الجمعة، 20 مايو 2022

عدنان إبراهيم، بين الفكر والأحجية



إن المُطّلع على أحوال الفكر العربي والإسلامي ومُفكّريهِ حديثاً، لا يكاد يجد ما يشفي فضوله الكامل والشامل حول عدّة قضايا نفسية واجتماعية وعلمية وفلسفية وعلاقتهم المباشرة وغير المباشرة بديننا وتعاليمه، وتراثنا الفكري الإسلامي، العلاقة بين الماضي والحاضر والتطلّع على المستقبل. إلا أنّ هناك مُفكٍّر فلسطيني برَزَ منذ سنوات على منصة التواصل يوتيوب بخُطبهِ ومُحاضراتهِ وآراءه في عدّة قضايا مُباشرة وفرعيّة كانت وما زالت عُرضة للمساءلة في أذهاننا، العديد من المسلمون كانوا يتحرّجون من البوح ببعضها، نظراً لقِصرِ اطّلاعهم في تلك المواضيع "الضخمة".
من منا لم يُصادف أحد مقاطع الدكتور عدنان إبراهيم، حول مواضيعَ مُربكة مثيرة لردود الفعل المُستحسنة والمُستنكرة، العديد منا قد اكتشفهُ بطرقٌ مُلتوية، عبر ردود الدكاترة الآخرين عليه، أو، هناك من كان يتعقّبُهُ منذ سنوات طويلة، فهو ناشطٌ في النمسا لأكثر من عشرين سنة. لن أستطيع مناقشة أفكار الدكتور عدنان إبراهيم في مقالة واحدة، ولا في عشرات المقالات، لأن المواضيع التي تناولها تكبُرُني، وتحتاج من كلّ فرد أن يجلسَ لها طويلاً، وهذا النوع من المناقشات يتعدّى المقال، بل يُناقش في رسالة طويلة. قد يشعرُ القارئ أنني اتكلّم بصيغة الذم، والحقيقة ليست كذلك، الردود العلمية والفكرية تحتاجُ إنصافاً، والقائل بصدقيّة هذا الأمر وكذب الآخر، دون تحقّق، هو ضحيّة لانحياز تأكيدي ومعرفي كما شرحتهم في عدّة فيديوهات ومقالات سابقة. الانحياز يقف حاجزاً بينك وبين الحق الذي نطمح للوصول إليه جميعا، فلو صدقَ الشيطان في قول، لوجب القول إنه صدق، وإن كانَ شيطاناً، كما حدّث النبي الصحابي، وعلينا أن ننقل قول القائل كما هو بكل أمانة، وألا نُحوّره بحجّة الخصومة والانحياز الذي يجعلنا نكرهُهُ لآراءٍ سابقة، كما نقل ربّ العالمين قول إبليس في كتابه العزيز، دون زيادة ونُقصان، وهو من هو. 
المثل الغربي يقول "حتى الساعة المُتوقّفة، تُشير إلى الوقت الصحيح مرّتين في اليوم"، لذلك، ليس من المنهج العلمي أن نُتبِع أحدهم طيلة حياته بقول قد أخطأ فيه، كي نُخطّئه في كل قول بعده، الإنسانُ خُلّة محاولات وأفكار، وإن كان الجانب الديني لا يحتمل كلّ المحاولات الفكرية، وسوف أعود لهذه النقطة. لديّ العديد لأقوله حول الدكتور، وفي الحقيقة، أجد نفسي في كلّ مرّة أتراجع عن الحديثِ عنه، ذلكَ أنني كُنتُ أنتظر منه أشياءَ أخرى بعد انقطاعه عن الخطبة لمدّة سنتين، ولكن عودته مؤخراً، أي منذ ستة إلى سبعة أشهر، لم تحمل فكراً جديداً من التصوّر الديني، فهو لم يُغيّر آراءه الأولى. 
الآن، سأحاول تقسيم المقال إلى ثلاثة مواضيع أساسية، لكي ألخّص المنهجية والطريقة التي يتّبعها الدكتور في معالجة كلّ من: الجانب الفلسفي والفكري، الجانب العلمي، والجانب الديني. (أتابعه منذ عدة سنوات، لذلك أجد أنني مُلمّ بعض الشيء بأسلوبه)
نبدأ بالجانب الفلسفي والفكري:
الدكتور موسوعة في الفكر والفلسفة، فقد استفدتُ منه كثيراً في حديثه عن الفلسفات القديمة وربطها بفلاسفة مسلمون، وقد كانت له سلسلة رائعة عن أبي حامد الغزالي، تابعتها باهتمام واستفدتُ منها كثيراً، لديه ذاكرة قويّة تجعله قادراً على الاستشهاد سريعا، لا يتلعثم في الحديث، لسانه العربي واضح وجميل يجعلك منتبها، لكنني صُدمت عندما سمعته يتحدّث عن نيتشه وفلسفته، ودون الدخول في التفاصيل، لأنني أتحدّث عن المنهج العام للدكتور وليس عن التفاصيل، وجدتهُ متأثراً بالترجمات السيّئة هو أيضاً، ورغم أنني لا أدّعي أنني أكثر اطّلاعاً منه أبدا، لكنني تساءلت، ماذا لو كانت ردود أفعال كل مختصّ بشيء تُشبهُ ردّة فعلي إزاء فهمه الخاطئ لنيتشه؟ أي أن المُستمع غير المُتخصّص لن يشعُرَ بالأخطاء، ذلك أن عدنان مُقنع، ويُشعركَ أنه لا يخطئ في المعلومة، ولكنه يفعل، ولن يعلم ذلك إلا من هو مُتخصّص في شيء ما. قرأت كُتُب نيتشه باللغتين، العربية والفرنسية، بجل الترجمات تقريباً، ما جعلني أحيط بطريقة غير مباشرة بهذه الشخصية حتى من الجوانب اللسانية، وهذا ما جعلني أشكّ في المعلومات الأخرى التي لا أعلمها، ما لزّني أيضا للبحث بنفسي عن مصدر كل قول يقوله، لأنني أحبّ أن أتعلّم العلم الصحيح، وليس هوسا بجمع المعلومات بعشوائية. 
من الجانب العلمي، لا يمكنني الحُكم على كل ما يقوله، فقد شاهدتُ مختصين يُعطونه الحق في بعض الأمور العلمية، مثل الدكتور باسل الطائي فيما يخص المعلومات عن علم الفلك، لكنّني لم أطّلع عن ردود الآخرين حول سلسلتهِ نظرية التطور، رغم إعجابي بطريقة الطّرح، المصادر والأسلوب السهل (تعميم علمي)، إلا أنني أبقى بجوشني أنتظرُ الحجّة بالحجّة. ما أعيبهُ على الدكتور، هو ضيق المصادر والمراجع لديه! المُستمع له يُخيّل له أنه يتحدّث بمراجع كثيرة، ويُلقي عديد الأسماء "name dropping" على مسامعنا، أبحاث وتجارب، إلا أنها غالباً تصبّ في العالم الأنجلوساكسوني والجرماني فقط، لم أسمع منه تجارب وأبحاث ومراجع فرونكوفونية أو صينية أو هندية أو لاتينية، وهذا يكشفٌ لنا أمراً، وهو أن ثقافة الدكتور فيما يخص العلوم والفلسفة (خارج اللغة الإنجيليزية والألمانية أيضا أظن) تعتمد على الترجمات العربية فقط، أي أنه لا يقرأ للفرنسيين بالفرنسية، بل ينتظر ما تُرجمَ عنهم، لا أجزُم، إلا أنني أضع هذه الأطروحة لأشرح عدم التوازن في المراجع العلمية، والمعروف أن البحوث العلمية المُوثّقة تستلزم تعدد المراجع أكثر من كثرتها! فهناك تضخّم في المراجع، ما يوهم ثقافة جبارة، وهناك تعدّد في المراجع، وهو الأمر اللازم إذا ما فتحنا مواضيع علمية بحتة. 
أما الجانب الديني، فلدي العديد لأقوله، إلا أنني لستُ في محلّ قول ما الصواب وما الخطأ، لستُ مُفتياً ولستُ في محلّ فكّ النزاع بينه وبين دكتور آخر، كلاهما يتحدّث بالمراج نفسها، غير أن لكلّ واحد تفسيره! وقضية تفسير الآيات والأحاديث قد تبدو لنا سهلة، إذ أن بعد الجمل والأحكام سهلة ولا تحتاج إلا تعقيدات كثيرة، لكن المُستمع لمشاجرات الدكاترة والشيوخ وتفسيق بعضهم البعض، يجعلنا أحد الطرفين، إما الطرف الذي ينحاز محبّةً لشيخ على شيخ، ذلكَ أننا لم نبلغ علم واطّلاع وثقافة هذا ولا ذاك، فسنختار ما ننحازُ إليه وانتهى، ما نريده أن يكونَ واقعاً لأننا لا نملك نفس الأسلحة التي يتحدّثون بها (علوم الفقه، الحديث، التفسير، النحو، علم الكلام..)، أو، نكون الطرف الثاني المُتفرّج الذي يُحبّ أن يستمع للجميع، وعندما ينتهي من سماعهم يذهب لحياته ليواصل عمله، متعته، تعبدّه، أو فسوقه، وكذبه، واختلاسه، أي أن كل هذا مجرّد مسرحية ممتعة له لا غير. ومن هُنا أفتح باباً ضيّقاً، أعلّق فيه بصوت التلميذ الذي يعطي رأيه للجميع بصوت لا هو بالخافت ولا هو بالعال:
الحديث في تاريخ الدين السياسي لا ولن يُجدي، خاصة الموجّه للشعوب التي ترتوي بهذه المواضيع لزيادة حقد أو زيادة حب لما "تريده أن يكون الحق" لا غير، لأن السياسة الحقيقة تغلبُ أي فصلٍ ديني، فنقد شيء سياسي بطابع ديني، موجّه للشعوب، لن يُؤتي الشعوب إلا بالشغب والفوضى، وأن من يحبّ الحقيقة لا يحتاج إلى الدكتور، فالكتب متوفّرة وتكاد تكون مجّانية، إلا أن الشعوب لا تهتم إلا بالمُشاغبة، وليس بالحق، وإن علمت الحق، فهي لن تحسن استعماله، فسنعود لنفس مشكلة الفوضى. طريقة التغيير الذي يطمح إليها الدكتور عدنان، تُشبه طريقة تغيير التمية البشرية التي ينتقدها، وأنا أتفق معه في هذا وأبصم، فهي تكلّم الناس على أنهم بعقل واحد، بتجربة واحدة، تستصغر عقولهم عن طريق استعمال العواطف تارة وحجة العلم تارة أخرى.. إن الحديث عن أزمات تاريخية، ومضاربات الفرق والشِيَع، ومشاكل التفسيرات، ومشاكل اللسان العربي في الفهم، ورجال الشيخين وأصناف الأحاديث، وقضية المهدي والدجال ونزول عيسى عليه السلام، وقضية أن النصارى واليهود ليسوا مشركيـ،ن وغيرها من المواضيع الشائكة، لا تناقش للناس على أنها حقائق جئت بها، ولا تناقش للناس وهم لا يفقهون أدنى درجات العلوم الشرعية، بل تُناقش بين العلماء المختصين فقط، ذلك أن الناس لا يملكون إلا أن يجعلوك جاهلاً لأنك تخالف ما يعلمونه من سوابقهم وشيوخهم، أو يجعلوكَ عبقرياً لأنك تتماشى مع اهوائهم ورغباتهم، ولا هذا ولا ذاك يمت للعلم بصلة. 
أما المناظرة، فأنا لا أستطيع أن أفهم لما لا يناظرون بعضهم البعض، بينما يفضل الجميع أن يرد في بيته وفي راحته، والآخر في منبره، وكل يقول إنه يخشى الله ويقول الحق للناس. من يرفض الحوار والمناظرة مُتّهم إلى أن يُثبت براءته بالمُحاجة، فليست بحجة أن تقول إن الآخر ليس بدكتور أو ليس بمستواي (ثم ترد عليه بمئة فيديو وأنت تأكل البندق)، فصاحب الحق قد يكون طفل صغير، فتحاجّوا أو لا تفتنوا الناس في دينهم أبداً، أفضّل أن تبقى القضيّة مُغلقة على أن تُفتح بشكل يشبه خلع الخنجر من الجسد.
أوافق العديد من أطروحاته في الفكر والفلسفة، ولكن في الأمور الدينية ليس بنفس الدرجة إطلاقاً، لديّ العديد من التساؤلات المنطقية الدينية التي أستطيع أن أحرجه بها، خاصة في موضوع المشركيـ،ن الأخير، بمكانتي البسيطة التي لا تبلغ رتبة طالب علم، لكنني اعلم أنه لن يجيبني عنها لأنني لستُ دكتوراً ولا فقيها ولا مختصاً، وهذا ما يجعلني مستاءً بعض الشّيء من تعامله مع النقد الذي نريد أن نطرحه، رغم أنه يوجّه خطابه لي (لنا).  
في الأخير أقول اننا نقرأ ونستمع للفلاسفة والعلماء غير المسلمين، فلا يمكن أن نمنع أنفسنا من الاستماع لمفكر عربي بحجة أو بدون حجة، وأن علينا معرفة أن الفاكهة التي بها نواة، تُرمى نواتها ويؤكل ما بقي منها، ولا تُلقى كلّها، كذلك نتعامل مع أي مفكّر كان، مسلم او غير مسلم، وهذا يُعيدنا إلى النقطة الجوهريّة، البحث بأنفسنا عن مواطن الحق والباطل وأن نرى بأنفسنا ونتحقق، فإذا لم نكن مستعدين للبحث، فنحن إذا سنسلّم أنفسنا لما تهواه نفسنا وخواطرنا وما يمليه لنا انحيازانا الباطني.

المقال 289
#عمادالدين_زناف 
ساهموا في نشره

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق