة المقاهي كمفهوم لا يختلف عن علم نفس المقاهي الشهير، والذي يُراد منه أن صاحبه يحلل نفسيات الناس بسطحية وسجاجة تامة، وذلك بإلقاء بعد المصطلحات يمينا وشمالا ليُلوّح أمام الجمهور بأنه مُحيط بما يتحدث عنه. إن فيلسوف المقاهي مثل عصفور القراميد، لا يستطيع أن يمكث في موضوع واحدٍ، فتجده يقفز لموضوع آخر باستمرار، وذلك لافتقاره المدقع للتفاصيل التي تتعلق بكل موضوع. نحن أمام ظاهرة من الشباب، تلبس لباس الفلسفة –الذي يختلف من هوا الشرق إلى هواء الغرب- من القبعات إلى الدشداشة، ومن الصلعة إلى الشعر الكثّ. ظاهرةُ أخذت كبرياء الفلاسفة تاركةً فلسفتهم على جنب، لأن للفلاسفة كبرياء فعلاً. وهو نوع من التفاخر بما فكروا فيه، لكن مُقلّديهم لم يلبسوا سوى تلك النتيجة البادية على الفيلسوف. يقولون، ما الفائدة من التفلسف إذا كان يعتقد محيطنا أننا فلاسفة؟ ما الفائدة من التفكير والتعمّق إذا كان يرانا محيطنا مفكرين وعميقين؟ -ما الفائدة من فعل شيء ما، إذا كان يعتقد الجميع بأننا قد قمنا به؟ -وبالتالي، ما الفائدة من أن يجتهدَ هذا البُرعم لكي يفهم فعلاً صفحات سارتر أو دريدا أو فوكو، بما أنه يملك كتبهم، وينسخ بعضَ مقتبساتهم، فذلك المُراد من محيطهم. إن هؤلاء، لا يختلفون عن محبي التنمية والتطوير، بل ربما يجاوزونهم في السذاجة، ذلك أن الأولين يسعون –بجهد- لفهم ما يرويه مدربوهم، بيد أن فلاسفتنا الجدد لا يريدون فهم أي شيء، لأنهم قد لامسوا النهاية مُبكّرًا، ألا وهي نشوة عرفان الصِبية من حولهم بأنهم -فلاسفة الغد-. وبعد كل هذا الكسل، لم يتبقَ لأهل هذه الظاهرة سوى ادعاء ما لم يُعطوه، فيتسمّون بالفلاسفة، والمفكرين، والقراء، والكتاب، وغيرها من الأمور التي لم يقوموا بها لساعة واحدة بعد. فما الذي يقوله سارتر 5  لهؤلاء يا ترى؟ 
(لا يوجد واقع إلا في العمل. إن الإنسان ليس سوى مشروعه، إنه موجود فقط بالقدر الذي يدركه وهو ليس سوى مجموع أفعاله فحسب، وهو لا شيء سوى نتائج ما قدّمه. من هذا المنطلق، يمكننا أن نفهم لماذا ترعب عقيدتنا عددًا من الناس. لأنه غالبًا ما يكون لديهم طريقة واحدة فقط لتحمل بؤسهم، وهذا هو النوع السخيف من التفكير: "لقد كانت الظروف ضدي، كنت أفضل بكثير مما أنا عليه؛ بالطبع، لم يكن لدي حب كبير للشيء الذي ادعيت حبه، ولا صداقة كبيرة مع أهله، ولكن هذا لأنني لم أقابل رجلاً أو امرأة يستحقون ذلك. لم أكتب كتبًا جيدة جدًا، لأنني لم أملك المتعة اللازمة لفعل ذلك (..) الواقع، بالنسبة للوجودي، لا يوجد حب آخر بخلاف ما تم بناؤه، لا توجد إمكانية للحب بخلاف ما يتجلى في الحب؛ لا توجد عبقرية غير تلك التي يتم التعبير عنها في الأعمال الفنية: عبقرية بروست هي مجمل أعمال بروست؛ عبقرية راسين هي سلسلة مآسيه، ما عدا ذلك لا شيء؛ (..) من الواضح أن هذا الفكر قد يبدو قاسيًا لشخص لم ينجح في الحياة. ولكن من ناحية أخرى، فإنه يجعل الناس يفهمون أن الحقيقة فقط هي المهمة التي يجب عليهم فعلها، وأن الأحلام والتوقعات والآمال تسمح فقط بتعريف الرجل على أنه "حلم مخيب، وأمل مجهض، وتوقعات غير مجدية". مع ذلك، عندما نقول "أنت لست سوى حياتك"، فهذا لا يعني أنه سيتم الحكم على الفنان فقط من خلال أعماله الفنية؛ آلاف الأشياء الأخرى تساعد أيضًا في تحديده. ما نعنيه هو أن الإنسان ليس سوى سلسلة من المشاريع، وأنه المجموع، والتنظيم، ومجموعة العلاقات التي تشكلها هذه المشاريع. )6
فهلّا عقل فلاسفتنا الجُدد أنهم ليسوا كذلك، بما أنهم لم يحرّروا المفاهيم، وولم يتحلّوا بالسكون التام أمام الفلاسفة والمفكرين والفقهاء، بطريقة الفهم لا بطريقة التقليد، وما لم ينتجوا عملاً، ولم يناقشوا ولم يعاركوا ولم يغامروا في ميدان الفكر والفلسفة، فليس عليهم التفوه بكلمة بأي موضوع كان، لأن الفلسفة كالرياضيات، أيّ خطأ في المنهجية يقضي على ثرثرة صاحبها، ومع علمي أن الفلسفة عندكم ليس سوى طريقة لاستعارة كاريزمة ما لاستعمالها للإغراء والتلويح بالفضيلة، فما عليكم سوى الإسراع في اغراء من شئتم بها، وأن تتركوا الفلسفة بعد ذلك في سلام.
___
 1 لفريدريك نيتشه
 2 الدرع الذي يلبسه المحارب
 3 عالم نمساوي
 4  في نهاية الأمر (باللاتينية)
 5 فيلسوف وجودي فرنسي.
 6 من كتاب 'الوجودية مذهب إنساني'

المقال 331
#عمادالدين_زناف

#

الخميس، 8 ديسمبر 2022

نفسية اللعوب




نظرة في نفسية اللعوب.

اللّعوب. هو ذلك الذي يُعاكس النساء في الشارع.  
 من الذي لا يمكنه أن يكون لعوباً؟ 
اللعوب والمُفكّر. لا يمكن أن يكون المفكّرُ لعوباً، فهو لا يستطيع رفع صورة المرأة مثل الشعراء، ولا وضعها في أسفل السافلين مثل الفلاسفة. يمنعه المنطق والتحليل المستمر بأن يُلاحقهن، ذلكَ أن عقله مُرهق، بذلك هو لا يملك من الصبر ما يُقحمه في لعبة مُماثِلة.
اللعوب والفيلسوف. كان يرى كانط أن الحياة الزوجية شيء جميل ترتكز على الأخلاق، لكنه لم يُحاول أبداً أن يتقدم لامرأة ما، لأنه لم يكن يُغادر التدريس، بكشل غير مباشر، كان يرى أن الحديث عن المرأة أحسن من الحديث معها، وكان يفضل الذهاب لبائعات الهوى. نيتشه لم يكن سوى فيلسوف مُحبط من حبه الفاشل للو سالومي، وكان يفضل بائعات الهوى هو الآخر.  شوبنهاور كان ميسوجينيّ –كاره للنساء- لا يرى في النساء سوى عقبة. الفلاسفة لا يجلسون في الشارع، وذلك ما يجعلهم لا يصادفون النساء للتفكير في التحرّش بهن. 
اللعوب والقارئ. لا يجتمع القارئ واللعوب في نفس الشخص، يرى القارئ أنه إذا وُضع خِيار بين كتبه وبين النساء، فالجواب سيكون سريع ومُباشر، الكُتُب والكتابة. لمَ؟ لأن كل ما قرأه وما أخذه كإرث معرفي كلاسيكي ينصحه بالابتعادِ عنهن، خاصة المشبع بكتب الفلاسفة. لكن تبقى المرأة بالنسبة للقارئ إشكالية يحبها ويخشاها في نفس الوقت، بينما هي للفيلسوف عبارة تراكمات من التجارب الفاشلة. 
من الذي يُمكنه أن يكونَ لعوباً؟
اللعوب مطرودٌ إلى الشارع. اللعوب غير مرغوب به في الداخل (في البيت)، غير مُستقر، لا يبعث على الاطمئنان، يبحث عن نفسه من فتاة إلى أخرى بشكل مستمر، يبقى في الشارع لينتظر من التي ستعيده إلى المنزل. 
اللعوب يعاني من عقدة الأم.  يعاني كل رجال الدُنيا من ألم الفراق من والدتهم (حسب نظرية فرويد)، ولا يكادون يشفون من هذا الفراق إلا في مرحلة معينة قد لا تطول، وهي مرحلة اكتشاف المرأة التي يحبونها وتحبهم. اللعوب، يعاني إلى آخر يوم من حياته، لأنه لا يستطيع أن يحب النساء اللائي يتحرّشُ بهن، وإن أحب، فهو سيخلط بينها وبين أمه. 
اللعوب لا يستمع للقصص. لا يريد اللعوب من المرأة سوى رغباته الحيوانية، أكثر شيء يمقته هو الاستمتاع إليها،  وبذلك، يستعمل كل الوسائل الراقية ليجعلها تراه غير ذلك. 
اللعوب شكّاك. عاشَ بلا حب يحتويه، كبر وهو يشعر بالوحدة، هو الآن يشكّ في حب المرأة له.
اللعوب لا يركّز، حتى لو بدا كذلك.  إذا فكّر شعر بالإحباط من حالته، رغم أنه يركّز مع 'فريسته"، لكن تركيزه مثل ذاكرته محدودين في الزمان والمكان، بالتالي، يصبح فعل التفكير بالنسبة له أمراً سلبياً، وهو يرى أن من يقوم بالتفكير يضرّ نفسه، لأنه يُسقط العالم على منظوره. 
اللعوب يمقت الحب، وبالتالي سيمقت الغريزة.  يظن أن الحب وسيلة للغريزة، وبالتالي، عليه أن يلحق بالغريزة مباشرة، بيدَ أنه سيصطدم بحقيقة أن الإنسان لا يستطيع أن يكتفي بالغريزة في غياب الحب.
اللعوب مُتخلّف عن المجرم بمسافة صغيرة.  ربما يكون اللعوب عبداً ضعيفاً خاضعا لرغباته، كفطل لا يستطيع التوقف عن اللعب. لكن نظرته المحتقرة للمرأة، وبرودة مشاعره اتجاهها، قد تجعله قاب قوسين أو أدنى من الاعتداء عليها.
هل للعوب أيّة فرصة؟ التراجيدي في هذا النوع أنه لن يعطي فرصةً لنفسه، لأن الفرص الخارجية موجودة في كل لحظة.
اللعوب بين مجتمعين، مجتمع يُدعى أبويّ يُنسب إلى اليمين السياسي، وآخر جديد يدعى مُجتمع أموميّ. الأبوي هو الأصل، أن يكون فيه الرجل هو العمود الذي يسير المجتمع المدني والسياسي، وبالتالي، كل شيء يعود إليه. أما المجتمع الأمومي الحديث، هو مجتمع يرفض سلطة الأب، تكون في الدولة هي الأم الراعي، عن طريق الدعم المستمر للأقليات (والتفتح الجنسي) والنساء والشباب البطّال والمهجّرين وغيرها من السياسات اليسارية. في المجتمع الأمومي، سيجد اللعوب كل شيء متوفّر، فالتفتح يَخدمهُ، والمال يُضخّ دون عملٍ. أما في النظام الأبوي، فسوف يجد معاناة في التواصل مع الأنثى التي تخضع لسلطة الرجل، وليس لسلطتها الخاصة. 

المقال 330
#عمادالدين_زناف 
المصدر، معظمه من كتاب sociologie du dragueur.