التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الكربون 14 والتاريخ



عودة للمقالات العلمية المشوّقة!
ما هي قصّة كربون 14؟

يعرفهُ المختصّون على أنه وسيلة لقياس عُمر مُعظم الأشياء والحفريات، على أنّهُ ليس الوحيد في هذا. 
 كربون 14 يعمل على تأريخ المادة، فهو الوسيلة لإعطاء أقرب مُدّة ممكنة من تواجد هذه الأخيرة في الأرض، لكن دعونا نفكّكه للتقريب! الذرات المُحيطة بنا تحتوي على نواة ذرية تُدعى بروتون ونيترون وما حولها تُدعى الإلكترونات. في الحالة القاعدية، عدد الإلكترونات يساوي عدد البروتون، إذ هو ما يُحدد الطبيعة الكيميائية للذرة! أي، العنصر المحدد في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية. مثلا، إذا كان هناك 2 بروتون فيُسمى الهيليوم H2e، 6 بروتون يُسمى كاربون C6، 8 بروتون يسمى الأكسيجين O8.
بالنسبة للنيترون فالأمر مُختلف، عدد النيترون في الغالب يساوي عدد البروتون، غير أن هناك عدّة مُتغيّرات للعناصر، وتُدعى النظائر Isotopes، فإذا أخذنا الهيليوم كمثال، نجد أن نواته ثابتة البروتون (2 بروتون) لكن النيترون متغير من 1 إلى 8. 
نجمع هذه النظائر ونُرقّمهم بعدد البروتون والنيترون.  نظريا هُناك العديد منها، لكن واقعياً، هي أقل بكثير، وغالبيّة النظائر الواقعية متذبذبة، فنجد في الهيليوم أن فقط هيليوم 3 وهيليوم 4 هم الثابتون. الثبات هنا هو بقائهم على حالتهم (هيليوم)، والتغير يعني تحولهم لشيء آخر، ويسمى الاضمحلال الإشعاعي، الأمر الذي يحدث بطريقة تلقائية غير مُنتظرة. 
الكاربون يحتوي على 6 بروتون، وباتباع عدد النيترون، نجد أن لدينا عديد النظائر، فمثلا نجد أن كربون 12 ثابت، وهو يمثل 99% من كربون الأرض، كربون 13 ثابت أيضاً لكنه يمثل 1% من كربون الأرض. أما كربون 14، موضوع مقالتي اليوم، فهو غير ثابت، لكن حياتهُ طويلةٌ جداً! قدّرها العلماء بـ 5730 سنة!
أنت تقرأ مقال للكاتب عماد الدين زناف.
إذا كان هناك كربون 14 في شيء مُعيّن، فعليك انتظار تلك السنوات لمشاهدته يَنقس بـ 50%، فتقريبا، بعد 11 ألف سنة ينقصُ منه نصف النصف أي يتبقى 25% منه.  بهذا المبدأ، يمكننا استخراج كربون 14 من أي أحفورة ودراسته، وبالكشف عن نسبة اضمحلاله وعدد كربون 14 المتبقي فيها، نعرف بالتقريب سن الأحفورة التي بين أيدينا، لأن كربون 14 يستقر فيها تماما بعد أن تثبت في الأرض. كلما كان عدد كربون 14 قليلا، كلما كان الشيء الذي بين أيدينا عتيقا جداً. 
كربون 14 دائم التواجد، ذلك أن الشعاع الكوني يضرب جزيئات الهواء ويُحوّل نواة النيتروجين (azote) إلى كربون 14، نسبة كربون 14 الممزوج في ثاني أكسيد الكربون المتواجد في الهواء يبقيه ثابتا، على شحّه!
لدراسة هذا، علينا دراسة النشاط الإشعاعي، وهذا ما يجعل العمليّة مُعقّدة جدا. إضافة إلى أن حدوده تقف عند 50 ألف سنة فقط، فمثلاً، لا نجد كربون 14 في البترول نهائيا، تعرّض المواد إلى كربون 14 جديد يضع الأبحاث في مأزق ويجعلها غير دقيقة. 
كذلك، آخر قرن من الزمن، وبعد نشاطات الانسان النووية، اهتزّت نِسب كربون 14 في الجو وزادت كثيراً، ما جعل المباحث أصعب بكثير، إلا أنها نزلت مجدداً بعد توقف العمل النووي، لكن الأكيد أن الباحثون في القرون القادمة سيجدون تعقيدات كثيرة لدراسة عصرنا. 
سنة 1940، جاء الكيميائي الأمريكي ويلارد ليبي بفكرة التأريخ بالكربون 14، فكرة أخذ عنها جائزة نوبل سنة 1960.
العملية انطلقت بأخذ بقايا أثرية نعرف مُسبقا سنّها، وإعادة قياسها بالكربون 14 لمعرفة احقّيته، ووصلوا الى نتائج مطابقة. 
أنت تقرأ مقال للكاتب عماد الدين زناف.
أشهر التجارب؟
أولها تأريخ سن مخطوطات البحر الميت، وقد وُجدت في أكواخ فلسطين سنوات 1946 و 1956، وُجد كذلك بعد المخطوطات للكتاب المقدّس العهد القديم، أقدم مخطوطة تدعى مخطوطة حلب، وقيل أنها قد كتبت بين سنة 910 و 930، المخطوطات الأولى عمرها الحقيقي عاد إلى 250 قبل الميلاد، باستعمال طريقة كربون 14. طبعا، تم دعم التحليلات باستعمال علم الحفريات أيضا، وقد جاءت النتائج متطابقة. 
لماذا استعملوا عدة تقنيات؟ 
لأن الكربون 14 قد يعطي معلومة مُغالطة، ذلك أن العلماء وجدوا خريطة في سنوات الخمسين، تدعى خريطة vinland  ،و فيها رسمة تأكد اكتشاف أمريكا من رحالة الفايكينج قبل كولومبو، الكربون 14 حدد سن ورق الخريطة بين 1423 الى 1445، غير أن هذه الدراسة غير كافية، لان الورق قد يكون عتيقا والحبر والرمة جاءت بعده بكثير، فكان عليهم البحث في الحبر نفسه، والى يومنا، الجدل لا يزالُ قائما.
إذا، للكربون 14 حدوده، هناك طريقة أخرى باستعمال بيريليوم  berrylium 10 وهو من النظائر التي تعيش 1.4 مليار سنة، به تم اكتشاف هياكل قديمة جدا مثل توماي، وكذلك أقدم مادة في الأرض الى يومنا وتسمى معدن زركون وسنه حوالي 4,4 مليار سنة!

فهل هي كائنات حية تُخبرنا عن التاريخ؟ كم يعجبني هذا السؤال. 

المقال 290
#عمادالدين_زناف
ساهم في نشر العلم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...