التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لا أحد يفكر من نفسه


لا أحد يفكّر من نفسه، لا أحد. 

السؤال الذي يتكرّر علينا دائما هو "لماذا لا تفكّرون من أنفسكم"، " لماذا تشيرون إلى المفكرين والفلاسفة والعلماء والمؤرخين"، "كما فكّروا هُم، فكّروا أنتم"، إلى آخره من الملاحظات التي تأتي من حينٍ إلى آخر. 
قبل البداية في شرحِ لمَ لا يوجدَ أحد فوق الأرض يُفكّرُ من نفسه، علي أن اوضّح أن الكُتّابُ ثلاثة أنواع، النوع الأوّل الكاتب النبيل، الذي لا يسرق أفكار الأولين والآخرين، المشهورين منهم ولا المخفيين، النوع الثاني الذي لا يتذكّر من قال هذه ومن قال الأخرى، يتذكّر الأفكار العامّة ولا يكرّر نفس أسطر الجميع، كاتبٌ لا يتعمّد السّرقة، لكنه لا يجتهد في البحث عن أصول الأفكار، والنوع الثالث، الكاتب السارق، الذي لا يشير إلى مفكر ولا عالم ولا فيلسوف ولا مؤرخ إلا خُصاصة، عليكَ أن تحذر من الذي لا يذكر أهل الفكر، ذلكَ أنك أمام سارق مُحترف، يُريد أن يظهر بمظهر النبي الذي يوحى إليه. 
التفكير من الذات يعني التفكير من خارج هذا العالم، من خارج الكون، ذلك أن الذي يعيش في كوننا هذا متأثر بتتابع الأفكار والتاريخ والثقافات والحضارات والأمم، مُلزم بتجارب الغير وخبراتهم وتفوقهم في مجالاتهم. من يدّعي التفكير من ذاته يدّعي بذلك التحرّر من أي قراءة ولا مطالعة ولا تحليل، فهو من تلقاء نفسه يستطيع شرح الأحداث والعلوم والأفكار، أي أنه يمتلك قدرة داخلية تُنتج له المصطلحات والكلمات والجُمل والأفكار. التفكير من الذات، يعني أن يقوم الفرد بإلغاء تام لكل مُكتسباته القبلية، والتفكير من الصفر، أي، العودة بذاته إلى العصور التي سبقت الحضارات كلها. 
إذا فعل ذلكَ، ما الفائدة في إزاحة العالم وتاريخه لإعادة التفكير من البداية؟ هل يعتمد المُدعي أنه يفكّر من تجاربه الخاصة؟ إذا كان كذلك، فهل سيعتبر ما مرّ عليه صحيحا وموجوداً، وأن كل ما لم يخبره ولم يلمسه، سيّئا وغير موجود؟ هل يعني أنك مُلزم على لمس الحمم البركانية للتصديق بأنها حارقة؟ أو أن تمشي وتلمس رمل الصحراء لكي تتأكد من أنه حقيقي؟ هل تُريد أن تبني كل تفكيرك العلمي والفكري والنفسي من تجاربك الخاصة حصرا؟ أم من تجارب وخبرات الآخرين أيضا!
قراءة المقالات، مشاهدة الأفلام والشرائط، مطالعة الكتب والمجلات عبارة عن خبرات فكرية وخيالية لكل فرد، تجعلنا نربط تجربة الآخرين باستنتاجاتنا الخاصة، لبناء مفاهيمي مُعتدل. 
ماذا سيحدث في العالم لو توقّف العلميون الاعتماد على تجارب الآخرين العلمية، والاكتفاء بتجاربهم الخاصة فقط؟ أو، امتناع الفلاسفة من الانطلاق مما انتهوا إليه الفلاسفة والمدارس الفكرية السابقة، والانطلاق من الصفر، أي، من مرحلة ما قبل الفيلسوف الأول. 
ماذا لو توقّفت عملية صبر الآراء التي تعتمد على نسبة معينة وليس على كل الأفراد، ذلكَ أنها لا تُمثل الأشخاص فردا فرداً، ماذا لو توقفت الانتخابات، ذلك أن نصف الشعب قد امتنع عنها، ماذا سيحدث إذا امتنعنا عن الأخذ بالتاريخ والمؤرخين، وانطلقنا نروي قصصا تتلاءم وما نريد أن نعتقد أنه قد حدث، فقط، لكيلا نستند عن أحد غير تفكيرنا.
هناك من يعيبون على الفنانين تقليد المدارس القديمة أو الحديثة، أو البداية بالرسم والغناء والكتابة تأثراً بشخصيات معروفة! فليخبرونا كيفَ سيقومون بخطواتهم الأولى دون معرفة ما سبق؟ هل سيخترعون أقلاما وأوراقا وألوانا وأدوات جديدة؟ هل سيكتبون بأحرف خيالية؟ هل سيتكلمون بلغة لا يعرفونها؟ كيف يفكّر هؤلاء؟ 
عندما ننطلق في مجال مُعيّن، فنحن أمام اتجاهين، إما اتجاه النقد أو اتباع البديل للشيء الذي نرفضه، أو مُتابعة نفس المنهج الفكري أو الفني الموجود سلفاً، مع إضافة تركيبات لغوية وأمثلة مُختلفة، وأساليب بلاغية مجتهدٌ فيها. 
الاتيان بالجديد، لا يعني الانطلاق من العدم، فنحن نرتكز على عدة أشياء تركها لنا الإنسان. والقول بالتفكير ذاتيا، هو القول بإزاحة الانسان وتجاربه. 
أن تطلب من أحدهم التفكير من نفسه هو أن تطلب منه إخفاء مصادره، أو اختراع كلمات وأفكار وأدوات غير موجودة. 
بينما يجب أن نطلب من الناس ان يحلّلوا بمنطلق علمي وفكري وفلسفي نزيه ومُعتدل، وأن يكون لهم توجّه عادل يخدم مصلحتهم ومصلحة محيطهم.
احذروا من هؤلاء الذين يدّعون التفكير من الذات، فأنتم أمام سراق، أم جهلة. 

المقال 285
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...