التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إخوان الصفا، بين الإسلام والفلسفة


اربطوا الأحزمة، سنتحدّث عن لُغز إخوان الصفا، في الإسلام والفلسفة.

لُغزُ "إخوانُ الصفاء" والفلسفة في الإسلام. 
قبل البداية في الحديث عن هذه الجماعة، لا يمكن بأي حال من الأحوال الإحاطة بالفكر الإسلامي بشكلٍ سليم، دون دراسة وإن كانت سطحية، للفكر المُعتزلي، الأشعري، الصوفي، الباطني، الجهمي، الكرّاميّ، المشّائي بكل فلاسفته كالكندي والفارابي والمعرّي وابن سينا، علمُ الكلام بأبرز من تكلّم فيه، المذاهب الأربعة وخاصة المذهب الحنفيّ بكل أعمدته كشمس الأئمة السرخسي، ولم أذكر هذا الأخير عبثاً، ذلكَ أن منوط بموضوع المقال. كل ما ذكرت في الفقرة الأولي تجدونَه على شكل مقالات مُفصّلة كنت قد صنّفتها من قبل في مدوّنتي في موقع بلوجر، ما عليكم سوى إدراج الكلمات المفتاحية داخر المدونة. 
لماذا علينا الإحاطة بكل تلك الأمور قبل الحديث عن الفلسفة في الإسلام، لأن وببساطة لا يجب أن نبدأ بالتفاصيل قبل الحديث عن الفترة، الظروف الزمكانية، البواعث، الأزمات، الوضع الحضاري السّائد، البُعد المعرفي، وغيرها من التفاصيل التي إذا ما كنا نجهلها، فسوف نقع لا محالة في الخلط، والتعصّب، والمناقشة السطحية لتلك المواضيع التي لا تزال محلّ نزاع. 
عندما نتحدّث عن الدين والفلسفة، وبصفتي مُسلما مهتماً بالفلسفة، أميل بشكل كبير لفكرة التفرقة بينهما، أي تناولهما على حِدَة. لستُ من أنصار فهم الدين بالفلسفة، ولا فهم الفلسفة بالدين، للدين قُدسيّة النًّص، بينما للفلسفة آراء لا حصرَ لها، فهما في الأساس لا يلتقيان في أبرز شيء يجب أن يلتقيَ فيه مفهومين للدمج بينهما. إذا، الفلسفة تُفسّر بالفلسفة، والدين يُفسّر بالدّين، هذا هو المنهج الذي أراهُ صحيحاً. قد يحدثُ أن تلتقي كثيرٌ من الأفكار الفلسفية مع الثوابت الدينية، وهذا ما أرحّبُ به، إبراز ان الفكر الإنساني وصل، من طُرق مختلفة، إلى نفس الخلاصة الدّينيّة المُقدّسة. بعبارة أخرى، التلاقي مَحمود، بين الدين وغيره من العلوم، إنّما المُهمّة المفخخة أن يتم تفسير الدّين، أو إثبات الدّين، بالفلسفة والعلوم، ذلك أنّهما مُتحرّكان، ومُتطوّران بشكل دائم، بينما نجد أن النًّص الدينيّ ثابت لا يتحرّك. وقد رأينا المغامرة التي خاضها السكولاستييون (الذين حدّثتكم عنهم في درس عبر قناتي في اليوتيوب، لمن يودّ الاطّلاع أكثر عنهم) في تفسير الأناجيل فلسفيا ومنطقيا، في محاولة لصناعة منطق من شيء لا يقبل المنطق الدنيوي أو العلمي كقاعدة أساسية له، وليس فرعية. ولقد رأينا أيضاً عديد المحاولات، لتبرير بعض النصوص الغامضة والشائكة، من المفسرين المسلمين الجدد، للنصوص القرآنية الثابتة، محاولةً منهم "لعصرنة" الأمور الثابتة نصاً وتفسيراً، بشكل فلسفيّ وعلمي يُرى فيه بوضوح تام محاولة تعويص النص والمفهوم لكي يُقحم عُنوةً وإكراها مع الواقع العصري، لتمرير أجندات أو إيديولوجيات معينية، كالتي قامَ بها النصارى لجعل المثلـ.يـ.ة تتماشى ودينهم، في تفسير لقول المسيح "أحبوا بعضكم البعض" بأنه حبٌ مُطلق غير محدود. 
أعلمُ أنها مُقدّمة مُطوّلة، لكن وكما ذكرت، من الأساسيّ توضيح المعالم قبل الوولوج، فـ "ثبّت العرش ثم اُنقش".  
وكمنهج آخر أقترحهُ على القارئ اقتراحاً، ولا ألزمهُ إلزاماً، هو قراءة الفيلسوف بعين الفيلسوف لا بعين المُتديّن، حتى لو أخلط الفيلسوف بينهما، وذهب لميدانٍ وعرٍ لا يتقنهُ، فعليكَ أن تملكَ تلكَ القُدرة على تجاوز رأيه الدينيّ، والتعاطي مع فكره الفلسفي. ذلكَ ألا رايَ في الدين، بل هناكَ قواعدَ واتّباع، أو على الأقل، لا رأي في نسبة كبيرة جداً فيه، كي نتركَ مجالاً للذهب الحنفي لكي يتنفّس منه. وعلى ذكر المنهج الحنفي، فالمعلومُ عنهُ أنه مذهب الرأي، لكن علينا أن نأخذ الأمر بجديّة وليسَ باستهزاء، فمن نحنُ أمام مذهب احتضن ويحتضن عظماء العالم الإسلامي إلى يومنا هذا، وليسَ في الدين فقط، بل في كل العلوم.  
 ولهذا، عرفت المناطق التي سادَ فيها المذهب الحنفي انفتاحا وانبساطاً على الفكر والعلوم بشكل كبير جداً. ذلكَ أن أبي حنيفة رحمه الله، كانَ ذا رأي منبسط ومتقبّل للمقترحات، ولا يعني هذا أبداً أنه كانَ ذا هوى. فبعدَ أن وضعنا حجر الأساس، لنتناول موضوع هذه المجموعة الفلسفية "إخوانُ الصفا". 
هم مجموعة من الأفراد، مُسلمون حسبَ رسائلهم، غيرَ أنهم كانوا متفتّحون على العالَم، خاصّة الفلسفة وعلم الفلك والرياضيات والموسيقى في كل الحضارات، اليونانية، الفارسيّة، والهندية خاصة. عندما يطّلعُ أحدنا على رسائلهم، سيجدُ أنهم للتصوّفُ أقرب، ذلكَ أن التصوّف هو المنهج الوحيد الذي ينبسط على الفكر الآخر، خاصّة أنّ التصوّف في ذاته ليس حكراً على المسلمين. ذلكَ أن الإنسان المتصوّف معروف بالزّهد والخلوة والتأمّل والترحال، وهذا ما عُرف عنه كثيرٌ من الشخصيات الهندية والفارسية والعربية واليونانية وغيرهما من الحضارات. ما يجعلُ رسائلهم فلسفية غير دينية هو المصطلحات المستعملة في رسائلهم، ذلكَ أن البحث عن السعادة والإنسان الكامل ووحدة البشر مع بعضهم، هو بحثٌ دنيوي لا آخري، وهذا لا يضرّ في المعنى، إنّما سيساعدنا على كيفية تفكيك النصوص. عندَ اطّلاعي على أحد قواعدهم التي تقول بأنهم يستعملون المرأة للإنجاب فقط، حيثُ أنهم لا يخالطونها، ولا يكلّمونها، ولكنهم يسمعونَ لها، ذلكَ أن المرأة بالنسبة لهم حكيمة جدا. تذكّرتُ فلسفة ميغتاو المعاصرة، الفلسفة التي تحدثتُ عبر قناتي في اليوتيوب من قبل، وفكرت فيما إذا كانوا قد أخذوها منهم.
عندما نتحدّث عن شخصياتهم مثل "أبو سليمان "المقدسي" وأبو الحسن "الزنجاني"، يتبادرُ إلى الأذهان فرقة الحشاشين الذين كانوا يعتمدون نفس الأسلوب في التخفّي وعدم ذكر أسمائهم ونسبتهم للمجموعة. تلكَ الشخصيات المذكورة، تجعلنا نعتقد أنهم شخصيات روائية لمؤلف أرادَ أن يُمرّر أفكاره من خلالهم، وقد نسب العديد هذا لشمس الأئمة السرخسي. 
هل تأثّرت جماعات معاصرة بمنهجهم؟ يمكنُ ذلك، فقد رأينا عديد الجماعات التي بدأت سريّة ثم انطلقَ ذيعها، أغلبها كانت تدّعي مهدويّة رئيسها، وأخرى كانت ومازالت تبحث عن بسط نفس المفاهيم الدنوية لإخوان الصفا، غيرَ أنها مادّية الطموح، ذلكَ أنها تبحثُ عن "المُكنة في الأرض" مثل جماعة الإخوان المسلمين. 
سريّة جماعة إخوان الصفا تفتحُ أمامنا تخمينين، الأوّل هو خوف سياسي واجتماعيّ، ذلك أن تلكَ الأفكار لا تستند إلى المُحكم الشرعي، بل هي إلى التطوير الذاتي والتنمية البشرية أقرب، وكذلك تعتمد على كثير من الأفكار الهندوسية واليونانية، وتُقحمها أيضا في فهم النصوص الدينية، كقولهم إن غاية الإنسان العظمى هي التشبه بخالقه قدر المستطاع، وهذا طبعا دينيا مرفوض رفضاً قاطعا.
والتخمين الثاني، هو احتفاظهم بالعلوم لأنفسهم، تماما كما فعل الحشاشون، وفرسان الهيكل، والمتنورون، والماسونيون، والصهـ.اينة، ومن لا نعلمهم. 
في الأخير، لا أريد أن أكون ناقلا كمنصة ويكيبيديا، بل حاولت ان أضعكم في المشهد بالعودة إلى القرن الرابع الهجري، ومن أبرز أقوالهم التي يمكنكم مناقشتها هي:
"الإنسانُ الكامل هو فارسيّ النسب، عربيّ الدين، حنفيّ المذهب، عراقيّ الآداب، هنديّ البصيرة، يهوديّ المخبر، مسيحيّ المنهج، شاميّ النُسُك، مَلكيّ الأخلاق، ربّانيّ الرّأي".

المقال 282
#عمادالدين_زناف 

#فلسفة 

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...