”في يومنا، لا يوجد سوى أساتذة يملون الفلسفة على التلاميذ، ولا يوجد فلاسفة“.
هنري ديفيد ثورو من أبرز الفلاسفة الأمريكيين في القرن التاسع عشر، عُرف عنه حبّه للفلسفة القديمة، الفلسفة التي لم تطلّق الجسم والطبيعة، بل تتناغم معهم بشكل يجعل من الفيلسوف حالة، وليس نظريّة وقواعد تُدرّس.
عيش ما نُفكّر فيه، تطبيق فلسفتنا، هو ما جاء في فلسفة ثورو، الرجل الذي انتهى به الحال في بيتٍ منعزل ببُحيرة بعيدة، لكنه كان بعيد المسكن، لا منعزلَ الناس، بعيداً عن النظام والسياسة، لا منقطعاً أناركياً. لم يكن يدعو للتمرًد الفوضوي، بل لتجسيد كل فكرة وإصلاح وفلسفة.
الفلسفة بالنسبة لثورو هي برنامج حياة لا يُحكى، بذلك، الفيلسوف الحقيقي ليس من يسرد ما قيل عن الفلسفة، بل ذلك الذي يسعد ببرنامجه الحياتي الذي بناه على أسس فلسفيّة متكاملة.
الفيلسوف هو الذي يستطيع تجسيد فلسفته بالنسبة لثورو.
ليس على الإنسان أن يتقن مفاهيم مُعقّدة، ولا تفاصيل الميتافيزيقا، ولا الانطواء بعيداً، بل عليه أن يتحلى بنفس فكرة الرواقيين والآبيقوريين في جعل الفلسفة نظام حياة يومي. بالنسبة له، ميشيل دي مونتين مثال رائع للفيلسوف الذي يكتب ما يفعل، ويفعل ما يكتب، ويدعو لما يفكر، ويفكر بما يدعو، فهو متكامل بين النص والعمل.
دراسة الفلسفة لا تصنعُ فيلسوفاً، الفلسفة ليست مهنةً ولا وظيفة، يشرح ثورو، بل هي في كل شيء، منصهرة وشفافة.
في كتابه Walden «فالدن»، يسرد قضته كشاب عادي، في عائلة ومحيط متوسط، اشتغل في كل شيء، كان غير محب للمال، للمدح والتشريفات، ولا المسرحيات الاجتماعية.
كان رافضاً للثورة الصناعية وما آلت إليه الانسانية وعالم العمل والوظيفة، قائلا أن تعظيم الوظيفة هو مضيعة للوقت، لا هدف منها سوى صناعة أشخاص مهووسين بالاستهلاك، استهلاك ما يحاول المجتمع جعله مهماً، وهم في الحقيقة أشياء ثانوية لا معنى لها.
يقول أن العمل، بهذا المنطق الجديد ليس إلا استغباءً وتفريغا لمخزون الانسان وجعله أعقل وأقل شدة وعدوانية أمام حقوقه. هذه اللثروة التي ستقود إلى الهوس بالملابس والموضة والترف، الأمر الذي عارضه ثورو. يقول أن السعادة القسوى فيما تعطيه الحياة، لا ما نملكه، فكل ما نملكه سطحي، بينما ما لم نطلبه، مثل الحكمة والحياة الهادئة والطبيعة، لهم دوام وقرار.
يقول أن ما يحدث للعالم هو الاتيان بقيم جديدة، مفرضوة علينا، مفروضة لأنها لا تتماشى وطبيعتنا.
لمويكن معارضا سياسيا، بل كان يدعو لحياة فردانية طيبة بعيدة عن تلك العصرنة، هو إصلاح للذات، وليس إصلاح للعالم.
لم يكن أناركياً، لكنه كان يرى بأن القانون الذي يُفقده احترامه لنفسه، لا يحب أن يُطاع. حبّه للعدل، جعله يبتعد ليعيش في بُحيرة فالدن.
يقول أن أهم ما يجب للإنسان هو البيت، الملابس، المدفئة، والأكل، غير هذا ترف لا حاجة له.
كان يقضي يومه في المشي، في الاصطياد، والركض، والعمل حول بيته. كان يعود من وقت لآخر لعمته، آهذا معه بعضا من الطماطم، فهو لم يعزل نفسه عن العالم، بل كان يخب العيش بتلك الطريقة فحسب.
كان يزور صديقه فالدو، غالبا ما يجده خاضراً هناك، لكنه كان يبقى لينتظره، وهو مع زوجته يحدثها عن أشياء مختلفة.
المتعة في نظره تكمن في اختيار طريقة عيش مناسبة، دون انعزال ولا مقاطعة العالم.
لم يكن ثورو من الذين يدعون القراء لاتباع منهجه، لم يضع نفسه محل المعلم، كان يكتفي بالحديث عن حياته وكريثة عيشه فحسب. لم يكن مثل الذين يدعون لحياة لا يعيشونها، بل كان يقول، هذه الحياة ممكنة، لمن أراد عيشها.
المقال 294
#عمادالدين_زناف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق