التخطي إلى المحتوى الرئيسي

العقل المُستعار


أحلامٌ تُصنع، وعقول تستعار.
مقال جديد.

المطلع على أحوال الشباب، يرتأى له أن الأحوال قد ساءت عما كانت عليه قبل عقودٍ يسيرة. وعلى الرغم من بعض التغيرات التي تؤخذ من منظور علميّ حسّي، إلا أن الجانب العقلانيّ في تدهور مستمرّ، فالتباعد بين المادة والحكمة يشبه التباعد الذي طغى بين الذهب والورق (العملات)، وكلما زاد الشرخ بينهما فقد المتبوع قيمته رغم تضخّمه المستمر، فالتضخّم في الكمّ لا يعكس شيئا ذا جودة. بل على العكس، فمن الرخيص الكثير، أما الغالي يُكنَزُ تحت الأرضِ بعيجاً عن الأنظار.
والعلم خيرات مُكثّفة، بينما العالمُ لا يكون خيّراً بالضرورة، فكلّما كانت حكمته باردة وشحيحة، زادت مخاطر علمِه الحسّي والمعنوي على الناس.  
ولقد رأينا ما حدث في الحرب العالمية الثانية، عندما فقدت الولايات المتحدة عقلها وراحت تستعرض جنونها على اليابان، وهذا بتدمير شعوبٍ بكاملها. 
كذلك فعلت ألمانيا في الحقبة الناز.ية، وكذلك فعلت وتفعل كل الدول التي غلّبت المادّة على الروح، ففقدا معناهما معاً. 
ثم عملت الولايات المتحدة الأمريكية على تلميع صورتها، لاستعادة ثقة العالم لقائده الوحيد إلى غاية وقت وجيز، عن طريق نشر الفتات على دول وشعوب العالم، وعلى الرغم من قالبها الخيري، إلا أن الثعلب لا يأمن حتى من نفسه، فإذا كانَ طيباً، فلا يكون ذلك إلا لمكرٍ يليه. 
وقد كان مشروع بعت علم النفس المعرفي من كبرى المشاريع الروحية للترويح على شعوب العالم، ولكي يتسنى لهذا العالم الحلمُ بحلمها، ويطمح بطموحها، ويسعى لبلوغ مرادها عنها، تواضعاً ومحبّةً. والجميع في هذا مستفيد. ذلكَ ان بناء المؤسسات القائمة على اجتهاد الأفراد يعمل في نهاية المطاف على إعلاء عملة الدولار في كل مرّة، وشدّ أسر الشركات التي لا تعيش سوى بصدقات الفقراء. وها نحن هؤلاء ندفع لكل مؤسسة أمريكية مبلغا مُعيّناً بطريقة غير مباشرة وبشكلٍ يوميّ، فهي تترجم حماسنا لعملة ومادّة، بينما نعيش حُلم بلوغِ شيءٍ ما، إلى حين. 
الحلم الذي صار مبتغى في ذاته، بعد أن كان وسيلة تفكير لبلوغ النجاح الحقيقي. ففي السابق، لم يكن الحلم مدفوعَ الثّمن، بل كان شيئا مجانيا في عقول وأفئدة الجميع، وبلوغ ما يحلم به الحالم هو في حكم القضاء والقدر. بينما اليوم، نحن نعيش زمن بيع الحلم للناس، بل وتكوين حلم جاهز لهم، فلا ينطلق الحلم من ذواتهم، بل من عقول وأفئدة غيرهم، فهم من يعلمونهم ما يجب أن يحلموا به، فالشعوب بالنسبة لهم لا تحلم بشكلٍ صحيح، فكل من لا يحلم باتجاه الرأسمالية الليبرالية المتطرّفة، فلا يعدّ حلمه حلما، إنما يعدّ جهلاً وتخلّفاً، ورجعيّة وانحطاط، فمن يحلم خارج الحيّز المرسوم له "مُعتدٍ". 
وفي كثير من الأحيان، الحالم بعكس اتّجاه سيران العالم عدوّ، فمن لا يعمل على إطالة عمر الشركات الأمريكية ومُشتقّاتها التابعةِ لها في كل مِصر، يصنّف عدوّاً للإنسانيّة والتطور العلمي. وفي كل عصر، عليك أن تحلم باتجاه السلطة العالمية، والمؤسسات المُسيطرة، وإلا فاحذر العواقب، لأن المنطق يتغيّر مع ظروف الزّمن، وليسَ كما قيلَ لنا أنه ثابت. ومنطق القويّ يُغشي الأبصار، أو يشتري الذمم والصمت، ويحارب الأبرار.
وربما كانَ ظلماً مني أني ذكرت علم النفس المعرفي، ولم أذكر في هذه الأسطر التنمية البشريّة وتوابعها ومشتقاتها، بيد أن هذا الشيء لا ينحصر في موضوعٍ واحد، فمعالجة الداء يكون من عدة أبواب، وقد خُضتُ في التنمية وأخواتها من قبل، وقد أفردُ الموضوعَ بكتابٍ في يومٍ ما.  وإننا قد نُدخل الدواء من النوافذ خلسةً في بعض الأحيان، فالمتعصّبون لآرائهم كُثر، وليسَ من المرونة أن نُسفّه الناس، ثم ندعوهم لأن يعقلوا البديل الذي نطرحُهُ لهم، فالوسم بالغباء، يعني القطيعة والانشقاق، وليس الدعوة للتفكير. 
وإنه قد ينفذ منا شيءٌ من باب الانحياز المعرفيّ الذي يسيّر ويوجّه قراراتنا وما نعتقد أنه صواب، وقد ينفذ منا حكمٌ مسبق لا رائحةَ علمٍ ومنطقٍ فيه. فعلينا تطبيق العدل على كل شيء، وأن نقوم بتنفيذ ما أمرنا به في صورة العدل. فكذلك صاحب الحق ينحاز لما هو ليس بعلم، وهذا ما يضعّف من حجّته هو الآخر.  فليس علينا أن نُهدي عقولنا وقلوبنا ليُصنع لنا حلم على مقاسِ الغرباء، ورغبة على نظرتهم، وهدفٌ على مرادهم، ومشروع على منطقهم، بل وجبَ علينا أن نُبصر قبل أن نحلم. 
وعلينا، نحنُ الشباب، أن نوازي بين المادة والعقل، وأن نجمع بينهما، وألا نسعى للمال، بل للعلم، فالسعي للمادة يطرد العقل، أما السعي للعقل، فيستميل المادة إلى صاحبها، ويهذّبها له، حتى لا تجعله منفصلا على العقل، فيصبحُ أعرجاً غير حكيم.

المقال 311
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...