الاثنين، 9 يونيو 2025

البونيقيّة لغة شمال إفريقية




البونيقيّة.. لغةٌ شمال إفريقيّة.
مقال عماد الدين زناف.

كانت اللغة البونيقية مزيجًا محليًا مميّزًا بين اللغة الفينيقية الطارئة على شمال إفريقيا، واللغة الليبيقيّة الأصلية القديمة.
وقد كانت تنتمي إلى العائلة السامية الغربية من حيث اللسان المحكي، كما صنفها شلوزر في القرن الثامن عشر. وقد تطورت هذه اللغة نتيجة الهجرات الفينيقية إلى شمال إفريقيا، واستقرارهم في بعض سواحلها، وخاصة في مدينة قرطاج التي تأسست نحو سنة 814 قبل الميلاد، ومع مرور الزمن، وبسبب الاحتكاك الطويل بالسكان المحليين الأمازيغ، تبلورت البونيقية كلهجة مميزة عن الفينيقية الأم التي سريعا مع تركت المكان لعدة لغات من بعدها، وتطورت تدريجيًا حتى أصبحت لغة مستقلة في الاستخدام الشفهي والكتابي، يتميز بها سكان قرطاج ونوميديا وغرب ليبيا، خاصة ابتداءً من القرن السابع قبل الميلاد تقريبًا، كما توثق النقوش القديمة على الأضرحة والقرابين الدينية¹.

تميزت البونيقية بتأثر واضح باللغة الأمازيغية القديمة، وقد أثبتت الدراسات الألسنية الحديثة وجود مفردات ذات أصل أمازيغي في البونيقية خاصة في مجالات الزراعة والحياة الريفية. ومن أبرز تلك المفردات، كلمات تتصل بالحيوانات، والبيئة، فقد أصبحت ذات أصول مشتركة بين البونيقية واللهجات الأمازيغية القديمة، إذ نستطيع القول بأن البونيقية أنتجت المعاني والمصطلحات الأمازيغية ووثقتها كتابيا بهذه اللغة، لأن الأمازيغ لم يكونوا يُعنَون بالتدوين والكتابة، إذ تبين الأبحاث بأنهم تخلوا عن فعل ذلك منذ قرون بما تم اكتشافه من لغتهم القديمة في الكهوف (تاسيلي ناجر) والصخور والجدران المترامية المسافات في شمال إفريقيا.

والواضح أن قيام دولة قرطاجة ونوميديا كانا الفاعلان الأساسيان لضرورة الكتابة والتدوين، ما أنتج لغتهم المعاصرة المميزة.

كما أن أسماء مواضع وقبائل محلية أمازيغية استُعيرت كما هي داخل الكتابات البونيقية، مما يدل على تمازج وانصهار لغوي واجتماعي عميق، بهذا تشير بعض الأبحاث أيضًا إلى أن البنية الصوتية للبونيقية، في مراحلها المتأخرة خاصة، قد تأثرت بإيقاع الأصوات الأمازيغية، كما يُستدل من مقارنة النقوش المتأخرة في المناطق الداخلية من تونس والجزائر ².

أما فيما سمي بالعصر الكلاسيكي، أي بين القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد، فقد أصبحت البونيقية هي اللغة الرسمية للدولة القرطاجية، وقد استُخدمت في السياسة والطقوس الدينية والتجارة. وقد ظهرت في تلك الدولة نقوش ثنائية باللغة البونيقية وكذا اليونانية، مما يعكس حجم التبادل الثقافي بين قرطاج والعالم الهيليني (اليونان القديمة) ³. أما من الناحية اللغوية، فقد احتفظت البونيقية في بدايتها بالبنية الفينيقية من حيث الحالات الإعرابية الثلاث، لكنها سريعا ما بدأت تفقد بعض هذه السمات تدريجيًا نحو البساطة.

وبعد تدمير قرطاج على يد الرومان والنوميد عام 146 ق.م، لم تنقرض اللغة البونيقية فورًا، بل استمرت منطوقة في بعض المناطق، خاصة في شمال شرق الجزائر وفي جزيرة مالطا، وفي أواخر القرن الرابع الميلادي، أشار القديس أوغسطين إلى وجود أشخاص يتحدثون "الكنعانية"، قاصدًا بذلك البونيقية، وقد ذكر في كتابه De Doctrina Christiana بعض التعبيرات التي كانت لا تزال متداولة في منطقته آنذاك ⁴.

أما من حيث الأصل العرقي للشعوب المتكلمة بالبونيقية (الأمازيغ وبقايا الفينيقيين)، فلم تكن لهما علاقة بساميي المشرق، لا من حيث النسب الدموي ولا من حيث الثقافة مع انقراض الفينيقية تماما. فبحسب العديد من الدراسات الأنتروبولوجية الكلاسيكية، فإن الفينيقيون لم يكونوا ساميي العرق إنما "حاميين" من حيث الأصل البيولوجي البعيد.د، أي ينتمون إلى ما كان يُصطلح عليه قديمًا بالعرق الحامي، الذي يشمل جزءًا من شعوب شمال إفريقيا من بينها مصر، بينما كانت السامية فيهم لغةً وثقافة فقط، تبنّوها في عصور سحيقة بفعل احتكاكات حضارية في المشرق ⁵.
 وقد أكد هذا الاتجاه عدد من الباحثين الأوروبيين في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، منهم François Lenormant الذي ميّز بين "السامية اللغوية" و"السامية العرقية"، مشيرًا إلى أن الفينيقيين يتحدثون لغة سامية لكن لا ينتمون بالضرورة إلى العرق السامي ⁶.

وكماوتعلمون، إن هذا التمييز العلمي التاريخي ضروري اليوم، وذلك لمواجهة الأطروحات الأيديولوجية التي تربط بين الفينيقيين والعرب دون أسس علمية. فاللغة البونيقية تختلف جذريًا عن العربية (القديمة كالآرامية النبطية، والحديثة في عصر البِعثة) وذلك في البنية الصرفية والنحوية. ويؤكد العديد من الباحثين مثل Giovanni Garbini وKrahmalkov أن العربية والبونيقية تنتميان إلى فرعين منفصلين من اللغات السامية واسعة الدائرة، دون أن تكون إحداهما أصلاً للأخرى ⁷ و ⁸.

كذلك استُخدمت البونيقية في كتابة العديد من النقوش الدينية والتجارية، وكانت تُكتب بأبجدية مشتقة من الفينيقية القديمة تتكون من 22 حرفًا صامتًا دون تمثيل واضح للحركات، ثم أُدخلت لاحقًا رموز ثانوية لتمثيل بعض الأصوات الشبه المتحركة، لذلك سميت البونيقية الجديدة neo punic، وتشمل المصادر الأساسية لدراسة هذه النقوش: Corpus Inscriptionum Semiticarum إضافة إلى أعمال P. L. Agar وKAI التي جمعت أهم النقوش الفينيقية والبونيقية من مختلف أنحاء البحر المتوسط ⁹.

باختصار، إن البونيقية قد تبلورت تأثرا باللغة المحلية الأمازيغية باختلاف مصطلحات الأشياء والأفعال، كما استعارت منها بعض المفردات، وفي المقابل، تسربت بعض الكلمات البونيقية إلى اللاتينية في الفترة الرومانية، كما أثرت سالفتها الفينيقية في اليونانية، منها مثلًا كلمة mustum (عصير العنب) التي يُرجّح أنها مأخوذة من الجذر البونيقي mšt.

ومع دخول شمال إفريقيا في دائرة السيطرة الرومانية وازدهار اللاتينية بشكل كبير، بدأت البونيقية في التراجع شيئا فشيء، خصوصًا بين النخب والمثقفين، كما مر علينا عندما تحدثنا عن جامعة مادورا بسوق أهراس-أقدم جامعة في التاريخ-، إذ كانت الدراسة فيها باللاتينية واليونانية، وذلك ما يعكس فشل البونيقية في التأقلم مع اللغات الحية يومئذ، ثم اختفت تمامًا كلغة مستعملة ومكتوبة في القرون اللاحقة، ويُعتقد أن آخر أثر لها اختفى بنهاية القرن الخامس الميلادي، رغم محاولات بعض الآباء المسيحيين مثل أوغسطين الحفاظ على بعض تعبيراتها في الكتابات اللاهوتية، أو المحاولات الدوناتية لمناهضة الثقافة الرومانية.
_
المراجع؛

¹ M. B. Rowe, Phoenician and Punic Inscriptions: Corpus and Analysis, 1989. 

² K. Jongeling & R. M. Kerr, Late Punic Epigraphy: An Introduction to the Study of Neo-Punic and Latino-Punic Inscriptions, Mohr Siebeck, 2005. 

³ A. Moscati, The World of the Phoenicians, 1999. 

⁴ St. Augustine, De Doctrina Christiana, 397 م. 

⁵ Gabriel Camps, Les Berbères: Mémoire et identité, Editions Errance, 1987. 

⁶ François Lenormant, Les origines de l'histoire d'après la Bible et les traditions des peuples orientaux, Paris, 1880. 

⁷ Frank L. Krahmalkov, A Phoenician-Punic Grammar, 2001. 

⁸ Giovanni Garbini, History and Ideology in Ancient Israel, SCM Press, 1988. 

⁹ Corpus Inscriptionum Semiticarum.
___

▪️Stanislav Segert – A Grammar of Phoenician and Punic.
▪️Johannes Friedrich & Wolfgang Röllig – Phönizisch‑punische Grammatik.

#عمادالدين_زناف #استرجع_تراثك #استرجع_تراثك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق