الثلاثاء، 31 مايو 2022

ثورو والفلاسفة دون فلسفة



”في يومنا، لا يوجد سوى أساتذة يملون الفلسفة على التلاميذ، ولا يوجد فلاسفة“.

 هنري ديفيد ثورو من أبرز الفلاسفة الأمريكيين في القرن التاسع عشر، عُرف عنه حبّه للفلسفة القديمة، الفلسفة التي لم تطلّق الجسم والطبيعة، بل تتناغم معهم بشكل يجعل من الفيلسوف حالة، وليس نظريّة وقواعد تُدرّس.

عيش ما نُفكّر فيه، تطبيق فلسفتنا، هو ما جاء في فلسفة ثورو، الرجل الذي انتهى به الحال في بيتٍ منعزل ببُحيرة بعيدة، لكنه كان بعيد المسكن، لا منعزلَ الناس، بعيداً عن النظام والسياسة، لا منقطعاً أناركياً.  لم يكن يدعو للتمرًد الفوضوي، بل لتجسيد كل فكرة وإصلاح وفلسفة.

الفلسفة بالنسبة لثورو هي برنامج حياة لا يُحكى، بذلك، الفيلسوف الحقيقي ليس من يسرد ما قيل عن الفلسفة، بل ذلك الذي يسعد ببرنامجه الحياتي الذي بناه على أسس فلسفيّة متكاملة. 

الفيلسوف هو الذي يستطيع تجسيد فلسفته بالنسبة لثورو.

ليس على الإنسان أن يتقن مفاهيم مُعقّدة، ولا تفاصيل الميتافيزيقا، ولا الانطواء بعيداً، بل عليه أن يتحلى بنفس فكرة الرواقيين والآبيقوريين في جعل الفلسفة نظام حياة يومي. بالنسبة له، ميشيل دي مونتين مثال رائع للفيلسوف الذي يكتب ما يفعل، ويفعل ما يكتب، ويدعو لما يفكر، ويفكر بما يدعو، فهو متكامل بين النص والعمل.

دراسة الفلسفة لا تصنعُ فيلسوفاً، الفلسفة ليست مهنةً ولا وظيفة، يشرح ثورو، بل هي في كل شيء، منصهرة وشفافة. 

في كتابه Walden «فالدن»، يسرد قضته كشاب عادي، في عائلة ومحيط متوسط، اشتغل في كل شيء، كان غير محب للمال، للمدح والتشريفات، ولا المسرحيات الاجتماعية.

 كان رافضاً للثورة الصناعية وما آلت إليه الانسانية وعالم العمل والوظيفة، قائلا أن تعظيم الوظيفة هو مضيعة للوقت، لا هدف منها سوى صناعة أشخاص مهووسين بالاستهلاك، استهلاك ما يحاول المجتمع جعله مهماً، وهم في الحقيقة أشياء ثانوية لا معنى لها.

يقول أن العمل، بهذا المنطق الجديد ليس إلا استغباءً وتفريغا لمخزون الانسان وجعله أعقل وأقل شدة وعدوانية أمام حقوقه. هذه اللثروة التي ستقود إلى الهوس بالملابس والموضة والترف، الأمر الذي عارضه ثورو. يقول أن السعادة القسوى فيما تعطيه الحياة، لا ما نملكه، فكل ما نملكه سطحي، بينما ما لم نطلبه، مثل الحكمة والحياة الهادئة والطبيعة، لهم دوام وقرار.

يقول أن ما يحدث للعالم هو الاتيان بقيم جديدة، مفرضوة علينا، مفروضة لأنها لا تتماشى وطبيعتنا.

لمويكن معارضا سياسيا، بل كان يدعو لحياة فردانية طيبة بعيدة عن تلك العصرنة، هو إصلاح للذات، وليس إصلاح للعالم.

لم يكن أناركياً، لكنه كان يرى بأن القانون الذي يُفقده احترامه لنفسه، لا يحب أن يُطاع.  حبّه للعدل، جعله يبتعد ليعيش في بُحيرة فالدن.

يقول أن أهم ما يجب للإنسان هو البيت، الملابس، المدفئة، والأكل، غير هذا ترف لا حاجة له.

كان يقضي يومه في المشي، في الاصطياد، والركض، والعمل حول بيته. كان يعود من وقت لآخر لعمته، آهذا معه بعضا من الطماطم، فهو لم يعزل نفسه عن العالم، بل كان يخب العيش بتلك الطريقة فحسب. 

كان يزور صديقه فالدو، غالبا ما يجده خاضراً هناك، لكنه كان يبقى لينتظره، وهو مع زوجته يحدثها عن أشياء مختلفة. 

المتعة في نظره تكمن في اختيار طريقة عيش مناسبة، دون انعزال ولا مقاطعة العالم.

لم يكن ثورو من الذين يدعون القراء لاتباع منهجه، لم يضع نفسه محل المعلم، كان يكتفي بالحديث عن حياته وكريثة عيشه فحسب. لم يكن مثل الذين يدعون لحياة لا يعيشونها، بل كان يقول، هذه الحياة ممكنة، لمن أراد عيشها.


المقال 294

#عمادالدين_زناف

الجمعة، 27 مايو 2022

أسرارُ المثقفين


"أسرار" أشهر المُثقفين في العالم!
جميعنا نريد أن نملك تلك القدرة على الخَطابة والبلاغة والمحاجّة مع النباهة اللازمة والكاريزما التي تُغلّف كل ذلك، لكنّنا بين نارَين، أو لنقل بين كِذبتين أساسيّتين، الكِذبة الأولى التي تقول بأن الجميع قادر على فعل ذلك، كل ما علينا هو تعديل البرمجة العصبية لدينا ببعض التمارين والعادات الذريّة الكونية "الطاقَوية"، طبعاً علمتم عن من أتحدّث، أصدقائي منظمة "التغبية" البَشرية بكل فروعها. والكِذبة الثانية هل بالقول إن كل شيءٍ مقرون بالموهبة، فالموهوب لا يحتاج إلى التعب أو الدراسة أو الاجتهاد كي يصل إلى ما وصل إليه، وقد يحجونكَ بليونيل ميسي عبثاً، كأن ميسي لا يتمرّن ولا يجتهد على نضامٍ صحّي ليحافظ على لياقته. 
في هذه المقالة، سأخبركم بأشياء اجتهاديّة يقوم بها المُثقفون الحقيقيّون، وضعي لـ "أسرار" كانَ لإثارة الانتباه لا غير. 
أوّلا، يتّفق مُعظم العلماء والفلاسفة والفقهاء والباحثون بأن التركيز على المدى الطويل هو السّلاح الفتّاك لبلوغ أي هدف علمي أو فكري أو مبحثيّ، ذلكَ أن مُعظم الناس تنخفض قدرتهم على التركيز وتتلاشى سريعاً، والأسباب عديدة، منها ما هو خمول وراثي، ومنها ما هو مؤثرات خارجيّة مستمرّة، أصدقاء، مواقع التواصل، الأبناء، المشاغل! بينما يُخصّص المثقفون كاملَ يومهم على أبحاثهم، وهذا ما يجعلهم يتخلّون عن العادات البشرية اليومية "المألوفة" و"المعتادة"، مثل التنزّه، أو البقاء في مواقع التواصل، أو التبحّر في الخيالات والأوهام طوال الوقت، المثقفون واقعيّون، يرون في العلم كما يرى المحروم أهميّة جمع المال بأي طريقة. 
التركيز المستمر لوقت طويل ليس بالعمليّة السهلة ولا بالصعبة، فهي تقوم على حبّ الشيء الذي تقوم به حباً عميقاً، وليس حبا سطحياً، وهم بذلك، عندما يتحدّثون عمّا يحبّون، تشعر بحبّهم لعملهم، فلسانهم يُعبّر عن صراحة وشغف لن تجدها عند إنسان آخر، هو شعور بين المفكر والمستمع. على الأولياء معالجة مشاكل أبناءهم مُبكّراً فيما يخصّ اضطرابات التركيز، لأنها ستتفاقم، ومشكلة التركيز تكمن في أن كل الأمور السيئة لا تحتاج تركيزاً، أي أنهم لن يحتاجوا للتركيز للقيام بحماقات.  
المثقفون يقومون بسرد القصص القصيرة على المستمعين لشرح أفكارهم وعلومهم، كلنا نحب القصص، فهي تحفّز الفضول والخيال، لذلك، من الذكاء أن نُخضع كل شيء للأقصوصة والمزاح والمأثورات، لأن المستمع يقع في فخ القراءة والاستماع، ويقع في فخ الفضول لمعرفة النهاية، وبذلك، يأخذ المثقف الأقصوصة كقارب لحمل المستمع الى جزيرته. 
كذلك، مصادر المثقفين مُبهمة في بعض الأحيان، صحيحة، لكنها مُبهمة، أي، ليست في متناول الجميع، فقد تكون بمصادر متعددة، بلغات مُختلفة، قد يقول قائل إنها مُغالطة، ستكون كذلك إذا كانت المعلومة خاطئة، لكن المثقف يعي أن أهم شيء في مصادره هو علميّة المصدر وأحقيّته، أما لغته، فهي حيلة وطريقة لتغليف المصدر، فقد يطرح لك المثقف بعض المصادر بالصينية والإيطالية، من مواقع أمريكية، من كتاب كرواتي أو مجري، لن تستطيع فهمه، لكنك لو ترجمته، ستجد أنه لم يكذب عليه. تعدد المصادر ولغة المصادر، هي طريقة المثقف في حثّ المستمع والقارئ على البحث، كيلا يبقى خاضعاً ومستمعا سلبياً، بل يدفه لأن يكون مستمعا وقارئا ايجابياً، مُحقّقاً. وبما أن المثقف يُعدّد مصادره وقراءاته، فهو بذلك مُثقّف! لأن المصدر الواحد لم يكن يوما من الثقافة. 
خطوة المثقفين استباقية، تظهر أنها كذلك زمنيا، أي عمودياً، لكن في غالب الأحيان، هي استباقية أفقيّة، أي، معرفة المحيط يجعلك هو الذي يجعلك أكثر نباهة، وما سيحدث لمحيطك، قد حدث لأطراف بعيدة من قبل.
المثقفون يستمعون لأعدائهم في الفكر والمعتقد! تبدو فكرة عادية، لكنها صعبة للغاية، معظم الناس يغضبون سريعا من رأي مخالف لهم، ويريدون بأي طريقة فرض أو هداية الآخر إلى فكرتهم، المثقفون لا يغضبون من رأي الآخر، بل يستمعون للآخر بدقة، لأن فكرة الآخر سلاح المثقف، سلاح للمعرفة، وسلاح لبناء الفكرة على أساس فكر الآخر، لأننا نعيش طوال الوقت فيما يسمى رد الفعل، الحياة بين فعل وردة الفعل، فاذا أخذت معلومة ناقصة سيكون ردك ضعيفا، أو موافقتك غير قوية. 
هناك بعض الظروف التي تساعد بعضاً من الناس على أن يكوّنوا ثروة ثقافية أحسن من غيرهم، مثل النشأة على بين ثقافي، أن يكونوا من أبوين من جنسيتين مختلفتين، أو أصلين مختلفين، السفر كثيراً، القراءة بكثافة.. كلها عوامل تضع الفرد في ظرف حسن ليصبح مثقفاً، إذا ما اجتهد! لأن الثقافة ولحد اللحظة لا تؤخذ بالشريحة ولا بجرعات الحقن. 
المثقفون يستعملون كل أفكار وثقافات وعِبر وأمثال العالم لخدمة فكرتهم، فهم لا يمنعون أنفسهم من الاطلاع على تفاصيل الآخر، وأخذ ما يمكن تذويبه في فكرتهم، وهذا ما يسمى الانتباه للتفاصيل. 
عمود المثقفين جميعاً بكل تخصصاتهم هو التاريخ، التاريخ مادة أساسية في مختبر أي مثقف لبناء أو شرح أو تطوير أي مفهوم كان، من لا يعرف التاريخ العام للعالم، والحضارات والتدرج الحضاري، لن يستطيع طرح أي شيءٍ نافع، فهو سيقع فيما يسمى إعادة اختراع العجلة، أي، يحسب أنه اخترع العجلة، غير أنها موجودة منذ مئات السنين. 

المقال 292
#عمادالدين_زناف

الثلاثاء، 24 مايو 2022

هوس الإنسان بـ ”الأنف“



ما سرّ تركيز العالم على جمال الأنف؟ 
وما الرسائل النفسية والعلمية والثقافية التي يُخبرنا بها أنف الآخرين؟

أوّل ما يكرهُه العديد من البشر في أنفسهم [صورتهم] هو أنفهم، أكثر من أي شيءٍ آخر مثل البدانة أو الصلع أو أمور أخرى. لأوًل وهلة، نعتقد أنه أمر مُتعلّق بالـ ”إستيتيك“، البحث عن اكتمال الحُسن.  فكرة اكتمال الحُسن وتقعيد قوانين وأبعاد خاصة له جاء بها الفيلسوف ألكسندر جوتليب بومجارتن، فقد أسس علم الجمال وعمل على تشييع نموذج عام ليُميز الناس الجميل من القبيح، ليس حسديا فخسب بل فكريا وروحيا وعمليا، الفكرة التي عارضها كانط أخلاقياً.
لكن في الواقع، عدم إعجاب الفرد بأنفه أو بأنف غيره يحمل خبايا أخرى.
 في سن المراهقة، السن الذي كنا نريد أن نبدو فيه بظهر جميل، في المتوسطة والثانويو، لم يكن أحسن سنوات حياتنا أنفياً، ذلك أنه سن الانتقال إلى مرحلة البلوغ وما تصحبها من حبوب وتغيرات فيزيولوجية غير متناسقة، شعر جعد، أنف كبير يتوسطه حب شباب أحمر فاقع.. كلها صور لم تسعادنا على كسب جرعة من الثقة في أنفسنا. هذه العقدة الصغيرة لاحقتنا بعد ذلك، إذ أننا كنا ننتظر تغيرا، وبالفعل العديد من الناس يتغيرون للأحسن، ما يُكسبهم ثقة، وآخرون يبقون على تلك الحالة، ما يجعلهم في تذبذب مستمر من جانب تقبلهم لشكلهم الخارجي.
لا نعلمُ لمَ نتمنى أن يصبح أنفنا أجمل يوما ما، علم النفس والفلسفة قد يجيبان بعض الشيء عن هذا.
ليس من المحير أن نعلم بأن عملية تجميل الأنف هي الأشهر على الإطلاق، وذلك للقضاء على هذه العقدة من جذورها، بالرغم من أن الصلع قد يكون أكثر عقدة بالنسبة للرجل، وأن جسم المرأة أكثر أهمية من جزء معين في وجهها. 
الإنسان يحب أن يكون حسن الوجه، ومن حُسن الوجه التباعد والتوازي الجيد بين الأعين والحاجبين والأنف مع الفم، ما يعطي شكلا يريح بصر الآخر، لأن هوس الانسان الأكثر شهرة هو تعديل الأمور غير المتناسقة في الطبيعة بذهنه، أي، يتخيّل شكلاً أكثر تكاملاً لتلك الأشياء غير المتساوية، والأنف، من الأشياء التي يركز عليها الانسان في وجه الآخر، ذلك أنه محور التساوي في دائرة الوجه، فإذا كان الأنف معتدلا، اعتدلت الأمور الأخرى على محوره، وبذلك، لن يضطر أحد لتعديل شكل ذلك الخص في ذهنه، ما سيريحه من مجهود معين.
يربط الناس في لا وعيهم تكامل الأنف مع الجينات، أي، يصنفون الرجل والمرأة مكتملي جمال الأنف من الشخصيات الراقية جينياً، أي أنهم من سلالة جميلة وصافية، طبعا هذا فكر علمي خاطئ، إلا أن لاوعي الناس الجمعي لا يخضع للعلم إطلاقاً. فمن علامات النُبل هو الأنف الجميل والشعر السبط، لذلك يعمل الناس على تعديل شعرهم، فهو علامة عتيقة بدائية للقول بأننا من جينات نبيلة، تماما هي نظرتنا للأنوف.
ما يراه الجنسين في أنف الآخر إذا هو جينات تاريخية نبيلة، وبذلك، أبناء نبلاء، وبذلك، يصبح الآخر مثيراً للانتباه، يحمل خبايا جينية راقية سيمررها للآخر.
هناك ثقافة متوارثة تلصق نوعا معين من الأنوف، لأطراف وطوائف معينة، فإذا كانت شريرة، فسيصبح شكل الأنف جزءًا من صفاتهم في لا وعي العامة، وهذا ما يجعلنا نخاار الأنوف بعناية. فالأنف يخبرنا عن انتماء الفرد ثقافيا، وأكرر أن الأمر غير علمي، بل نفسي ثقافي، إلى انهما أكثر تأثيرا من العلم.
لأن الأعراق قد اختلطت، ونرى في البلد الواحد أنوفاً مختلفة، وهذا خلاف ما يعتقد الناس في أنفسهم بأن جمال شيء سطحي استيتيكي لا غير.
نحن كما نحن، علينا تجاوز الأمور التي لا يمكننا تغييرها، صحيح أن الأنف الافطس، صلعة الشعر، تباعد وقِصر الحاجبين، ضيق الذقن، أمور تزعج صاحبها، لكن عليه معرفة أن الجمال هو جملة المحاسن، وأن حسن الوجه جزء من أجزاء المحاسن، وليس فينا من هو جميل حقا [أي جاملٌ لكل المحاسن]، فكن الأحسن في كل ما تستطيع أن تنميه، واترك ما هو خارج عن سيطرتك، وتذكروا أم الذكاء والحكمة تجعلانك حسناً ومثيراً أكثر من حسن وجهك.

المقال 291

#عمادالدين_زناف

الاثنين، 23 مايو 2022

الكربون 14 والتاريخ



عودة للمقالات العلمية المشوّقة!
ما هي قصّة كربون 14؟

يعرفهُ المختصّون على أنه وسيلة لقياس عُمر مُعظم الأشياء والحفريات، على أنّهُ ليس الوحيد في هذا. 
 كربون 14 يعمل على تأريخ المادة، فهو الوسيلة لإعطاء أقرب مُدّة ممكنة من تواجد هذه الأخيرة في الأرض، لكن دعونا نفكّكه للتقريب! الذرات المُحيطة بنا تحتوي على نواة ذرية تُدعى بروتون ونيترون وما حولها تُدعى الإلكترونات. في الحالة القاعدية، عدد الإلكترونات يساوي عدد البروتون، إذ هو ما يُحدد الطبيعة الكيميائية للذرة! أي، العنصر المحدد في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية. مثلا، إذا كان هناك 2 بروتون فيُسمى الهيليوم H2e، 6 بروتون يُسمى كاربون C6، 8 بروتون يسمى الأكسيجين O8.
بالنسبة للنيترون فالأمر مُختلف، عدد النيترون في الغالب يساوي عدد البروتون، غير أن هناك عدّة مُتغيّرات للعناصر، وتُدعى النظائر Isotopes، فإذا أخذنا الهيليوم كمثال، نجد أن نواته ثابتة البروتون (2 بروتون) لكن النيترون متغير من 1 إلى 8. 
نجمع هذه النظائر ونُرقّمهم بعدد البروتون والنيترون.  نظريا هُناك العديد منها، لكن واقعياً، هي أقل بكثير، وغالبيّة النظائر الواقعية متذبذبة، فنجد في الهيليوم أن فقط هيليوم 3 وهيليوم 4 هم الثابتون. الثبات هنا هو بقائهم على حالتهم (هيليوم)، والتغير يعني تحولهم لشيء آخر، ويسمى الاضمحلال الإشعاعي، الأمر الذي يحدث بطريقة تلقائية غير مُنتظرة. 
الكاربون يحتوي على 6 بروتون، وباتباع عدد النيترون، نجد أن لدينا عديد النظائر، فمثلا نجد أن كربون 12 ثابت، وهو يمثل 99% من كربون الأرض، كربون 13 ثابت أيضاً لكنه يمثل 1% من كربون الأرض. أما كربون 14، موضوع مقالتي اليوم، فهو غير ثابت، لكن حياتهُ طويلةٌ جداً! قدّرها العلماء بـ 5730 سنة!
أنت تقرأ مقال للكاتب عماد الدين زناف.
إذا كان هناك كربون 14 في شيء مُعيّن، فعليك انتظار تلك السنوات لمشاهدته يَنقس بـ 50%، فتقريبا، بعد 11 ألف سنة ينقصُ منه نصف النصف أي يتبقى 25% منه.  بهذا المبدأ، يمكننا استخراج كربون 14 من أي أحفورة ودراسته، وبالكشف عن نسبة اضمحلاله وعدد كربون 14 المتبقي فيها، نعرف بالتقريب سن الأحفورة التي بين أيدينا، لأن كربون 14 يستقر فيها تماما بعد أن تثبت في الأرض. كلما كان عدد كربون 14 قليلا، كلما كان الشيء الذي بين أيدينا عتيقا جداً. 
كربون 14 دائم التواجد، ذلك أن الشعاع الكوني يضرب جزيئات الهواء ويُحوّل نواة النيتروجين (azote) إلى كربون 14، نسبة كربون 14 الممزوج في ثاني أكسيد الكربون المتواجد في الهواء يبقيه ثابتا، على شحّه!
لدراسة هذا، علينا دراسة النشاط الإشعاعي، وهذا ما يجعل العمليّة مُعقّدة جدا. إضافة إلى أن حدوده تقف عند 50 ألف سنة فقط، فمثلاً، لا نجد كربون 14 في البترول نهائيا، تعرّض المواد إلى كربون 14 جديد يضع الأبحاث في مأزق ويجعلها غير دقيقة. 
كذلك، آخر قرن من الزمن، وبعد نشاطات الانسان النووية، اهتزّت نِسب كربون 14 في الجو وزادت كثيراً، ما جعل المباحث أصعب بكثير، إلا أنها نزلت مجدداً بعد توقف العمل النووي، لكن الأكيد أن الباحثون في القرون القادمة سيجدون تعقيدات كثيرة لدراسة عصرنا. 
سنة 1940، جاء الكيميائي الأمريكي ويلارد ليبي بفكرة التأريخ بالكربون 14، فكرة أخذ عنها جائزة نوبل سنة 1960.
العملية انطلقت بأخذ بقايا أثرية نعرف مُسبقا سنّها، وإعادة قياسها بالكربون 14 لمعرفة احقّيته، ووصلوا الى نتائج مطابقة. 
أنت تقرأ مقال للكاتب عماد الدين زناف.
أشهر التجارب؟
أولها تأريخ سن مخطوطات البحر الميت، وقد وُجدت في أكواخ فلسطين سنوات 1946 و 1956، وُجد كذلك بعد المخطوطات للكتاب المقدّس العهد القديم، أقدم مخطوطة تدعى مخطوطة حلب، وقيل أنها قد كتبت بين سنة 910 و 930، المخطوطات الأولى عمرها الحقيقي عاد إلى 250 قبل الميلاد، باستعمال طريقة كربون 14. طبعا، تم دعم التحليلات باستعمال علم الحفريات أيضا، وقد جاءت النتائج متطابقة. 
لماذا استعملوا عدة تقنيات؟ 
لأن الكربون 14 قد يعطي معلومة مُغالطة، ذلك أن العلماء وجدوا خريطة في سنوات الخمسين، تدعى خريطة vinland  ،و فيها رسمة تأكد اكتشاف أمريكا من رحالة الفايكينج قبل كولومبو، الكربون 14 حدد سن ورق الخريطة بين 1423 الى 1445، غير أن هذه الدراسة غير كافية، لان الورق قد يكون عتيقا والحبر والرمة جاءت بعده بكثير، فكان عليهم البحث في الحبر نفسه، والى يومنا، الجدل لا يزالُ قائما.
إذا، للكربون 14 حدوده، هناك طريقة أخرى باستعمال بيريليوم  berrylium 10 وهو من النظائر التي تعيش 1.4 مليار سنة، به تم اكتشاف هياكل قديمة جدا مثل توماي، وكذلك أقدم مادة في الأرض الى يومنا وتسمى معدن زركون وسنه حوالي 4,4 مليار سنة!

فهل هي كائنات حية تُخبرنا عن التاريخ؟ كم يعجبني هذا السؤال. 

المقال 290
#عمادالدين_زناف
ساهم في نشر العلم.

الجمعة، 20 مايو 2022

عدنان إبراهيم، بين الفكر والأحجية



إن المُطّلع على أحوال الفكر العربي والإسلامي ومُفكّريهِ حديثاً، لا يكاد يجد ما يشفي فضوله الكامل والشامل حول عدّة قضايا نفسية واجتماعية وعلمية وفلسفية وعلاقتهم المباشرة وغير المباشرة بديننا وتعاليمه، وتراثنا الفكري الإسلامي، العلاقة بين الماضي والحاضر والتطلّع على المستقبل. إلا أنّ هناك مُفكٍّر فلسطيني برَزَ منذ سنوات على منصة التواصل يوتيوب بخُطبهِ ومُحاضراتهِ وآراءه في عدّة قضايا مُباشرة وفرعيّة كانت وما زالت عُرضة للمساءلة في أذهاننا، العديد من المسلمون كانوا يتحرّجون من البوح ببعضها، نظراً لقِصرِ اطّلاعهم في تلك المواضيع "الضخمة".
من منا لم يُصادف أحد مقاطع الدكتور عدنان إبراهيم، حول مواضيعَ مُربكة مثيرة لردود الفعل المُستحسنة والمُستنكرة، العديد منا قد اكتشفهُ بطرقٌ مُلتوية، عبر ردود الدكاترة الآخرين عليه، أو، هناك من كان يتعقّبُهُ منذ سنوات طويلة، فهو ناشطٌ في النمسا لأكثر من عشرين سنة. لن أستطيع مناقشة أفكار الدكتور عدنان إبراهيم في مقالة واحدة، ولا في عشرات المقالات، لأن المواضيع التي تناولها تكبُرُني، وتحتاج من كلّ فرد أن يجلسَ لها طويلاً، وهذا النوع من المناقشات يتعدّى المقال، بل يُناقش في رسالة طويلة. قد يشعرُ القارئ أنني اتكلّم بصيغة الذم، والحقيقة ليست كذلك، الردود العلمية والفكرية تحتاجُ إنصافاً، والقائل بصدقيّة هذا الأمر وكذب الآخر، دون تحقّق، هو ضحيّة لانحياز تأكيدي ومعرفي كما شرحتهم في عدّة فيديوهات ومقالات سابقة. الانحياز يقف حاجزاً بينك وبين الحق الذي نطمح للوصول إليه جميعا، فلو صدقَ الشيطان في قول، لوجب القول إنه صدق، وإن كانَ شيطاناً، كما حدّث النبي الصحابي، وعلينا أن ننقل قول القائل كما هو بكل أمانة، وألا نُحوّره بحجّة الخصومة والانحياز الذي يجعلنا نكرهُهُ لآراءٍ سابقة، كما نقل ربّ العالمين قول إبليس في كتابه العزيز، دون زيادة ونُقصان، وهو من هو. 
المثل الغربي يقول "حتى الساعة المُتوقّفة، تُشير إلى الوقت الصحيح مرّتين في اليوم"، لذلك، ليس من المنهج العلمي أن نُتبِع أحدهم طيلة حياته بقول قد أخطأ فيه، كي نُخطّئه في كل قول بعده، الإنسانُ خُلّة محاولات وأفكار، وإن كان الجانب الديني لا يحتمل كلّ المحاولات الفكرية، وسوف أعود لهذه النقطة. لديّ العديد لأقوله حول الدكتور، وفي الحقيقة، أجد نفسي في كلّ مرّة أتراجع عن الحديثِ عنه، ذلكَ أنني كُنتُ أنتظر منه أشياءَ أخرى بعد انقطاعه عن الخطبة لمدّة سنتين، ولكن عودته مؤخراً، أي منذ ستة إلى سبعة أشهر، لم تحمل فكراً جديداً من التصوّر الديني، فهو لم يُغيّر آراءه الأولى. 
الآن، سأحاول تقسيم المقال إلى ثلاثة مواضيع أساسية، لكي ألخّص المنهجية والطريقة التي يتّبعها الدكتور في معالجة كلّ من: الجانب الفلسفي والفكري، الجانب العلمي، والجانب الديني. (أتابعه منذ عدة سنوات، لذلك أجد أنني مُلمّ بعض الشيء بأسلوبه)
نبدأ بالجانب الفلسفي والفكري:
الدكتور موسوعة في الفكر والفلسفة، فقد استفدتُ منه كثيراً في حديثه عن الفلسفات القديمة وربطها بفلاسفة مسلمون، وقد كانت له سلسلة رائعة عن أبي حامد الغزالي، تابعتها باهتمام واستفدتُ منها كثيراً، لديه ذاكرة قويّة تجعله قادراً على الاستشهاد سريعا، لا يتلعثم في الحديث، لسانه العربي واضح وجميل يجعلك منتبها، لكنني صُدمت عندما سمعته يتحدّث عن نيتشه وفلسفته، ودون الدخول في التفاصيل، لأنني أتحدّث عن المنهج العام للدكتور وليس عن التفاصيل، وجدتهُ متأثراً بالترجمات السيّئة هو أيضاً، ورغم أنني لا أدّعي أنني أكثر اطّلاعاً منه أبدا، لكنني تساءلت، ماذا لو كانت ردود أفعال كل مختصّ بشيء تُشبهُ ردّة فعلي إزاء فهمه الخاطئ لنيتشه؟ أي أن المُستمع غير المُتخصّص لن يشعُرَ بالأخطاء، ذلك أن عدنان مُقنع، ويُشعركَ أنه لا يخطئ في المعلومة، ولكنه يفعل، ولن يعلم ذلك إلا من هو مُتخصّص في شيء ما. قرأت كُتُب نيتشه باللغتين، العربية والفرنسية، بجل الترجمات تقريباً، ما جعلني أحيط بطريقة غير مباشرة بهذه الشخصية حتى من الجوانب اللسانية، وهذا ما جعلني أشكّ في المعلومات الأخرى التي لا أعلمها، ما لزّني أيضا للبحث بنفسي عن مصدر كل قول يقوله، لأنني أحبّ أن أتعلّم العلم الصحيح، وليس هوسا بجمع المعلومات بعشوائية. 
من الجانب العلمي، لا يمكنني الحُكم على كل ما يقوله، فقد شاهدتُ مختصين يُعطونه الحق في بعض الأمور العلمية، مثل الدكتور باسل الطائي فيما يخص المعلومات عن علم الفلك، لكنّني لم أطّلع عن ردود الآخرين حول سلسلتهِ نظرية التطور، رغم إعجابي بطريقة الطّرح، المصادر والأسلوب السهل (تعميم علمي)، إلا أنني أبقى بجوشني أنتظرُ الحجّة بالحجّة. ما أعيبهُ على الدكتور، هو ضيق المصادر والمراجع لديه! المُستمع له يُخيّل له أنه يتحدّث بمراجع كثيرة، ويُلقي عديد الأسماء "name dropping" على مسامعنا، أبحاث وتجارب، إلا أنها غالباً تصبّ في العالم الأنجلوساكسوني والجرماني فقط، لم أسمع منه تجارب وأبحاث ومراجع فرونكوفونية أو صينية أو هندية أو لاتينية، وهذا يكشفٌ لنا أمراً، وهو أن ثقافة الدكتور فيما يخص العلوم والفلسفة (خارج اللغة الإنجيليزية والألمانية أيضا أظن) تعتمد على الترجمات العربية فقط، أي أنه لا يقرأ للفرنسيين بالفرنسية، بل ينتظر ما تُرجمَ عنهم، لا أجزُم، إلا أنني أضع هذه الأطروحة لأشرح عدم التوازن في المراجع العلمية، والمعروف أن البحوث العلمية المُوثّقة تستلزم تعدد المراجع أكثر من كثرتها! فهناك تضخّم في المراجع، ما يوهم ثقافة جبارة، وهناك تعدّد في المراجع، وهو الأمر اللازم إذا ما فتحنا مواضيع علمية بحتة. 
أما الجانب الديني، فلدي العديد لأقوله، إلا أنني لستُ في محلّ قول ما الصواب وما الخطأ، لستُ مُفتياً ولستُ في محلّ فكّ النزاع بينه وبين دكتور آخر، كلاهما يتحدّث بالمراج نفسها، غير أن لكلّ واحد تفسيره! وقضية تفسير الآيات والأحاديث قد تبدو لنا سهلة، إذ أن بعد الجمل والأحكام سهلة ولا تحتاج إلا تعقيدات كثيرة، لكن المُستمع لمشاجرات الدكاترة والشيوخ وتفسيق بعضهم البعض، يجعلنا أحد الطرفين، إما الطرف الذي ينحاز محبّةً لشيخ على شيخ، ذلكَ أننا لم نبلغ علم واطّلاع وثقافة هذا ولا ذاك، فسنختار ما ننحازُ إليه وانتهى، ما نريده أن يكونَ واقعاً لأننا لا نملك نفس الأسلحة التي يتحدّثون بها (علوم الفقه، الحديث، التفسير، النحو، علم الكلام..)، أو، نكون الطرف الثاني المُتفرّج الذي يُحبّ أن يستمع للجميع، وعندما ينتهي من سماعهم يذهب لحياته ليواصل عمله، متعته، تعبدّه، أو فسوقه، وكذبه، واختلاسه، أي أن كل هذا مجرّد مسرحية ممتعة له لا غير. ومن هُنا أفتح باباً ضيّقاً، أعلّق فيه بصوت التلميذ الذي يعطي رأيه للجميع بصوت لا هو بالخافت ولا هو بالعال:
الحديث في تاريخ الدين السياسي لا ولن يُجدي، خاصة الموجّه للشعوب التي ترتوي بهذه المواضيع لزيادة حقد أو زيادة حب لما "تريده أن يكون الحق" لا غير، لأن السياسة الحقيقة تغلبُ أي فصلٍ ديني، فنقد شيء سياسي بطابع ديني، موجّه للشعوب، لن يُؤتي الشعوب إلا بالشغب والفوضى، وأن من يحبّ الحقيقة لا يحتاج إلى الدكتور، فالكتب متوفّرة وتكاد تكون مجّانية، إلا أن الشعوب لا تهتم إلا بالمُشاغبة، وليس بالحق، وإن علمت الحق، فهي لن تحسن استعماله، فسنعود لنفس مشكلة الفوضى. طريقة التغيير الذي يطمح إليها الدكتور عدنان، تُشبه طريقة تغيير التمية البشرية التي ينتقدها، وأنا أتفق معه في هذا وأبصم، فهي تكلّم الناس على أنهم بعقل واحد، بتجربة واحدة، تستصغر عقولهم عن طريق استعمال العواطف تارة وحجة العلم تارة أخرى.. إن الحديث عن أزمات تاريخية، ومضاربات الفرق والشِيَع، ومشاكل التفسيرات، ومشاكل اللسان العربي في الفهم، ورجال الشيخين وأصناف الأحاديث، وقضية المهدي والدجال ونزول عيسى عليه السلام، وقضية أن النصارى واليهود ليسوا مشركيـ،ن وغيرها من المواضيع الشائكة، لا تناقش للناس على أنها حقائق جئت بها، ولا تناقش للناس وهم لا يفقهون أدنى درجات العلوم الشرعية، بل تُناقش بين العلماء المختصين فقط، ذلك أن الناس لا يملكون إلا أن يجعلوك جاهلاً لأنك تخالف ما يعلمونه من سوابقهم وشيوخهم، أو يجعلوكَ عبقرياً لأنك تتماشى مع اهوائهم ورغباتهم، ولا هذا ولا ذاك يمت للعلم بصلة. 
أما المناظرة، فأنا لا أستطيع أن أفهم لما لا يناظرون بعضهم البعض، بينما يفضل الجميع أن يرد في بيته وفي راحته، والآخر في منبره، وكل يقول إنه يخشى الله ويقول الحق للناس. من يرفض الحوار والمناظرة مُتّهم إلى أن يُثبت براءته بالمُحاجة، فليست بحجة أن تقول إن الآخر ليس بدكتور أو ليس بمستواي (ثم ترد عليه بمئة فيديو وأنت تأكل البندق)، فصاحب الحق قد يكون طفل صغير، فتحاجّوا أو لا تفتنوا الناس في دينهم أبداً، أفضّل أن تبقى القضيّة مُغلقة على أن تُفتح بشكل يشبه خلع الخنجر من الجسد.
أوافق العديد من أطروحاته في الفكر والفلسفة، ولكن في الأمور الدينية ليس بنفس الدرجة إطلاقاً، لديّ العديد من التساؤلات المنطقية الدينية التي أستطيع أن أحرجه بها، خاصة في موضوع المشركيـ،ن الأخير، بمكانتي البسيطة التي لا تبلغ رتبة طالب علم، لكنني اعلم أنه لن يجيبني عنها لأنني لستُ دكتوراً ولا فقيها ولا مختصاً، وهذا ما يجعلني مستاءً بعض الشّيء من تعامله مع النقد الذي نريد أن نطرحه، رغم أنه يوجّه خطابه لي (لنا).  
في الأخير أقول اننا نقرأ ونستمع للفلاسفة والعلماء غير المسلمين، فلا يمكن أن نمنع أنفسنا من الاستماع لمفكر عربي بحجة أو بدون حجة، وأن علينا معرفة أن الفاكهة التي بها نواة، تُرمى نواتها ويؤكل ما بقي منها، ولا تُلقى كلّها، كذلك نتعامل مع أي مفكّر كان، مسلم او غير مسلم، وهذا يُعيدنا إلى النقطة الجوهريّة، البحث بأنفسنا عن مواطن الحق والباطل وأن نرى بأنفسنا ونتحقق، فإذا لم نكن مستعدين للبحث، فنحن إذا سنسلّم أنفسنا لما تهواه نفسنا وخواطرنا وما يمليه لنا انحيازانا الباطني.

المقال 289
#عمادالدين_زناف 
ساهموا في نشره

الثلاثاء، 17 مايو 2022

ما العلم والعلماء اليوم؟



العلم لا يتحرّك، البُحوث هي من تفعل!

العالم لا يَقول وجدتُ، بل يقولُ وجدنا، ولا يقولُ سأبحثُ، بل يقولُ سنبحث، فالعالم لا يتحدّث عن أمرٍ يخصّه، بل عن شيء يخصّ الإجماع العلمي. القضيّة ليست في الخطأ العلمي، بل في التعامل مع الأبحاث العلمية بطريقة غير موضوعيّة. 
العلماء لا يبحثون عن العلم، بل يبحثون في العلم، لذا علينا أن نعلم بأن العلوم غير مكتملة في ذاتها، بل هي تشبه القارورة التي تمتلئ شيئا فشيء بالأبحاث العلمية، والأبحاث العلمية قبل أن توضع في القارورة تخضع للتقطير والتصفية عن طريق المخابر، وقبل ذلك، عليها أن تكون أبحاثاً علمية بالأساس، وليس عبارة عن مقالات رأي. فالباحث عليه أن يدرسَ أسس البحث العلمي والمنهجية في الطرح العلمي، قبل العرض. 
النقد في العلم هو أكثر شيء تعرّض للابتذال، قد يكون أحد أسباب هذا الابتذال هو شدّة التقارب بين العلم والعلماء مع المجتمعات، عكس ما كان عليه في السابق. ذلكَ أننا نجد أن عامّة الناس، أي غير المختصين ينتقدون الأبحاث العلمية بالميول العاطفي والحدس والرّغبة والانحياز المعرفي، وليس نقدا مبنيا على أبحاث علميّة أخرى تناقض الأبحاث الأولى. والمشكلة هُنا ستنتقل من الأبحاث العلمية إلى أشياء أكثر تعقيداً، مثل تسييس العلم وأدلجته، واخضاعهِ للرقابة والتأطير الذي يُقيّد حرّيته، بحيث أن الأبحاث مثل الرضيع، تحتاج لمساحة كافية للتجربة وكسب الخبرة.  
العلماء يبحثون، لأنهم يعلمون بأنهم لا يعلمون، فهم يؤكدون مقولة سقراط حرفيا، فالجهل غيرُ منسوبٍ للذي لا يعلم، الجهلُ صفة العالم! لأن الذي يعلم أنه لا يعلم، يعلم أنه يجهل، بينما الذي لا يعلمُ أنه لا يعلم، فهو بذلك لا يعلم أنه جاهل، فهو لم يصل لدرجة الجهل المَعلوم! إذا هو لا يخضع لأي مصطلح بعد! هو شيءٌ من الفوضى chaos قبل تكوين شيء ما. 
العالم المُعاصر لم يعد يعرف معنى الخُلوة العلمية، حيثُ أصبحَ الإعلام يعاملهُ والباحث والفيلسوف على أنهم شخصيات مؤثرة، مدربين للشباب الطموح، شخصيات تُخاطب الناس عن تجاربها الاجتماعية أكثر منها العلمية، والأمر منطقي إلى حدّ بعيد، ذلك أن التخصصات تبقى حبيسة المتخصصين دائما، حتى إذا وصل العالم للحديث عن علمه توقّف وتحدّث عن شيء آخر، وإن انتقت بعض العلوم إلى الشعوب عبر التعميم العلمي، فهي لن تعوّض التعليـم العلمي المنهجي الأصيل. ذلك أن التعميم هو مُحاولة اغواء واستدراج الشعوبِ والشباب خاصةً للعلم، ودراسته والتعمق فيه، وليست هي العلم في ذاته. 
نَجدُ أن هناك رغبة إعلامية وشعبية في جعل بعض العلماء والباحثين عبارة عن قامة عظيمة، ذلك أنهم اجتهدوا في مواضيعَ علمية شاركهم فيها الكثيرون.  غيرَ أن التاريخ يؤكّد أن ما يجعل العالم والباحث والمفكر والفيلسوف والفقيه قامةً ورمزية في عصره هو الوقت والزمن. فالزمن وحده كفيل بوضع الناس في مواضعهم التي يستحقون، أما ما يختاره الناس فليسَ بالعظيم بعد، ذلكَ أن اختيارات الشعوب غير المتخصّصة تخضع دائما للعاطفة أولا، وثانيا هي لا تُدرك أحقيّة ما عُرضَ عليها، فالباحث والمنقّب هو الوحيد القادر على تقييم الأشياء، غيرَ أن تقييم الأشياء إذا جاء عكس طموح الشعوب، فسوف يخضع للجلد الشعبوي، وكل هذا لا يمثل العلم والعلماء في شيء. رغبة الشعوب تتلخّص في صناعة تمثال لأمّتهم ومُمثّل لها، وان كانَ قدَرُهُ كذلك، فسيكون بعد أن تتراكم عليه التجارب ويتراكم فوقه المفكرون والفلاسفة والفقهاء، ويبقى مع ذلك شامخاً بأبحاثه وأفكاره بعد مائة ومائتي سنة!
السؤال هو، كيف يكمن للشعوب أن تُقيّم الأبحاث؟ وهي غير متخصّصة في العلوم عينها، ولا تستطيع أن تُثبت أو تنفي شيئا منها!
الإجابة باختصار أنها لا يُمكن أن تُقيّم الأبحاث ما دامت لا تستطيع أن تعيَ التفاصيل ولا تستطيع التجريب والبحث، فما الذي علينا أن نستنتجه من كل هذا؟ 
الاستنتاج سيكون كالتالي: لا يجب أن تخضع الأبحاث العلمية لآراء الشعوب إطلاقاً، ما يُمكن فعله هو عرضُ النتائج التي تساهم في تطوير الحياة اليومية للمستهلكين فقط، أما التقييمات للأشخاص، فهو تقييم عبثي، ولا أقول إنه عبثي بشكل يعود بالسلب على العالم والباحث والمفكر عينه، بل لأن التقييم الشعبوي غير خاضع للامتحان العلمي، بل خاص للرغبة العاطفية في صناعة التماثيل.

المقال 288
#عمادالدين_زناف

الاثنين، 9 مايو 2022

معنى التاريخ، هيجل وبن خلدون



معنى التاريخ، في الفلسفة الهيجيلية والخلدونية! 

عندما نقرأ التاريخ من مصادره المتعددة، نكتشف شيئاً فشيء بان للتاريخ حركتين واضحتين، الأولى هي التغيّر، دون أن نحدّد إن كان ذلك تغيّراً جيّداً او سيّئاً، ذلكَ أن التاريخ كعلم لا يخضع للنظرة الأخلاقيّة، القول بأن التغيّر هو نفسه التطوّر، يعني أننا أخذنا انحيازاً في النظرة التاريخيّة، ورغم أن التطوّر في ذاته لا يعني تطوّراً إيجابيا، لكن ومع ذلك، يُعتبر مصطلح التطوّر انحيازاً معرفياً. التأريخ عمليّة حسّاسة ومُعقّدة، كذلك النظرة إلى التاريخ تعتبر عملية صعبة ومُعقّدة، وأعقد ما فيها أن يتجرّد الدارس من كل عواطفه ليتقبّل الحقائق بعدَ جمعِ المصادر. بالنسبة للفيلسوف الألماني، التاريخ خاضع لتسلسل زمني، ولا يمكن بأيّ حال أن نحكم على تاريخٍ مُعيّن من منطلق تاريخ آخر بعده، في ظروف وإمكانيات أخرى، يقول، أن ذلك التحوّل والانتقال التصاعدي التاريخي يجب ان يبدأ من نقطة دُنيا ويتصاعد، فهذا هو السبيل الوحيد الذي يعطي للتاريخ معنى ووجهة ومُستقرّ. 
فلن يُفكّر الصّبي كالبالغ والكهل، والتفكير هثنا، ليس هو الذكاء والفطنة، إنّما التفكير على أسس التجارب، حيث يمكن للقوي أن يتحدّث عن مرض ما، لكنّه لم يخبَر ذلك، والفرق بينهما واسع. المنطق الكوني كلّها مبني على التصاعد في النمو، من البذرة الدقيقة، إلى الشجرة الفارعة. لأن عيش الطفولة والمراهقة والشباب كاملةً جزءٌ لا يتجزّأ من البلوغ والرّشد، وأن الطفل الذي لم يعش المرحليّة سيعرف اضطراباً في زمن لاحق. 
فلسفة التاريخ قبل أن يتحدّث عنها هيجل بعين التطوّر المتأثّر "بالصبى التاريخي"، درسها ابنُ خلدون بشكل منطقي استقرائي، ومن تلكَ القراءة، علمَ ابن خلدون أن نهاية التاريخ ستكُرّر بدايته، وقال بأنها حلقة مُغلقة، أي، الانطلاق من الأوقات الصعبة، التي تصنعُ رجالاً أشداء وحكماء، بدورهم يعيدون الحضارة إلى أوجها، ومن ثم يعم الرخاء، فيأتي الفساد ثم التقهقر، والذي بدوره يصنع الأوقات الصعبة، التي تصنعُ الأشداء والحكماء.. 
لذا هيجل نظرة أخرى، حيثُ يقول إن الحضارة لا تكفأ عن النمو والنضج، ومن ذكاء الفيلسوف أنه قال بأن ذلك النمو ليس هو الكمال، بل النمور الذي يأتي بعده أنضج، وهو منطق التاريخ في النضج المستمر، فإذا قلنا إننا نعيش أوقاتاً صعبة، فهيجل سيقول أن التاريخ لا يزال يتقدّم.
المُلك، أساس التاريخ؟
في زمن الحضارة البابلية والفرعونية، لم يكن من المعقول أن يتم الحديث عن الشورى والانتخابات، عن تصويت الشعب من أجل القرارات الهامة، كان زمن يتطلّب التملّك وفرض الأحكام، حتى أننا لاحظنا في القرآن أن الله عز وجل لم يطلب من موسى خلع الفرعون وتأسيس حكم شورى، بل أن يأخذ بني إسرائيل وأن يغادر مصر فحسب. فأي عملية لتغيير نظام الحكم أنى ذاك لم تكن لتُفهم، من الملك إلى آخر عبد. 
الجمهوريات، مِحور تاريخي؟
تغيّر الحال عندما نقَلَ اليونانيون الفكر المصري إلى أرضهم، بحيث دمج الأسلوب المصري مع الفكر الجديد القائم على بناء الدولة المدينة، بنظام جمهوري شبه ملكي يُتيح للناس بعض الممثلين عنهم (برلماناً) لينقلوا مشاغلهم، فقد انتقل الحال من الديكتاتورية إلى بوادر التواصل بين الحاكم والمحكوم.
حُكم الأقليات، تطوّر تاريخي؟ 
حكم المجموعات، ما يُسمى "أوليغارشي" عرفَ تنقّلاً أيضا من مرحلة إلى أخرى، أي هناك عوائل تسيّر وتملك بلداً أو مملكةً، وقد تتيح الحكم لأشخاص آخرين هي تختارهم، بنظام التداول. 
الديموقراطية، قِمّة التاريخ؟
فإذا مررنا مروراً مسحيا سريعا عن التاريخ، نرى بأن الديموقراطية هي آخر ما توصّل إليه الإنسان، فقد اتاحت هذه العملية الحرية المطلقة للإنسان في كل المجالات، من رأس النظام إلى آخر عامل.
ما بعد الديموقراطية، عودة إلى النظام الفرعوني أو تاريخ جديد؟ 
إذا ما نظرنا إلى التاريخ، سنشاهد أننا إمـا مع النظرة الخَلدونية للتاريخ، أي أن تُغلق الحلقة ونعود شيئاً فشيء لنفس المنطق البُنيوي التاريخي الذي ذكرته، أو، مع النظرة الهيجيلية للتاريخ، أي أن ننتظر بزوغ نجم نظام جديد، يتماشى وتطور المجتمعات وعقلياتهم. 
طبعا، الأنظمة السياسية متعددة، من البرلماني للرئاسي، للشبه رئاسي للملكي، لكن هناك دائما فلسفة سياسية تحكم الزمن. 
نقرأ يمينا وشمالاً أن في الماضي كان وكانَ "قهر استبداد تعصّب جهل" أو "طيبة محبة عطف نية تآزر" ، سواءً كان سلباً أو إيجاباً، فنحن صرنا نعلم الآن أن "معنى التاريخ" قد شرح لنا بأن الأمور تنضج أو تتغير تصاعدياً، من النظرتين، الخلدونية والهيجلية، لكن مُستقرّ التاريخ هو نقطة الاستفهام بينهما. 
وفي الأخير، تتفق الفلسفتان في أن الرجال هم من يقودون التاريخ، وأن التاريخ يعرف تحوّلاً بإرادة الرجال، فمن وجهة نظر هيجل، نابليون أعظم من كريستوف كولومبوس، ذلك أن الأول كان يعلم ما يريده، فقدّ سطّر التاريخ بنفسه، أما الثاني فقد ترك التاريخَ يختارُ له ما يُريد، ولقد رأينا ان لابن خلدون نفس المفهوم، فالرجال هُم من يوقفون الأوقات الصعاب "بالقرار" وليس الانصياع للزمن والتاريخ والمجرى الواقعي، أي أن مُنعرج التاريخ يأتي إرادةً، فإذا أردت تغيير التاريخ، فغيّره، ذلكَ أن التاريخ لا يتغيّر لوحده، وأن معنى التاريخ لن يكون دون هؤلاء الذين كتبوا له معانٍ جديدة.

المقال 287
#عمادالدين_زناف

السبت، 7 مايو 2022

تحول الذكاء إلى غباء


عندما يُصبح الذكاءُ غباءً!

كثيراً ما نُخلطُ بين الحكمة والثقافة والقدرة على الفهم والتركيز والقدرة على الحفظ والإدراك وغيرها من الأمور التي نجمعها غالباً في "الذكاء". من الصّعب ان نُعرّف الذكاء بالمُطلق، فكلّ العلوم تُعرّفه بنظرتها، علم الأعصاب مثلا يُعرّف الذكاء بأنهُ القدرة على الحركة العصبية السريعة في الدماغ، ما يُنتج استيعابا سريعا للأمور، في البيولوجيا، الذكاء هو القدرة على التعايش في أحلك الظروف الطبيعية، في السياسة، الذكاء هو القدرة على الاستشراف والتوقع، القدرة على تحليل الاحداث الماضية، واسقاطها على الحاصر ومن ثم الانطلاق وتوقع الأمور المقبلة، وذلك يعتمد على أدوات أخرى زيادة على الذكاء، مثل المطالعة. 
في الفلسفة، الذكاء يكمن في المهارة في طرح الأسئلة واعطاء الأجوبة، القُدرة على الإقناع. أما في علم النفس، فالذكاء متفرّعٌ كثيراً، ذلك أن علم النفس يفكك الذكاء بين المكتسبات والأمور التي نتعلمها، بين المهارات وبين الخداع، بين الذكاء الرياضي والذكاء الاجتماعي والذكاء العلمي، والذكاء العاطفي، والذكاء التربوي عوالم وتباعد، ذلكَ أنّ الذكي علميا ليسَ بالضرورة ذكي اجتماعيا، فقد يكونُ مصاباً بالتوحّد، أو برهب الجمهور. وحتى دون أمراض، لا يمكن للفرض أن يكون متمكناً في كل شيء، أي، لا يمكن أن يكون الذكاءُ شاملاً في شخص واحد، على كل خاصيات الحياة، بينما يمكن للفرض أن يستخدم أساليب الحجب أو التخفي، أي إخفاء عيوبه بقدر ما أمكنه. 
معرفة الأشياء، الثقافة العامة، لا تجعل من الشخص ذكيا، لنَقُل أن معرفة الأشياء، لا تُغيّر فعليا من الذكاء الطبيعي في الفرض، بل تُغيّر في "قدراته الاجتماعية"، الوعي بأننا لسنا بالقدر الكافي من الذكاء، في علم الاجتماع، هو ذكاءٌ في ذاته، ذلك انه يجعلنا لا نقع في المآزق والاحراجات. أي، الإدراك، إدراك الذات والأشياء، والوعي بالذات، والمحيط، أعلى من الذكاء في علم الاجتماع. 
هل يتطلّب الوعي ذكاءً؟ نعم، لكنّه لا يتطّلّب ذكاءً حادّاً، ذلك أن الذكاء الحاد، ينتقل من الملاحظة إلى الإنتاج، فالذي "أراد" ولم يستطع أن ينتقل من النظر إلى الإنتاج، يعتبر متوسّط الذكاء. ذلكَ أن الإنتاج يحتاجُ ذكاءً في عوالم أخرى، التسويق ودراسة المستهلك.
إذا، حفظ الكتب، وجدول الضرب، وأسماء البوكيمونات، وجدول ماندلييف، تُعتبر مهارة وليست ذكاءً، قد يكون للحافظ مهارة الحفظ إضافة إلى الذكاء، أي، القدرة على ترجمة ما حفظة بأسلوب جيّد. 
الشهادات الدراسية أيضاً ليست امتحانا للذكاء، بل هي امتحان لمهارة الحفظ، خاصة في البلدان التي ما تزال تعتمد على الحفظ الأعمى وليس على الامتحانات التجريبية مثل الدول الإسكندنافية وكوريا وسنغافورة، فليست كل الدراسات متشابهة في العالن، وهذا ما يخلق التفاوتات والجودة في الشهادات. 
الذكاء ليس بذاكرة، فلا يمكن اعتبار الآلة التي تحفظ المعلومات مثل - فلاش usb - شيئا ذكيا. 
إذا أردنا ان نغامر ونعرّف الذكاء بشكل مُبسّط، فيمكننا القول إلماما أنها القُدرة على تحليل الأشياء واستيعاب التعقيدات واستشراف القادم في وقت سريع، بحيث يمكن اسقاط العمليات الثلاث في أي مهنة. 
الذكاء أيضا هو القدرة على التوقع، توقع لكمات الخصم، توقع حدوث كارثة جراء تصميم سيء، توقع نزول البورصة، توقع سقوط الرضيع، توقع نجاح أحد المجتهدين، توقع تفكك أسرة، أو اتحاد زوجين، وغيرها من الأمور اليومية التي تحتاج لمّاحاً. 
الذكي هو همزة وصل بين السذاجة والعبقرية، لماذا؟ لأن العبقري قد يصبح ساذجا، والساذج قد يقوم بفعل عبقري دون قصد، لكن الذكي يعي ما يقوم به، دون قدرات العبقري، وفوق سذاجة الأحمق. 
المقارنة والتمييز بين ذكاءٍ وآخر هو ضربٌ من السذاجة، ذلك أننا لا نختار رزقنا ( ما رُزقنا الذكاء فيه )، وكذلك، لو كانَ هناك ذكاءٌ أحسن من الآخر، لفقدت الحياة توازنها كليا. لذلك أسخر أشد السخرية من هؤلاء الذين يعتمدون على جدول درجات الذكاء ليحتقروا الافريقيين، غير أن لو وضعنا الشمالي في ظروف الجنوبي، لما استطاع العيش، فكذلك يحدث للجميع، لكلّ مجتمع ذكاء يتناغم مع أرضه وجوّه وحاجياته، ومن لا يملك ذكاءً لا يحتاجه لأسباب بيولوجية وتاريخية واقتصادية وثقافية، فهذا لا يعني أنه أحمق. 
  تستطيع أن تحمل درجة 180 في سلّم الذكاء، وتقف عاجزا على فعل أي شيء أما عطل في الثلاجة، في تيه الغابة، في علاقة حب. 
طيّب، متى يصبح الذكاءُ غباءً؟ باختصار، عندما تُصبح عملية الذكاء نهاية وهدف في ذاتها، وليس وسيلة لحلّ القضايا المعقدة وتسهيل الحياة. هناك من يحطمون أدمغتهم في محاولة تعقيد حياتهم، ظنا أنه ضربٌ من الذكاء، غير أن دور الذكاء هو عكس ذلك، لا يتماشى الذكاء وتعقيد الأمور، إطلاقاً.
الذكاء في تيسير كل شيء، في تسهيل الحياة، لاحظوا، كل الاختراعات ساهمت في تسهيل حياة الإنسان، حتى لو تعقدت الأمور من جوانب أخرى، فذلك نتاجاً وليس هدفاً، فكما يقول ابن خلدون الرخاء والترف ينتج الفساد حتما. 
التفكير غير الهادف، الحديث والثرثرة، محاولة التشويش على الذات، كلها بعيدة عن الذكاء، بل هي جلدٌ للذات، وبها، نصاب بأمراض عصبية وبعزلة اجتماعية، وفي بعض الأحيان، نزيح إلى التطرّف والعدوانية.
تذكّروا هذا، لا تجعلوا من الذكاء حجة للتُعس، فالذكاء وسيلة لصد الجهل و تيسير الأمور المعقدة، وليس لصناعتها.

المقال286
#عمادالدين_زناف 


الثلاثاء، 3 مايو 2022

لا أحد يفكر من نفسه


لا أحد يفكّر من نفسه، لا أحد. 

السؤال الذي يتكرّر علينا دائما هو "لماذا لا تفكّرون من أنفسكم"، " لماذا تشيرون إلى المفكرين والفلاسفة والعلماء والمؤرخين"، "كما فكّروا هُم، فكّروا أنتم"، إلى آخره من الملاحظات التي تأتي من حينٍ إلى آخر. 
قبل البداية في شرحِ لمَ لا يوجدَ أحد فوق الأرض يُفكّرُ من نفسه، علي أن اوضّح أن الكُتّابُ ثلاثة أنواع، النوع الأوّل الكاتب النبيل، الذي لا يسرق أفكار الأولين والآخرين، المشهورين منهم ولا المخفيين، النوع الثاني الذي لا يتذكّر من قال هذه ومن قال الأخرى، يتذكّر الأفكار العامّة ولا يكرّر نفس أسطر الجميع، كاتبٌ لا يتعمّد السّرقة، لكنه لا يجتهد في البحث عن أصول الأفكار، والنوع الثالث، الكاتب السارق، الذي لا يشير إلى مفكر ولا عالم ولا فيلسوف ولا مؤرخ إلا خُصاصة، عليكَ أن تحذر من الذي لا يذكر أهل الفكر، ذلكَ أنك أمام سارق مُحترف، يُريد أن يظهر بمظهر النبي الذي يوحى إليه. 
التفكير من الذات يعني التفكير من خارج هذا العالم، من خارج الكون، ذلك أن الذي يعيش في كوننا هذا متأثر بتتابع الأفكار والتاريخ والثقافات والحضارات والأمم، مُلزم بتجارب الغير وخبراتهم وتفوقهم في مجالاتهم. من يدّعي التفكير من ذاته يدّعي بذلك التحرّر من أي قراءة ولا مطالعة ولا تحليل، فهو من تلقاء نفسه يستطيع شرح الأحداث والعلوم والأفكار، أي أنه يمتلك قدرة داخلية تُنتج له المصطلحات والكلمات والجُمل والأفكار. التفكير من الذات، يعني أن يقوم الفرد بإلغاء تام لكل مُكتسباته القبلية، والتفكير من الصفر، أي، العودة بذاته إلى العصور التي سبقت الحضارات كلها. 
إذا فعل ذلكَ، ما الفائدة في إزاحة العالم وتاريخه لإعادة التفكير من البداية؟ هل يعتمد المُدعي أنه يفكّر من تجاربه الخاصة؟ إذا كان كذلك، فهل سيعتبر ما مرّ عليه صحيحا وموجوداً، وأن كل ما لم يخبره ولم يلمسه، سيّئا وغير موجود؟ هل يعني أنك مُلزم على لمس الحمم البركانية للتصديق بأنها حارقة؟ أو أن تمشي وتلمس رمل الصحراء لكي تتأكد من أنه حقيقي؟ هل تُريد أن تبني كل تفكيرك العلمي والفكري والنفسي من تجاربك الخاصة حصرا؟ أم من تجارب وخبرات الآخرين أيضا!
قراءة المقالات، مشاهدة الأفلام والشرائط، مطالعة الكتب والمجلات عبارة عن خبرات فكرية وخيالية لكل فرد، تجعلنا نربط تجربة الآخرين باستنتاجاتنا الخاصة، لبناء مفاهيمي مُعتدل. 
ماذا سيحدث في العالم لو توقّف العلميون الاعتماد على تجارب الآخرين العلمية، والاكتفاء بتجاربهم الخاصة فقط؟ أو، امتناع الفلاسفة من الانطلاق مما انتهوا إليه الفلاسفة والمدارس الفكرية السابقة، والانطلاق من الصفر، أي، من مرحلة ما قبل الفيلسوف الأول. 
ماذا لو توقّفت عملية صبر الآراء التي تعتمد على نسبة معينة وليس على كل الأفراد، ذلكَ أنها لا تُمثل الأشخاص فردا فرداً، ماذا لو توقفت الانتخابات، ذلك أن نصف الشعب قد امتنع عنها، ماذا سيحدث إذا امتنعنا عن الأخذ بالتاريخ والمؤرخين، وانطلقنا نروي قصصا تتلاءم وما نريد أن نعتقد أنه قد حدث، فقط، لكيلا نستند عن أحد غير تفكيرنا.
هناك من يعيبون على الفنانين تقليد المدارس القديمة أو الحديثة، أو البداية بالرسم والغناء والكتابة تأثراً بشخصيات معروفة! فليخبرونا كيفَ سيقومون بخطواتهم الأولى دون معرفة ما سبق؟ هل سيخترعون أقلاما وأوراقا وألوانا وأدوات جديدة؟ هل سيكتبون بأحرف خيالية؟ هل سيتكلمون بلغة لا يعرفونها؟ كيف يفكّر هؤلاء؟ 
عندما ننطلق في مجال مُعيّن، فنحن أمام اتجاهين، إما اتجاه النقد أو اتباع البديل للشيء الذي نرفضه، أو مُتابعة نفس المنهج الفكري أو الفني الموجود سلفاً، مع إضافة تركيبات لغوية وأمثلة مُختلفة، وأساليب بلاغية مجتهدٌ فيها. 
الاتيان بالجديد، لا يعني الانطلاق من العدم، فنحن نرتكز على عدة أشياء تركها لنا الإنسان. والقول بالتفكير ذاتيا، هو القول بإزاحة الانسان وتجاربه. 
أن تطلب من أحدهم التفكير من نفسه هو أن تطلب منه إخفاء مصادره، أو اختراع كلمات وأفكار وأدوات غير موجودة. 
بينما يجب أن نطلب من الناس ان يحلّلوا بمنطلق علمي وفكري وفلسفي نزيه ومُعتدل، وأن يكون لهم توجّه عادل يخدم مصلحتهم ومصلحة محيطهم.
احذروا من هؤلاء الذين يدّعون التفكير من الذات، فأنتم أمام سراق، أم جهلة. 

المقال 285
#عمادالدين_زناف

الأحد، 1 مايو 2022

الاستياء من النجوم



الاستياء.. أو ذلكَ المرض العُضال. 
لا يرى الناس في الاستياء عيباً، بل يبرّرون هذا الشعور في أنه طبيعة إنسانية، ذلكَ أننا نمل سريعاً ونريدُ أشياء أخرى. لستُ أعارض هذا التعريف، هو فعلاً شعور إنساني، والإنسان ملّال بطبعه، غير أنه تعريف ناقص، الاستياء شعور إنساني يتطوّر سريعاً إلى عادة مرضيّة. سأشرح سبب اختياري لهذا الموضوع.
كُنتُ أتابع إيلون موسك منذ مدّة، تعرفونه، الرجل الذي تجيدونه في كل مكان ويملك كل شيء يريده. تحدّثتُ عنه في كتابي الشفق، حول النيورالينك وأبعادها وتوابعها على الإنسان. عالجتُ وانتقدتُ هذه القضية من الجانب العلمي فقط، ذلكَ أنني لا أخفي إعجابي بشخصيته وطريقته الساخرة. طريقة تعاطي الفرد مع شخصية علمية أو فكرية أو مسؤولة تحتاجُ لبعض من الذكاء والفطنة، ذلكَ أن الإعجاب المُبرّر والحكيم، ينتجُ فائدة وتفريق بين الشخص وأفكاره، أما الإعجاب العشوائي والمتهور ينتج استياءً وكرها. أذكر هذا المثال، لأنني أجد أن الكثير من الناس يُعجبون بشخصية ما بشكل عشوائي غير مُبرّر فكريا ولا علميا، أي غالبهُ إعجابٌ بالشخص ذاته، وليس بما يقدّمه، وحتى لو كان الإعجاب حول ما يقدمه، فغالبا يكون إعجاباً بشيء يتماشى وهوى وخاطر المتلقّي، وليس حبا في الفكر والعلم، وهذه العملية لها توابع سيّئة. 
ذلك أن المُفكر والعالم والمسؤول والنجم لا يخضع لميول كل متابع وقارئ، بل يقوم بفعل ما عليه فعله وينصرف، وما على المتابع إلا أن يُعجب ويُبرّر إعجابه، أو أن ينتقد ويبرّر انتقاده، وليسَ عليه الاستياء من "تكرار نفس الأفكار" من شخصيته المحبوبة، أو أن شخصيته المحبوبة "أصبحت تتحدث في مواضيع لا تُعجبه". 
هناك العديد من الشخصيات، عندما يقعون في تلكَ المفارقة التي تريد أن تفرض عليهم ما يحبه القراء والمتابعون والمشاهدون، لكي يُطيل من عمر إعجابهم به ومتابعته، يوافق على فعل ذلك، أي الخضوع لما يطلبه المتابع. غيرَ أن تلك الشخصيات لم تفهم بعد نفسيّة الإنسان، ذلك أن الملّال سيمل مهما كانَ الوضع، بل وسيملّ أكثر إذا ما تمّ الخضوع لرغباته، فرغبات معظم الناس، او لنقل عندما يجتمع الناس على شيء معين، لن تجد تلك الفكرة تحلّق عاليا في عالم الفكر، بل ستجدها أفكار متوسّطة ومتكرّرة، وبذلك، نعود إلى الحلقة المغلقة، الملل من مواضيع الشخصيات التي لا تخضع لآرائهم، والملل من الشخصية التي تكرر لهم ما يريدونه.. مُعضلة. 
الاستياء يأتي من الذين لا يملكون الشغف بالأمور العميقة، ذلك أن المستاء مرضياً يبحث عن محرّكات لذة مُتجدّدة، يبحث عن الأمور البرّاقة بشكل مستمر، لا يرى الحياة إلى من جانب الدراما والضوضاء، تماما كضحية الأفلام الإباحية، إذ في كلّ مرّة يبحث عن الأشياء الأكثر غرابة، وإلا فسوف يستاء. 
هذا الشعور يدفع بصاحبه إلى الجنون، ذلك أنّه سيقضم ذيله يوما ما، فالمستاء من الآخرين مستاء من ذاته أيضا، فمن يبحث عن اللذة والسعادة عند الآخر، قد فقدها في وحته وفي ذاته، فهو من دون أن يشعر، لا يريد أن يلتقي بنفسه، الفرد الطبيعي، يبرّر إعجابه وامتعاضه، لا يُشخصن، لا يحقد، ولا يطلب من الشخصيات أن تخضع لرغباته. 
الكثير منا يلغي متابعة شخصية أضحت لا تمثله، لا تشبهه، أو تكلمت في موضوع لا يحبه، أو له رأي متعصب فيه، فعلينا بذلك مساءلة أنفسنا، ما الدوافع التي تلزّنا على متابعة أشياء تشبهنا فقط؟ هل من فائدة تلوح في الأفق إذا صنعنا عالماً يتحدّثُ عما نريده قراءته وسماعه فقط؟ هل ستتضاعف ثقافتنا بذلك؟ هل سينضج تفكيرنا؟ هل الاكتفاء بمن يشبهوننا، أ]، نُسخ منا في كل مكان، سيشعرنا بالتشبع؟ إذا كان الأمر كذلك.. لمَ لا نكتف بأنفسنا منذ البداية، ولا نحاول إلصاق ذواتنا في كل كائن حيّ..
لا تحقد ولا تستاء من الذي كنتَ معجبا به في الأمس القريب، إذا ما صارَ أحسن، أو زاحَ نحو مواضيع أخرى، أو واصلَ في المواضيع نفسها. يمكنك أن تختلفَ معه، وأن تساهم في إثراء ذلك بطرق حضارية، لكن إياك وأن تسمح للاستياء كي يغوص في أعماقك، فاستياء بعد استياء لن يوصلكَ إلا اللذة، بل سيشتّتك أكثر فأكثر. 
المقال 284
#عمادالدين_زناف

التارديغراد وحدود القوة



التارديغرادا حيوانٌ لا يُقتل ولا يُرى ولا يحتاج شيئاً للعيش.. مُرعب أليسَ كذلك؟ 
الرعب الحقيقي لا يكمن في الأمور التي نُدركُ أنها مرعبة سلفاً، ولا في الأمور التي نريد أن نخلع حجاب الغموض عنها، فلا مفاجئة عندما نتصوّر الأسوأ والأغرب، لكن في العلم، الرّعب أكبر بكثير، عندما تكتشفُ أن كائنا مجهرياً أقوى من كل الكائنات فوق الأرض، بسنين ضوئيّة.
سوفَ أقسّمُ هذا المقال إلى الشق العلمي كبداية، ثم الشق الديني، ثم الفلسفي والاستنتاج. 
اكتشف العالم الألماني يوهان أوغست جويزي هذا الكائن الحي سنة 1773م، لكنّهُ لم يكن يعلم قوّة هذا الكائن، فقد عملَ على تصنيفه ووصفه. أسماه بعدَ ذلك العالم الإيطالي لازارو سبالانزاني بـ Gradus، والتي تعني الكائن البطيء باللاتينية.  يُعتبر من فصيلة الحيوانات (مفصليّة الأرجل) التي تتضمن كل الحشرات والعنكبوتيات، وكذلك يُصنّف في نوعيات (إكستريموفيل، أليف الظروف القاسية). 
لا يتجاوزُ طول هذا الكائن المُرعب الـ1 مم، أو أقل من ذلك! تابعوا معي الظروف التي يمكنهُ أن يعيش فيها بلا أيّة مشاكل تُذكر.
درجة حرارة +340° فوق الصفر، و -273° تحت الصفر.
يتفوّق على الإنسان بـ 11 ألف مرّة في مقاومة الأشعة إكس. 
يتحمّل ضغط أعماق المحيطات 4 مرّات أكثر من الإنسان. 
يعيشُ في حالات الجفاف التام، وانعدام الأكسجين، للمواد السامة، وللمواد الحامضة، وفي مادة الكحول. 
في بعض الحالات، يُزاوج نفسه للتكاثر.
يعيش في أعالي جبال الهيمالايا إلى أقاصي الصحراء، وفي أعماق المحيطات إلى أقرب نبتة في بيتك. 
لن تستطيعوا تصوّر أنهُ "يموت" بشكل كامل، فهذا ما يظهر عليه، بينما تسمى علميا cryptobiose   أو حالة السبات، لعشرات السنوات، عندما يحدث تغيّر مفاجئ في محيطه الطبيعي. لكنه يُعاود الحركة والمشي من جديد! في تلكَ الحالة يتصحّر ويجفّ كلّياً، يُعوّض الماء بالسّكر، ويُخفض أيضهُ إلى 0،01%، ولا يحيا إلا بعض أن يتعرّض للماء. في إنجلترا، تمَّ إخراج بعضً من التارديغرادا لدراستها، تارديغرادا محفوظة منذ 80 سنة، المفاجئة أن بعض تعرّضها للماء، باشرت في الحركة مباشرة! هذا الكائن الصلب مغلف بـ بروتيين يُدعى dsup الذي يحمي حمضه النووي من أي إشعاع. وهذا ما جعل العلماء يفكّرون في استعمالها لحماية الانسان من المعالجة بالأشعّة.
 قُدرته على التأقلم مع الظروف مُرعبة، رغم أن موته الكامل سهل جداً إذا حُرم من عملية حالة السبات. 
خُلقَ هذا الحيوان من خلقَ الأرض، لا يُمكنُ قول شيءٍ أكثر اختصاراً من هذا، فقد وجدوا أثاراً له تعود لزمن غابر. 
بشكل أوضح، هذا الحيوان سيعيش حتى لو سقطت عدة نيازك، أو قامت حرب نووية شاملة، أو تم طرده نحو الفضاء، أو سجنه في أعماق المحيط المُظلم. 
 الرسالة الربانية هُنا واضحةٌ جداً. عظمة الخالق جليّة في هذا الكائن المجهري، بالرّغم من أننا لا نراه إلا بأجهزة متطوّرة، إلا أنه أقوى منا بمراحل لا تكاد تُحصى، ذلكَ أننا لو تعرضنا لرياح باردة أو حرّ زائد، تنخفض قوّتنا كثيراً ونقترب من الهلاك، غير أن التارديغرادا يتقوّى أكثر فأكثر. 
هو مخلوق يُعيد الإنسان إلى نقطة الصّفر، في تصوّر خلقه، في نظرته للكون والخالق، في نظرته العامة للآخر، في تعجرفه وتكبره، في اعتقاده انه يسيّر الأرض ويعرف ما فيها وما في الكون، في جرأته على الخالق بنكرانه أو بالتمادي في عصيانه. هذا الكائن، يُحجّمنا جميعا، يجعلنا صامتين وخائفين ونحن ننظر إليه في المخابر، ونتساءل، لمَ وكيف يملك كل هذه الطاقة، وهو لا يُرى بالمقارنة مع أصغر الذباب..
أما فلسفيا، فالقضية مُعقّدة جدّاً. 
وجبَ إعادة النظر في نظريّة القوّة الحسيّة والمعنويّة بعدَ دراسة هذا الكائن، هل ما زال يعتقد البشر أن القوّة تكمن في العضلات والمناصب والثروات؟ قد تكونُ كذلك، لكن تعلّمنا التارديغرادا طرح سؤال مهم جداً، وهو، إلى متى؟  سؤال تتفرّع منه عدّة أسئلة!
كم سيقاوم هذا القويّ؟ إلى متى ستدوم قوّته في الزمان والمكان؟ كم من مرّة سيعود فيها إلى قوّته بعد كل أزمة ضاربة؟. هذه الأسئلة ليست تحدّيا من هذا الكائن للإنسان، ذلك أن الإنسان أضعف بملايين المرات من الأزمات التي عصفت وتعصف بالتارديغرادا، إنّما هي إعادة نظر عن معنى القوّة، هل القوّة في بلوغ السلطة الماديّة والمعنوية المطلقة، أم في عدد مرّات البعث بعد كلّ كارثة قويّة. 
ما نعلمه أن الإنسان واسع الطغيان والتجبّر، يستطيع أن يبلغ أقصى درجات العنف والتكبّر والاحتقار، الفكرة هُنا أنهُ يخرّ طريحاً عندَ عدد لا متناهٍ من الأزمات، المادية والمعنوية والعاطفية. 
ليسَ وحده موضوع القوة هو ما يثير التساؤل أمام هذا الكائن، بل هناك قضيّة الوعي، هل وعي الإنسان بالكون يساعده على أن يحتويه؟ أن تَعيَ الأشياء لا يعني أنّه ستتمكن من الهيمنة عليها، فإذا كانَ مفهوم الهيمنة عند الإنسان هو تدمير الأشياء، فوعي التارديغرادا أكبر بكثير، ذلك أنه لا يُدمّر شيئاً، لكن لا شيء يدمّره.  فحتى لو عرف الإنسان حجم الخطر الذي يلاحقه من نيزك قادم فسوفَ يعمل على إبعاده أو تدميره فقط، ولا يطمحُ أبداً في فكرة التعايش معه والعودة إلى الحياة بعده.. بينما هذا الكائن المجهري يفعل ذلك. 
إرادة القوّة هي محاولة فكرية لتجاوز ضعف الذات، ومحاولة تجاوز المفاهيم التي تعيق مسارها، فالذات، تبحث عن فهم الأشياء باستمرار، لكن حدود القوّة قد تكون ها هُنا، أي، تكون في فهم الأشياء وليس في التعايش معها، فالوصول إلى ذروة ما نسميه "القوة"، هو في الحقيقة ذروة الوصول لفهم أبعاد القوّة وليس في استعمالها، وقد تكون الذروة كلّها في الإيمان العميق بأنّ القوّة تكمن في العودة في كل مرة، غير أننا، مهما بلغنا من وعي، فلن نعود بعدَ أول انفجار. 

المقال 283
#عمادالدين_زناف 
#علم #فلسفة #دين #تراديغرادا