التخطي إلى المحتوى الرئيسي

التارديغراد وحدود القوة



التارديغرادا حيوانٌ لا يُقتل ولا يُرى ولا يحتاج شيئاً للعيش.. مُرعب أليسَ كذلك؟ 
الرعب الحقيقي لا يكمن في الأمور التي نُدركُ أنها مرعبة سلفاً، ولا في الأمور التي نريد أن نخلع حجاب الغموض عنها، فلا مفاجئة عندما نتصوّر الأسوأ والأغرب، لكن في العلم، الرّعب أكبر بكثير، عندما تكتشفُ أن كائنا مجهرياً أقوى من كل الكائنات فوق الأرض، بسنين ضوئيّة.
سوفَ أقسّمُ هذا المقال إلى الشق العلمي كبداية، ثم الشق الديني، ثم الفلسفي والاستنتاج. 
اكتشف العالم الألماني يوهان أوغست جويزي هذا الكائن الحي سنة 1773م، لكنّهُ لم يكن يعلم قوّة هذا الكائن، فقد عملَ على تصنيفه ووصفه. أسماه بعدَ ذلك العالم الإيطالي لازارو سبالانزاني بـ Gradus، والتي تعني الكائن البطيء باللاتينية.  يُعتبر من فصيلة الحيوانات (مفصليّة الأرجل) التي تتضمن كل الحشرات والعنكبوتيات، وكذلك يُصنّف في نوعيات (إكستريموفيل، أليف الظروف القاسية). 
لا يتجاوزُ طول هذا الكائن المُرعب الـ1 مم، أو أقل من ذلك! تابعوا معي الظروف التي يمكنهُ أن يعيش فيها بلا أيّة مشاكل تُذكر.
درجة حرارة +340° فوق الصفر، و -273° تحت الصفر.
يتفوّق على الإنسان بـ 11 ألف مرّة في مقاومة الأشعة إكس. 
يتحمّل ضغط أعماق المحيطات 4 مرّات أكثر من الإنسان. 
يعيشُ في حالات الجفاف التام، وانعدام الأكسجين، للمواد السامة، وللمواد الحامضة، وفي مادة الكحول. 
في بعض الحالات، يُزاوج نفسه للتكاثر.
يعيش في أعالي جبال الهيمالايا إلى أقاصي الصحراء، وفي أعماق المحيطات إلى أقرب نبتة في بيتك. 
لن تستطيعوا تصوّر أنهُ "يموت" بشكل كامل، فهذا ما يظهر عليه، بينما تسمى علميا cryptobiose   أو حالة السبات، لعشرات السنوات، عندما يحدث تغيّر مفاجئ في محيطه الطبيعي. لكنه يُعاود الحركة والمشي من جديد! في تلكَ الحالة يتصحّر ويجفّ كلّياً، يُعوّض الماء بالسّكر، ويُخفض أيضهُ إلى 0،01%، ولا يحيا إلا بعض أن يتعرّض للماء. في إنجلترا، تمَّ إخراج بعضً من التارديغرادا لدراستها، تارديغرادا محفوظة منذ 80 سنة، المفاجئة أن بعض تعرّضها للماء، باشرت في الحركة مباشرة! هذا الكائن الصلب مغلف بـ بروتيين يُدعى dsup الذي يحمي حمضه النووي من أي إشعاع. وهذا ما جعل العلماء يفكّرون في استعمالها لحماية الانسان من المعالجة بالأشعّة.
 قُدرته على التأقلم مع الظروف مُرعبة، رغم أن موته الكامل سهل جداً إذا حُرم من عملية حالة السبات. 
خُلقَ هذا الحيوان من خلقَ الأرض، لا يُمكنُ قول شيءٍ أكثر اختصاراً من هذا، فقد وجدوا أثاراً له تعود لزمن غابر. 
بشكل أوضح، هذا الحيوان سيعيش حتى لو سقطت عدة نيازك، أو قامت حرب نووية شاملة، أو تم طرده نحو الفضاء، أو سجنه في أعماق المحيط المُظلم. 
 الرسالة الربانية هُنا واضحةٌ جداً. عظمة الخالق جليّة في هذا الكائن المجهري، بالرّغم من أننا لا نراه إلا بأجهزة متطوّرة، إلا أنه أقوى منا بمراحل لا تكاد تُحصى، ذلكَ أننا لو تعرضنا لرياح باردة أو حرّ زائد، تنخفض قوّتنا كثيراً ونقترب من الهلاك، غير أن التارديغرادا يتقوّى أكثر فأكثر. 
هو مخلوق يُعيد الإنسان إلى نقطة الصّفر، في تصوّر خلقه، في نظرته للكون والخالق، في نظرته العامة للآخر، في تعجرفه وتكبره، في اعتقاده انه يسيّر الأرض ويعرف ما فيها وما في الكون، في جرأته على الخالق بنكرانه أو بالتمادي في عصيانه. هذا الكائن، يُحجّمنا جميعا، يجعلنا صامتين وخائفين ونحن ننظر إليه في المخابر، ونتساءل، لمَ وكيف يملك كل هذه الطاقة، وهو لا يُرى بالمقارنة مع أصغر الذباب..
أما فلسفيا، فالقضية مُعقّدة جدّاً. 
وجبَ إعادة النظر في نظريّة القوّة الحسيّة والمعنويّة بعدَ دراسة هذا الكائن، هل ما زال يعتقد البشر أن القوّة تكمن في العضلات والمناصب والثروات؟ قد تكونُ كذلك، لكن تعلّمنا التارديغرادا طرح سؤال مهم جداً، وهو، إلى متى؟  سؤال تتفرّع منه عدّة أسئلة!
كم سيقاوم هذا القويّ؟ إلى متى ستدوم قوّته في الزمان والمكان؟ كم من مرّة سيعود فيها إلى قوّته بعد كل أزمة ضاربة؟. هذه الأسئلة ليست تحدّيا من هذا الكائن للإنسان، ذلك أن الإنسان أضعف بملايين المرات من الأزمات التي عصفت وتعصف بالتارديغرادا، إنّما هي إعادة نظر عن معنى القوّة، هل القوّة في بلوغ السلطة الماديّة والمعنوية المطلقة، أم في عدد مرّات البعث بعد كلّ كارثة قويّة. 
ما نعلمه أن الإنسان واسع الطغيان والتجبّر، يستطيع أن يبلغ أقصى درجات العنف والتكبّر والاحتقار، الفكرة هُنا أنهُ يخرّ طريحاً عندَ عدد لا متناهٍ من الأزمات، المادية والمعنوية والعاطفية. 
ليسَ وحده موضوع القوة هو ما يثير التساؤل أمام هذا الكائن، بل هناك قضيّة الوعي، هل وعي الإنسان بالكون يساعده على أن يحتويه؟ أن تَعيَ الأشياء لا يعني أنّه ستتمكن من الهيمنة عليها، فإذا كانَ مفهوم الهيمنة عند الإنسان هو تدمير الأشياء، فوعي التارديغرادا أكبر بكثير، ذلك أنه لا يُدمّر شيئاً، لكن لا شيء يدمّره.  فحتى لو عرف الإنسان حجم الخطر الذي يلاحقه من نيزك قادم فسوفَ يعمل على إبعاده أو تدميره فقط، ولا يطمحُ أبداً في فكرة التعايش معه والعودة إلى الحياة بعده.. بينما هذا الكائن المجهري يفعل ذلك. 
إرادة القوّة هي محاولة فكرية لتجاوز ضعف الذات، ومحاولة تجاوز المفاهيم التي تعيق مسارها، فالذات، تبحث عن فهم الأشياء باستمرار، لكن حدود القوّة قد تكون ها هُنا، أي، تكون في فهم الأشياء وليس في التعايش معها، فالوصول إلى ذروة ما نسميه "القوة"، هو في الحقيقة ذروة الوصول لفهم أبعاد القوّة وليس في استعمالها، وقد تكون الذروة كلّها في الإيمان العميق بأنّ القوّة تكمن في العودة في كل مرة، غير أننا، مهما بلغنا من وعي، فلن نعود بعدَ أول انفجار. 

المقال 283
#عمادالدين_زناف 
#علم #فلسفة #دين #تراديغرادا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...