السبت، 18 مارس 2023

بيغودو؛ الكاتب والمال، الموضوع المحرم



فرونسوا بيغودو: المؤلف وعلاقته بالمال، الموضوع المُحرّم.
مقالة بعيدة عن المألوف، أين سنضع المال في وضعية "جريئة" لم نعهدها من قبل. 

لم يسبق لي أن صادفت موضوعا يتحدث عن علاقة المؤلف والربح المادي، أي المال بشكل عام، وهذا يعود بشكل عام لـ"الفضيلة" التي يدعيها الحقل الأدبي، في أنهم جماعة تعمل من أجل المعاني الواسعة العميقة، وليسوا هنا للحديث عن الكسب والربح المادي من وراء ذلك. غير أن هذا الموضوع وجب أن يكون في صدر المواضيع التي يجب أن يتحدث عنها الكُتاب في كل بقاع العالم، لماذا؟ لأن مُعظم الكتاب لا يقتاتون بكتاباتهم ومؤلفاتهم، بالرغم من الوقت الطويل والجهد الجهيد الذي ينفقونه لصناعة تلك النصوص، أيًّ كان مستواها ومحتواها الفكري. تأليف كتاب ما يأخذ من الكاتب وقتا طويلا جدا، لا يقارعه في ذلك سوى الرجل الذي يتخدم جهدا عضليا كبيرا في البناء أو الحرث.  الحديث عن المال عيب ومُحرّم في هذا الحقل، يرون أن المال هو عكس الفضيلة التي يدّعونها باستمرار. لكنهم لا يخفون حاجتهم إليه باستمرار، فهم يقومون بوظائف عديدة لكي يسمحوا لأقلامهم بأن تعرف. (في الغرب، إصدار الكتب لا يكون بالمال، بشكل عام، يأخذ الكاتب نسبة مما يُباع، المشكلة أنها كُتُبٌ لا تُباع لذلك لا تغامر دور النشر في قبولها أصلا.  إن من يستطيع العيش بكُتُبه حفنة لا تتعدى الثلاثين أو الأربعين من الكتاب في كل بلد، مع مبالغة كبيرة في العدد. عندنا محليا، طباعة الكتب تكون بطريقة تلقائية عندما يدفع الكاتب ثمن الطباعة، لكن ذلك لا يضمن بيعها، وقد تبقى النسح حبيسة عنده للأبد). عودة لكلام بيغودو، يقول إن الكتاب يرون في المال شيئا لا أخلاقيا، لدرجة أنهم لا يكتبون شيئا متعلقا بالمال في رواياتهم وقصصهم وكتبهم الفكرية، يتحاشون ذكره حتى في مخيلتهم، حتى إنهم يفضلون تقديس المستحيلات كلها على ذكر المال، الذي يرون انه يضعهم في حرج في الحقل الأدبي ومع القراء الذين يرون فيهم "أملا" لتجاوز عالم المادة الذي يشغل كل جوارحهم، في كل لحظة من حياتهم.  التهرب من المال هو ذاته دليلا قويا أن المال هو هاجس كل مدّعي الفضيلة في الأدب، لأن الحديث عن المال هو حديث عما يفكرون به فحسب وليس شيئا خارقا، وفي هذا نوع من الواقعية التي لا يريدون بأي حال معالجتها والخروج بنتائج ما حولها. 
لم يكن الأمر كذلك عند عديد الأدباء، مثل شيكسبير في رائعة روميو وجولييت، بحيث جعل المال والطبقة الاجتماعية المادية في قلب العمل، كذلك في كتاب الأب غاريو لدو بالزاك، الذي أوضح أن المال هو سبب انهيار الأسرة وانهزام الأب من طرف بناته. إذا، نرى أن المؤلفون الأكثر قرابة من الواقع يعرفون حق المعرفة أن المشاكل الأولى والأخيرة هي المال.  لكننا لم نتخلص من إشكالية أن من يهتم بالمال والربح هو الشرير في تلك القصص، وكأن الإنسان مصر على أن ما يحتاجه ليعيش عيشا كريما هو مطلب لا أخلاقيّ، لأن الناس لا يستطيعون البوح به لعدم قدرتهم على كسبه. الأرستقراطيون ليس لديهم مشكلة في الحديث عن المال، لأنهم يعلمون أن لا مكانة لهم وتأثير على الصعيد السياسي والثقافي دون مال، وأن الحديث عن المال دليل على العمل وليس دليلا الكسل.  يقول كارل ماركس فيما معناه: أيها الفلاسفة، تدعون الحديث عن العالم، وتدعون شرح العالم بالفلسفة، ولكنه لأمر غريب ألا تتحدثون عن المال، لأن الأمر لا يتطلب أكثر من تسكع لخمس دقائق في الشارع لتعرفوا أن المال مسيطر على الحياة، سواءً أعجبنا ذلك أم لا.   إن الناس مهتمون أولا وأخير لإنقاذ حياتهم، إذن، بكسب المال. 
تقرؤون كيلومترات لـكانط وهيغل وأفلاطون، ولا تجدون سطرا عن المال. يقول ماركس، هذه هي المثالية، ان تكون مثاليا هي أن تتحدث وتعيش في فضاء الأفكار، ولا تعتني بالظروف الملموسة التي تمشي عليها تلك الأفكار. عمل ماركس دائما على سحب المشاكل الفوق الواقعية إلى سكتها الواقعية، في وقت سابق، كانت هناك فلسفة مثالية، وفلسفة مادية بحتة، إلى أن أتى ماركس ليضع محاولة "ثورية" في التوافق بين المثالية المشبعة بالغايات المادية. روايات القرن التاسع عشر كانت مليئة بالواقعية، مثل أعمال ستيندال وفلوبير، حتى قبل ذلك في القرن السادس والسابع عشر،  في أكثر الروايات رعبا لشارل بيرولت (ذات القبعة الحمراء مثالا).  
الاستقلال المادي يسمح للمفكر والفيلسوف بأن يقتني الكتب التي يريدها، ويكتب في المواضيع التي يريدها كذلك، في سعة من الوقت، فما الذي يكون -غير المال- شريكا لهذه العملية الإبداعية إن صح التعبير؟   -اليوم يصف الكاتب نفسه أنه مؤلف، وإلى جانب ذلك، هو يعمل في وظيفة ما. الحقيقة أنه موظف، وفي أةقات فراغه يكتب شيئا ما، الأولوية تكون دائما للأمر الذي يوفر لك العيش الكريم، أما الكتابة في هذه الحالة فما هي إلا هواية لا تعتمد عليها إطلاقا لتعيش عيشة كريمة.  الامر مفهوم ان يرى المرء نفسه فيما يحب، قبل أن يرى نفسه فيما هو مجبر على فعله، لكنه دائما لا يفطن للمثالية السلبية التي يرى بها العالم. 
يقولون، لمَ لا يتحد المؤلفون دفاعا عن حقوقوهم؟ 
العملية مستحيلة جدا، لان التأليف والكتابة عمل فردي، أنانيّ، وليس عملا جماعيا، ففي نهاية المطاف، هي لا تعلّم الفرد الجماعية، بل تزيده عزلة عن عزلته الأولى، لذلك لن يكون باستطاعة الكتاب ان يتوحدوا على مطالب ما، لأن الكتاب في ذاتهم يتمتعون بامتيازات خاصة بينهم وبين دور النشر، وبينهم وبين الصحافة وجهات أخرى، فلا يريد الكاتب الفلاني أن يتحد مع كاتبا آخر واضعا امتيازاته في خطر.  إذا، لماذا لا يتحدث الكتاب عن المال؟  للسؤال إجابتين، لأن ليس لهم مال ليتحدّثوا عنه، وبالتالي سيصبح الحديث عن المال محل حرج، بذلك يصبح المال حديثا لا أخلاقيا. والإجابة الثانية هو امتناع من لديهم الكثير من المال، خوفا من الحسد أو البغضاء والغيرة، لأن عدد الكتاب الذين يتمتعون بسعة من المال قلة، وتلك الفئة معرضة للنقد المجاني لثرائها. 
غياب المال يلز الكاتب للقيام بأشياء لا تتماشى مع "فضيلته"، فقد ينتهي به المطاف للكتابة في أشياء سوقية تعرف رواجا، أو الكتابة لصحيفة تتبنى أفكارا مخالفة لأفكارهم، فقط لأنها توفر له المال.   مع ذلك، هو يبقي قضية المال سرا. 
علينا ان نرى المال من منظور آخر، إذا أردنا العيش بطريقة بعيدة عن النفاق الاجتماعي وادعاء الفضيلة الفكرية. 

المقال 347
#عمادالدين_زناف

الجمعة، 17 مارس 2023

فرونسوا بيغودو والبرجوازية



لنكتشف معا فرونسوا بيغودو، صاحب الآراء الجريئة في محيط أدبيّ ديبلوماسيّ. 
"البورجوازية الليبرالية هي صاحبة القرار، وليس التيارات السياسية بكل فروعها"
في كتابه’histoire de ta bétise (قصّة حماقتك)، يعبر فرونسوا بيغودو، الكاتب والناقد الفرنسي، عن أفكار حادّة وموجّهة صوب الليبرالية الحالية، قائلا أنها هي التي أنتجت، منذ 200 سنة مضت، هذه الطبقة البورجوازية، التي تتعدى فكرة الثراء والمال، إلى ما يسمى صناعة القرار والتوجهات. إذ أن الثورة الفرنسية جاءت بالحكم البورجوازي، ولم تكن أبدا ثورة شعبية ضد نظام ملكي مُستبدّ. الحكم البورجوازي صنع قضايا للشعوب، ليُبقيَ قضية الحُكم والسياسة لعبة بعيدة عنهم، يُديرونها كيفما أرادوا. البروجوازية طبقة من النبلاء الأثرياء، الذين استغلو عنف الليبرالية لصناعة ثروة، ثم عوائل، وبهذا صنعوا توجها لإدارة الشؤون العامة. العمل السياسي في هذا العثر مبني على صناعة المنافس الشرير، فالذي يود أن يُشارك في السياسة السياسية (الميدانية) سيجد نفسه لا يدافع على أي قضية اجتماعية معينة، بل سيبقى يتنافس مع تيارات وايديولوجيات أخرى، يستعملها للصعود في سلم السياسة، وكذلك يفعل الآخر. اليميني يتبنى خطابا معاديا ضد اليساريّ، واليساريّ يبيّن مخاطر اليميني، وكلاهما يوجهان خطابا لشعوب لا يعنيها من هذا سوى حلولا لقاضياها الاجتماعية (وظائف، سكن، تخفيض أسعار المواد الأساسية.). لكن البورجوازية الليبرالية صنعت لها اهتماما جديدا يشتت انتباهه، فقد صنعت الحوار التاريخي والايديولوجي، ليجد نفسه أكثر ولاءً لليسار أو اليمين، لحزب اشتراكي أو ديني أو ليبرالي، متحدثا عن قضايا تاريخية وبعد إقليمي لا يعني البسطاء من الناس. 
لقد صنعت البورجوازية الليبرالية من البسطاء آلة للدفاع عن توجهاتهم الإيديولوجية، أداة للتبرير، وجعلتهم يتخلون على كل شيء في سبيل الدفاع عن القضايا التي لن تعود إليهم بالنفع. المواطن اليوم لا يملك ما يجعله إنسانا محترما، لكنه في نفس الوقت يتعصب لأشياء لا يعلم عنها سوى شكلها، ولا يعلم حتما من المستفيد من نجاحها أو خسارتها. 
"الماركسية تيار قدم أقلاما ذهبية في الأدب والفكر، عكس الليبرالية".
بما أن الماركسية هي سليل فلسفة ألمانية، ذات بعدين، الأول جدلي هيغيلي، والثاني مستمد من الفرنسيين في شاكلة فرونسوا بابوف، فللماركسية خلفية فكرية اجتماعية حقيقية، قائمة على واقعية المادة، وأن المال وجب أن يكون محور حديث المجتمعات، أكثر من الليبرالية التي جاءت بخلفية اقتصادية ميكيافيلية بحتة، التي تعمل على إعلاء صوت الفرد، طبقيا، أي جعله بورجوزايا، أكثر من ترقية المجتمع ككتلة. ويقول إن اليسار السياسي أعلى قدما في الأدب والفكر من اليمين، بالرغم من أنه من محبي شاتوبريون، وبالزاك وبيرنانوس وموراس، الذين ينتمون إلى اليمين السياسي، يقول، أينما يكون الفكر العال، تكون هناك قضايا تتجاوز الليبرالية الحادّة، أي، أكثر عمقا وأكثر تفصيلا. 
"الأناركي (اللاسلطوي) لا ينتظر شيئا من السياسيين"
عكس الماركسيين، يرى بيغودو نفسه أكثر ميلا للفكر الآناركي، لأن الأناركية هي السبيل الوحيد لتفادي حكم البورجوازية، هذه الأخيرة التي سقط في قبضتها حتى ماركس نفسه، الذي كان كغيره ثريا قريبا من البورجوازيين، ما جعله يختلف تماما عن طريقة تفكير برودون الذي كان أو من تكلم باللاسلطوية، وباكونين وغيرهم من فلاسفة الفكر الساعي للتحرر من السلطة السياسية بكل أطيافها. الأناركية عكس مفهوم النظام السلطوي، لكنه لا يستطيع ان يتحرر من فكرة النظام بالكامل إذ حتى لو تخلى عن السلطة فهو مضطر لتشكيل سلطة مصغّرة لإدارة الشؤون الاجتماعية. 
"لا أحب نيتشه، هو فيلسوف غير واضح سياسيا ولا اجتماعيا"
نيتشه قوي جدا، يدفعك للتفكير طوال الوقت، يشكك في ما تراه حقيقة، وهذا أمر جيد، لكنه لم يفهم شيئا في الحركة العمالية التي عاصرها، في الحركة اللا سلطوية، هو لم يفهم تلك القضايا لكنه يتوجه برأي ساخر عنها في مأثورة أو مأثورتين لأنه قادم من خلفية بورجوازية بروسية خالصة. عندما أقرأ نيتشه، لا أنتظر منه أي نوع من الفهم الاجتماعي للأمور، بل هو يقودنا باستمرار إلى توسعات وتعمقات ترمي إلى أشياء أخرى باستمرار.. المزعج في فلسفة نيتشه أنها تنتقل يمينا ويسارا، ويرى الجميع أنهم نيتشيون في وقت واحد، أما ما هو مثير في نيتشه، هو أن له نظرة عميقة في قضية الأخلاق وفي مفهوم قلب القيم، من هنا يدفعك إلى التفكير الحقيقي بشكل رائع. 
" حيلة تَشفير الكلام لبَسط السُلطة المَعنويّة على الشعب"
يستعمل الگثير من ”المتخصصين الميالين للفكر البورجوازي“ في مجالاتٍ مُعينة، أسلوب تشفير اللغة التي يتحدّثون بها، وذلك بُغية فرض نوع من السلطة والهَيمنة على السامع والقارئ، لأن الأساليب السهلة تجعلهم يبدون كالآخرين، ما يحزّ ذلك في أنفسهم كثيراً. إن صاحبَ التخصص لا يستطيع أن يُظهِر تفوقه إلا باستعمال مُصطلحات هو يعلم أن الآخرَ لا يعرف معانيها. وهي طريقة لكي يُبرز أحقيّته في منصبه أو في المَگانة التي يريد أن يضع نفسه فيها. لسان حاله يقول ”أنظروا كيف أستحق مكانتي، أرأيتم اللغة التي أتكلم بها؟ أنا أتحدث بلغة لا تفهمونها! من الطبيعيّ أن أكون [ كاتبا، قاضيا، ممرضا، محاميا، مهندسا، معلما..] وأنتم لا!“ هي طريقة لكي يصنع الفروق بينه وبين الآخر، يقول بورديو «نتمّق في الحديث لنجعل أنفسنا خارج الجماعة» المستعمِل لهذه الطريقة يتقصّد ألا يُفهم! لأن الناس يضعون من لا يَفهمون حديثه في مصاف العلماء أو الفلاسفة، عكس الذي يفهمون حديثه، فهم يحتقرونه بسهولة.
في موضوع آخر، نتحدث عن النقد وكيف يتم تقييده في وجهة نظر بيغودو. 
"كيفَ تكونُ كاتبًا وناقدًا لكُتُب الآخرين في نفس الوقت"!
إن من أعقد المهام والأمور التي يمكن أن يقع فيها المؤلف، أن يكون في نفسه ذا حسّ نقدي. الحساسية في هذا الفعل تكمن في كونه كاتبا هو الآخر، أي، لن يُفهم نقده إلا أنه "يرى بأن أعماله أحسن من كل الكتب التي ينتقدها". في الحقيقة، الكاتب هو ناقد، فهو يكتب ردّة فعله إزاء ما يراه، ما يشعر به، أو ما درسه. لكن سريعا ما سيُرى على أنه متعالٍ، متعجرف، مُعجب بنفسه، إذا ما تطرّق لأعمال زملاء له في المهنة. أعمال يجب أن تخضع للنقد، سواءً من زميل لهم في المهنة (الذي يبقى أدرى بتفاصيل التأليف) أو من قارىء "محبّ" أي "غير ممتهن" للأدب. 
المؤلف ناطق باسم طبقته الاجتماعية، باسم ايديولوجيّته وباسم فكر ما، وكذلك باسم أسلوبٍ معيّن في الكتابة، وهذا ما يترك "عمله" يتقاسم معه جزءًا من النقد، ولا يبتلعه هو لوحده. النقد الموجه من زميل المهنة، هو نقد بين المدارس الفكرية والأدبية، وليس نقدًا لابراز من يكتب أحسن من الآخر، ويبيع أكثر من الآخر. 
نجاح الأعمال الأدبيّة لم يكن يوما متعلّقًا بجودة الكتابة، حتى الأفلام، لم يكن نجاحها متعلقا بجودة التصوير ولا امتياز الرسالة. من يستطيع فك لغز اللوغاريتميات في الانترنت، سيتمكن حتما من اكتشاف سبب نجاح عمل على حساب الآخر، بذلك، سيبقى نجاح الأعمال مستقلا عن أي نقد، ولا يوةجد نقد يمكنه ايقاف نجاح عمل، أو تحسين صورته مهما كان.
الحساسية بين زملاء المهنة لا يمكن التغاضي عنها، خاصة إذا كان الناقد المؤلف أوسع شهرة وأكثر "نجاحا" من المؤلف المُنتَقَد. لكن على المؤلف أن يتجاوزها، لأن الناقد كالقارىء المتمرّس، بيدَ أنه أكثر تمكنًا، ويحق للناقد أن يكون مؤلفا هو الآخر، خاضعا للنقد من زميل له، يعمل في مجال التأليف والنقد. النقد الهدّام غالبا -النقد المشخصن- لا يأتي إلا من الأقل شهرة ونجاحًا إلى الأكبر شهرة، وبالتالي هو ليس بنقد، بل هو تعبير عن الاستياء، ما يظهر جليا بين السطور. 
كيف يمكننا التخلص من تقاطع المصالح في الحالتين؟ في قضية النقد الأدبي، بعيدا عن التخصص -أين لم يعد هناك تخصص- النقد خاضع لتضارب مصالح، بين مدح كتب وكُتاب على أساس الزمالة الفكرية أو تقاسم المحيط الأدبي -ربما يتقاسمون نفس دار النشر- وبين نقد ظاهره موضوعي وباطنه تنافسي شخصي غير شريف. هل يمكننا معرفة نوايا الناقد؟ -فالحقيقة النوايا تظهر بين الأسطر، الشخصنة، الإطالة في الهوامش، التكرار، كل هذا يضع الناقد أمام غاياته من النقد. لكن الحكم على الناقد لا يكون سوى بقراءة نقده، وقبوله إذا ما كان غير شخصي. وبالتالي سنعلم أين يريد أن يصل بنقده. هل علينا أ نحدد من ينتقدنا؟ ما الفرق إذا كان النقد يأتي من زميل في المهنة أو محب لها؟ 
الفرق أن الناقد المؤلف يبعث برسالة غير مباشرة -أو مباشرة- لقراؤه لئلا يقرؤوا لمن ينتقده، غير أن القراء مستقلون بذاتهم، فمن سمح لنفسه بأن يُساق، فهو من الأساس ليس بالقارىء النهم. 
ليس هناك نقد حقيقي في الأفق.
النقد الحقيقي يكون من الذي درس النقد الأدبي، فإذا خلعنا هذا الشرط التعجيزي، في زمن ذبلت فيه التخصصات، وصار المختص كالعامّي في المجال، لن نجد أنفسا أمام أي محاولة نقدية فكرية جادّة، لأن النقد المعاصر اقتصر على ملاحقة الأخطاء اللغوية. الأخطاء التي إذا ما استكلف المدقق بتصحيحها، فهو المسؤول الوحيد عن بقائها وليس المؤلف. أما إذا كان النص مدججا بالأخطاء، فالمسؤولية تعود على دار النشر التي قبلت بعمل سيء. في الواقع، النقد يحتاج من صاحب ثقافة واسعة جدا، فإن غير المثقف لن يصحح الأخطاء الفكرية والعلمية للنصوص، وسوف يكتفي حتما بدور المدقق، دور إحراج زميله في السطحيات، أي أنه يمتهن النقد خارج الموضوع. 

إلى حد الآن، لا توجد ترجمة واحدة إلى اللغة العربية لكتبه، بالرغم من أنه صاحب أعمال عديدة ناجحة منذ سنة 2003، فهو مؤلف لروايات ولكتب فكرية، وكذلك ناقد، ومخرج أفلام وكاتب لسيناريوهات وصاحب جوائز في المجال. من يُحسن الفرنسية أدعوه لمتابعته ومتابعة أعماله، وليعمل لاقتناء آخر كتاب له بعنوان Boniments.

المقال 346
#عمادالدين_زناف

الاثنين، 13 مارس 2023

بودريار ووالواقع الفائق



لم أكن أظن أنني سأقول هذا، لكن هناك فيلسوف يسبق نيتشه في الأهمية -لقراءة مخاطر هذا العصر-، نيتشه يُقرأ بشكل عام وأوسع، بينما يبقى بودريار أكثر دقة وتفصيلاً. 
بعتبر جان بودريار من الفلاسفة الفرنسيين ما بعد حداثيين الأكثر إثارة للجدل بمواضيعه الجدلية، بالرغم من أنه الأقل تداولا بين قراء الفكر والفلسفة الحاليين، ذلك أنه عرف عزوفا ونفورًا سريعا من طرف الإعلام الفرنسي، عكس أقرانه في الزمن والموجة الفرنسية (دولوز، فوكو، دريدا، لاكون..). عرّف بودريار سريعا نفسه كفيلسوف معادٍ لعصره ولما سيؤول إليه الزمن.
 فقد قدّم مؤلفاته ومحاضراته كلها في اتجاه مُجمله هو معاداة الجانب المُظلم للرقمنة والتلفاز والموجة الليبرالية العنيفة سياسيا وإعلاميا وتكنولوجياً بشكل خاص، ولم يُعرف بودريار في عالم الفلسفة إلا بعد أن تُرجم إلى الإنجليزية، ورغم توجيهه السهام نحو الولايات المتحدة وسياسيتها، وبانتشار صوته هناك، يَظهر لنا انفتاح الأمريكيين على النقد، فهم داء العصر والدواء له، وهم أصل حركة العصر معرفيا،  بشقّيها وقُطبيها.  بدأ الكاتب مسيرته بكتاب استهلاك الرموز، ثم تلاه بكتاب مجتمع الاستهلاك، ثم كتاب نقد سياسة اقتصاد الرموز، ثم التبادل الرمزي للموت، وصولا إلى الكتاب الأكثر شهرة الاصطناع والمصطنع (1981) إلى كتب مثل الإغراء وأمريكا وذكريات مرحة والعشرات غيرها. المُلاحظ من المواضيع والعناوين التي طرحتها هو التسلسل الفلسفي والفكري والتناسق "الأنيق" بينها، إذ أننا نجد تشابكا وتلاحقا بينها، وأن كل كتاب يشد أزر الكتاب الذي سبقه، وأن المواضيع الأساسية هي نفسها بالرغم من تغير المعطيات عبر الأزمان، إذ أن أول كتاب ظهر في 1968، وآخرهم كتابين في 2008 بعد وفاته بسنة (2007). 
تكلمَ بودريار على المجتمع والسياسة والاقتصاد والإعلام والتكنولوجيا بطريقة غير مسبوقة، فهو أو من تحدّث عن موت الواقع وانصهاره مع الافتراض، معبرًا عن ذلك باندماج أو موت الواقع المعاش مع الرمزيات التي تُقدم في التلفزيون، رمزيات في الإشهار لأشياء تصنع فينا الرغبة في اقتنائها، والأفلام التي جعلت الرومنسية مُعبر عنها عن طريق لباس وعطور وأزهار وأساليب كلامية محددة، ما جعل المجتمعات موحدة في طريقة تفكير واحدة، أي نقل واقع كل الشعوب إلى عالم فوق واقعي (hyperréel). تحدث عن الدين وكيف أصبح (وكان) يُعبّر عنه بالتجسيم والتجسيد (الرمزية) إذ كل شيء خاضع للإسقاط الشكلي لكي نستطيع أن "نراه"، وهذا ما يعد خطرًا في كثير من الأحيان، الواقع الفائق هو واقع مُنتقل في عالم آخر، وكمثال آخر عن الدين، طرح بودريار مثال العطر غير الحقيقي للأشياء، مثل رائحة نعناع مُصنّعة، أو عصير بذوق البرتقال المصنع، أو مُلوّن غذائي يضاف إلى عصير مركز مُصنّع بسكر غير طبيعي (aspartame)، وهذا ما ينقلنا من موضوع الرمزية والواقع الفائق، إلى موضوع  الاصطناع، التمويه، والمحاكاة، أي من افتراض واقع جديد، إلى محاولة تقليد الواقع في عالم آخر مثل الألعاب، إلى انتقال كامل إلى ذلك الواقع الافتراضي (مواقع التواصل، وصولا إلى النظارات الذكية "الواقع الافتراضي")
  من هذه الثغرة جاء فيلم ماتريكس، متأثرا بفكر بورديار في تحول العالم إلى حرب رقمية لا يمكن التخلص منها، كنوع من الحرب بين المحاكاة والحقيقة. إلا أن –وكما أشرت سابقا- لم يعبر بودريار عن رضاه بفكرة الفيلم، وقال أنها أقرب إلى فكرة كهف أفلاطون منها إلى فكرته. لأنه يقول بأن ماتريكس فصل بين العالم الملموس والعالم الافتراضي، إلا أن الواقع حقيقة هو اختلاط الواقع بالافتراض والخيال، فالصعوبة تكمن هنا، في التفريق بين الحقيقة والخيال، ما يجعلنا نقوم ونؤمن بالحماقات.  الحماقات التي تقودنا إلى العدمية، الموضوع الذي إذا ما ذكرناه ذكرنا نيتشه الذي تخصص في إعادة تعريفه، لأن بالتعريف المتداول، يعد نيتشه عدميا، لكن إذا ما أخذنا نظرة نيتشه أن العدمية هي قلب القيم الإنسانية، فالجميع عدمي بالنسبة لنيتشه ما دام يفرض فكرًا جديدا على صيرورة الطبيعة الأولى الأصلية.  وعندما تحدث عن المصطنع (simulacres)   ربطه بالعلم، وقسمه إلى مصطنع طبيعي، إنتاجي، ومصطنع الاصطناع. الأول قال أنه على علاقة مع الطبيعة، أي أنه قائم على تقليدها أو تزويرها. الثاني يقوم على الطاقة والآلة وإنتاجياتهما. الثالث، وهو الثالث أنه قائم على الإعلام واللعبة السيبرانية.  الجزء الأول هو مقاربة للمخيال الطوباوي (utopia) وهو الخيال الذي يرمي للمثالية المستحيلة. الثاني مقاربة للعلم التخيلي، وهو العلم الفعلي (التطبيقي).  
يقول إن السريالية (الفوق واقعية) والدادائية (حركة معادية للحرب) والعدمية السياسية هي عبارة عن ظواهر تشارك في ما يسميه تدمير نظام المعنى.  
في الأخير، إذا كان فريدريش نيتشه بوابة لفهم فلسفة ما بعد الحداثة، فإن بودريار هو المناظير التي تقرب المعاني والمباحث ما بعد الحداثية وما وراء ذلك، فمن كان منكم جديّا في البحث الفلسفي، عليه ألا يتجاوز جان بودريار. 

المقال 345
#عمادالدين_زناف