التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ما العلم والعلماء اليوم؟



العلم لا يتحرّك، البُحوث هي من تفعل!

العالم لا يَقول وجدتُ، بل يقولُ وجدنا، ولا يقولُ سأبحثُ، بل يقولُ سنبحث، فالعالم لا يتحدّث عن أمرٍ يخصّه، بل عن شيء يخصّ الإجماع العلمي. القضيّة ليست في الخطأ العلمي، بل في التعامل مع الأبحاث العلمية بطريقة غير موضوعيّة. 
العلماء لا يبحثون عن العلم، بل يبحثون في العلم، لذا علينا أن نعلم بأن العلوم غير مكتملة في ذاتها، بل هي تشبه القارورة التي تمتلئ شيئا فشيء بالأبحاث العلمية، والأبحاث العلمية قبل أن توضع في القارورة تخضع للتقطير والتصفية عن طريق المخابر، وقبل ذلك، عليها أن تكون أبحاثاً علمية بالأساس، وليس عبارة عن مقالات رأي. فالباحث عليه أن يدرسَ أسس البحث العلمي والمنهجية في الطرح العلمي، قبل العرض. 
النقد في العلم هو أكثر شيء تعرّض للابتذال، قد يكون أحد أسباب هذا الابتذال هو شدّة التقارب بين العلم والعلماء مع المجتمعات، عكس ما كان عليه في السابق. ذلكَ أننا نجد أن عامّة الناس، أي غير المختصين ينتقدون الأبحاث العلمية بالميول العاطفي والحدس والرّغبة والانحياز المعرفي، وليس نقدا مبنيا على أبحاث علميّة أخرى تناقض الأبحاث الأولى. والمشكلة هُنا ستنتقل من الأبحاث العلمية إلى أشياء أكثر تعقيداً، مثل تسييس العلم وأدلجته، واخضاعهِ للرقابة والتأطير الذي يُقيّد حرّيته، بحيث أن الأبحاث مثل الرضيع، تحتاج لمساحة كافية للتجربة وكسب الخبرة.  
العلماء يبحثون، لأنهم يعلمون بأنهم لا يعلمون، فهم يؤكدون مقولة سقراط حرفيا، فالجهل غيرُ منسوبٍ للذي لا يعلم، الجهلُ صفة العالم! لأن الذي يعلم أنه لا يعلم، يعلم أنه يجهل، بينما الذي لا يعلمُ أنه لا يعلم، فهو بذلك لا يعلم أنه جاهل، فهو لم يصل لدرجة الجهل المَعلوم! إذا هو لا يخضع لأي مصطلح بعد! هو شيءٌ من الفوضى chaos قبل تكوين شيء ما. 
العالم المُعاصر لم يعد يعرف معنى الخُلوة العلمية، حيثُ أصبحَ الإعلام يعاملهُ والباحث والفيلسوف على أنهم شخصيات مؤثرة، مدربين للشباب الطموح، شخصيات تُخاطب الناس عن تجاربها الاجتماعية أكثر منها العلمية، والأمر منطقي إلى حدّ بعيد، ذلك أن التخصصات تبقى حبيسة المتخصصين دائما، حتى إذا وصل العالم للحديث عن علمه توقّف وتحدّث عن شيء آخر، وإن انتقت بعض العلوم إلى الشعوب عبر التعميم العلمي، فهي لن تعوّض التعليـم العلمي المنهجي الأصيل. ذلك أن التعميم هو مُحاولة اغواء واستدراج الشعوبِ والشباب خاصةً للعلم، ودراسته والتعمق فيه، وليست هي العلم في ذاته. 
نَجدُ أن هناك رغبة إعلامية وشعبية في جعل بعض العلماء والباحثين عبارة عن قامة عظيمة، ذلك أنهم اجتهدوا في مواضيعَ علمية شاركهم فيها الكثيرون.  غيرَ أن التاريخ يؤكّد أن ما يجعل العالم والباحث والمفكر والفيلسوف والفقيه قامةً ورمزية في عصره هو الوقت والزمن. فالزمن وحده كفيل بوضع الناس في مواضعهم التي يستحقون، أما ما يختاره الناس فليسَ بالعظيم بعد، ذلكَ أن اختيارات الشعوب غير المتخصّصة تخضع دائما للعاطفة أولا، وثانيا هي لا تُدرك أحقيّة ما عُرضَ عليها، فالباحث والمنقّب هو الوحيد القادر على تقييم الأشياء، غيرَ أن تقييم الأشياء إذا جاء عكس طموح الشعوب، فسوف يخضع للجلد الشعبوي، وكل هذا لا يمثل العلم والعلماء في شيء. رغبة الشعوب تتلخّص في صناعة تمثال لأمّتهم ومُمثّل لها، وان كانَ قدَرُهُ كذلك، فسيكون بعد أن تتراكم عليه التجارب ويتراكم فوقه المفكرون والفلاسفة والفقهاء، ويبقى مع ذلك شامخاً بأبحاثه وأفكاره بعد مائة ومائتي سنة!
السؤال هو، كيف يكمن للشعوب أن تُقيّم الأبحاث؟ وهي غير متخصّصة في العلوم عينها، ولا تستطيع أن تُثبت أو تنفي شيئا منها!
الإجابة باختصار أنها لا يُمكن أن تُقيّم الأبحاث ما دامت لا تستطيع أن تعيَ التفاصيل ولا تستطيع التجريب والبحث، فما الذي علينا أن نستنتجه من كل هذا؟ 
الاستنتاج سيكون كالتالي: لا يجب أن تخضع الأبحاث العلمية لآراء الشعوب إطلاقاً، ما يُمكن فعله هو عرضُ النتائج التي تساهم في تطوير الحياة اليومية للمستهلكين فقط، أما التقييمات للأشخاص، فهو تقييم عبثي، ولا أقول إنه عبثي بشكل يعود بالسلب على العالم والباحث والمفكر عينه، بل لأن التقييم الشعبوي غير خاضع للامتحان العلمي، بل خاص للرغبة العاطفية في صناعة التماثيل.

المقال 288
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...