الخميس، 11 أغسطس 2022

فلسفة الزينة


فلسفةُ الزينة. 
مقالة منهجية في التعاطي مع المال والبنون.

لقد اعتدنا سماعَ العديد من الناس، يكررون ما قاله أجدادهم في أن المال وَسَخُ الدنيا، وأن البنون تكاثر بلا معنى عندما لا تكون هناك مؤهلات ومرافق ومستقبل واضح. ولكي أكون صادقاً، هذه المقولة يمكن أن نأخذها بشقّين، الأول هو أخذها كجملة خبريّة، وهذا خطأ فادح ومُغالطة منطقيّة، وسأشرح لمَ، والثانية أخذها كجملة تعليلية، وهنا يمكن أن نقبلها بعلّة، والعلّة هنا هذه العبارة قد تكون صحيحة -إذا- اُستعملَ المال بطريقة سلبية، أو إذا تمّت عمليّة التكاثر في المجتمع، بلا منهجيّة ولا تخطيط ولا دراسة وانشاء مؤسسات، أي، أخذ أصحاب هذه المقولة بالنتيجة كحُكم مسبق، وأخذوا النتيجة 'الممكنة" مكان السبب، وتناسوا أنها ليس بقاعدة.
فليسَ هناك قاعدة تقول إن المال والبنون سيّئان بالمُطلق، بل إن الآية قد ذكرت بأنها زينةٌ لكنّها مؤقتةٌ، كغيرها من أمور الدُنيا غير الباقية، فكلّ من عليها فانٍ. إذا ليسَ هنالك مكسبٌ باقٍ ومُخلّدٌ في الدنيا، سواءٌ أكان جيّدا في ظاهره أم سيّئا. لكنَّ لكلّ شيءٍ علّة وقرينة، فالمادّة بكل أصنافها والأبناء (التزاوج والتكاثر والانجاب) وغيرها من المكاسب المادية والمعنوية، مستقلةٌ عن مفهوم الخير والشر، بل هي في الحِياد في أوّل الأمر، بعدها ستنحاز لأحدهما فورَ استعمال الناس لتلك المكاسب، فإما استعمال جيدّ للمال، أم سيّء، أو تربية حسنة للأبناء، أم اهمال وغيرها من البوائق في حقهم.
 فيقول الله: المال والبنون زينةُ الحياة الدُنيا، وقد شرحها الشيخ ابن عاشور قائلاً (أريد به الموعظة والعبرة للمؤمنين بأن ما فيه المشركون من النعمة من مال وبنين ما هو إلا زينة الحياة الدنيا التي علمتم أنها إلى زوال) لذلك كان لِحاقُ الآية هو (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) أي أن الأعمال الصالحة 'باقية، عكس بائدة وزائلة' وهي التي تدوم عندما تزول المحسوسات الدُنيوية. 
الآن، عرفنا أن المال كمادة زائل، فلا يجب أن يغترّ به المؤمن، وقد يزول مالهُ وهو لم يقضي عمره بعد، وربما قد يقضي هو ويبقى ماله من بعده، فزال هو ولم يزل مالهُ، وهي نفس الحالة ونفس النتيجة، أي أن أحدهما يسبق الآخر في الرحيل.  وقد جاء المال في الآية أسبق من البنين لأنه هدف الجميع بمختلف ثقافاتهم ومعتقداتهم وظروفهم وأزمنتهم، أما البنون، فهم مقرونون بالمال، فالمالُ أصلٌ.  فالتكاثر مقرون بالتباهي، المقرونُ في الأساس بالمال الذي سيأتي، فهما أكثر أمرين يطلبهما الإنسان.
تكلّمنا عن المال والبنون المؤقتون، وتكلمنا أن الباقيات الصالحات من ذكر وعمل مخلص لله، فما الزينة؟ 
التزيّن في عُرفنا هو الشيء الذي يُضاف على الأساس، مثل ربطة العنق في البذلة، ومثل العطر بعد الاستحمام، ومثل هُلام الشعر بعد تصفيفه. والزينة نوعان، زينةٌ يسعى إليها الانسان ويقاتل من أجلها مثل المال والبنون، فهي وإن كانت زينة فقط، فهو يراها أساسية، لأنه ينظر ببصيرة المجتمع وليس فعينيه فقط.  وزينة لا يقاتل من أجلها، مثل الذين ذكرتهم وضف إليه ما حضر في مخيّلتك من مُكمّلات.  والزينة سمّيت كذلك لأنها تُقابل الضروريات، فلو قارنا المال بالهواء والماء والصحة، فهو زينةٌ لا محالة، والمال في سياق الآية هو المال الوفير، وليس القوت الشحيح الذي يكفي الانسان يومه. 
وما يعتقد فيه الانسان عزّا وجاهاً، قد ينقلبُ عليه ذلا وانكسارا، فالمال قد يُغير نفسية الشخص ويظهر باطنه المتجبر، فيفقد ناسه وأحبابه ويستحيل وحيداً بعيدا، لا يستمتع بماله ولا يجد له حلاوة، وربما يريد ابنا ليباهي به، فيستحيل ابنه سكيرا منحرفا، أو قد يسرقه ويعقّه، فيصبح ما ظنّه زينةً جحيماً. لذلك جعل الله المال والبنون زينة فقط، لأن احتمالية الفرح بهما تبقى نسبيّة، وتُقيّد بشروط، وهي في ذاتها تُقيّد الناس وتُغيّر نفسياتهم. 
يقول رسول الله عليه صلوات الله (مَنْ أَصبح مِنكُمْ آمِنًا في سِرْبِهِ، مُعَافًى في جَسدِه، عِندهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحذافِيرِها)، فيُفهمُ من قول سيّدنا أن ما فوق ذلكَ زينة وزيادة.   حسنا، مع ذلك لم نفهم سبب تسمية المقالة بـ "فلسفة المال والبنون".
ما الفلسفة؟ الفلسفة هي طرح التساؤلات، مع محاولة إيجاد أنسب الحلول المنطقية والواقعية، وبما أننا فصّلنا في موضوع المال والبنون، بقيَ لنا معرفة التعامل مع هذا الموضوع، فهناك من يُبالغ في حب المال، مستدلّا بأنه يقضي الحوائج ويبعث بالراحة النفسية، وأن اليد العليا خير من اليد السفلى، التي تطلب ولا تكدح، وهذا صحيح لا خلاف فيه. وهناك من يبالغ في كره المال، والخوف منه، محاولا تبرير الفقر وجعله حسنةً، وربطه بالزّهد، بالرغم من أن الزهد لا يكون سوى لمن فتحت له زهرة الحياة الدنيا وتركها لله متصدّقا، وقد يكون له جزء من الحق، إذ أن المال مُخيف لذوي الأنفس الضعيفة أمام الملذات. 
وأما البنون، فأغلب الشباب لا ينظرون إلى هذا الجانب كما ينظر إليه المسنون. ومع الوقت، يُدرك هؤلاء الشباب أن هناك أشياءً أحسن من الملابس والسيارات والتنزه والعيش الباذخ، ألا وهو الأطفال. فمع النضج والتعقّل إذا كانَ من أصحاب العقول، يبدأ ذلك الشاب في التفكير فيما فوق المحسوسات، وما وراء المادة، أي في النفسيات والروحانيات ونهاياته بين الوحدة والالتفاف، وهذا ما جُبل عليه الانسان، فقد خلق الله فينا غريزة التكاثر، بما يحوم حولها من شهوات ولذات ومتاع وزينة. 
فالتعامل الحكيم مع هذه الزينة يكون في النظر إليها وانتظارها على أنها زينة كمالية لا غير، وهذا لوحده كفيل بأن يجعل المرء يعيش في راحة نفسية لا نظير لها. 
أي أن الزينة قد تأتي، وقد لا تأتي، وإن أتت، قد تُعمّر، وقد لا تفعل، وأن الزينة ليس أساس الحياة بل إضافة، وأن المجتمعات هي من جعلت الزينة أساساً، ذلك أن الناس لا يستطيعون العيش إلا بالتفاخر على بعضهم البعض، يقول سبحانه (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ _وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ_ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، فمن جعل الأشياء الثانوية أساسياتٌ لسعادته تَعِسَ، ومن تخلّى عنها بالكامل تعسَ كذلكَ، لأنه لن يستشعرَ نعم الله في رزق مادي حلال، أو في أبناء نجباء، فتجده يجحد ولا يشكر، فإما يريد المزيد، أو لا يرى في تلك النعم "رزقا" بل "شيء طبيعي"، فيشقى حتى يموت.

المقال 318
#عمادالدين_زناف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق