وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
مقالة تحليلية عن الذين يتّبعُون النور كالفراش.
آية يعرفها الجميع، بيدَ أن معنى التقفّي غائب عن الأكثريّة. فالتّقفي هو الاتباع والتتبّع، وقال، لا تقل رأيتُ وسمعت وأنت لم تر ولم تسمع (في تتمة الآية "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا")، كما ذكره القرطبي في تفسيره. فتقفّي الأمور التي لا نعلمها، وادّعاء العلم والقول به ليسَ أسلوباً علميا ولا أسلوب الحُكماء، فهو كما قال النبي (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)، والمتشبّع بما لم يُعط تعني أنّه يدّعي شيئا ليس فيهِ، (كقول إنه مؤثّر في مجالٍ ما، وهو لم يُعطَ من ذلك العلم شيئا، أو يُعيد ذكر أشياء دونَ أن يفهمها). فإن مُصطلح النور الذي يتقفّى أثره هؤلاء أصلهُ من النّار، غير أن الناسَ لا يرون من النور سوى ضياؤه، ولا يعلمون أن وراء ذلك النور، مجهولَ المصدر، لهيبٌ قد يكوي صاحبه. والحقيقة أن العامّة تكتفي بالظاهر والظواهر والمظاهر والتظاهر، فهم لم يُمرّنوا عقولهم على السؤال والنّبش في جوهر الأشياء، وكما قال الإمام عليّ: رحم الله امرأً عرف من أين، وفي أين، وإلى أين.
فمعرفةُ من أين جاءَ العلمُ والمعلومة وبواعثها وأصحابها، وفي أي موضعٍ وظرفٍ وزمانٍ قيلت أو فُعلت، وإلى أين ترمي وتهدف وتصبو وتهدي وتقضي، هو سبيل الإنسان الكيّس الفطن، الذي لا يكتفي بالمحسوس، بل يرى ما وراء ذلك. فمن ادّعى أنه فهم علما واتّبعه، أو ادّعى أنه فهم علماً، فأعاده كما هو بالببغاء، يُشبه قول العرب (تزبّبَ قبل أن يتحصرم) أي، أراد أن يُصبحَ مثل زبيب العنب مباشرةً حتى قبل أن يتحصرم، أي قبل أن يخضرّ ويطيب، وهو ما يدعى حرق الأشواط.
فمن أوتي الحكمة، اوتي الفراسة، وكلاهما يجعلانك لا تقفُ ما ليسَ لك به علم.
فقد قال الرسول عليه صلوات الله: اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله. والفراسة هي معرفة بواطن الأشياء والأماكن في لُحيظة، دون عناءٍ كبير، فيعلم بما علّمه الله إن هي توافق ظواهرها، ويكشف له إن هي تخونها وتكذبُ عليها أم تصدّقها. والمؤمن لديه فِراسة، ودليل فراسته أنه يرى بنور الله، ولا يرى ببصره المحسوس ظواهر الأشياء البرّاقة مهما اجتمعت فيها المحاسن واجتملت.
ومن الأشياء البرّاقة الوهّاجة، العلوم الزائفة، التي يدّعي أصحابها أنها أتت بما لم يأت به الأوائل، وما جاء هذا إلا في عصر الكسل والخمول، فالعلماء درسوا لعقودٍ مجالا واحداً، ومنهم من ماتَ ولم يُحط بذلك العلم الواحد، ولم يدّعي فهمه التام. أما اليوم، فيذهبُ بنا "عصافير القُرمود" بلمح البصر إلى النهايات، فمنهم من يفسّر القرآن بحدسه، ومنهم من يشرح النفسيات، والظواهر الاجتماعية، ومنهم من يضع قواعد فلسفية، ومنهم من يُقوّل العلماء والفلاسفة ما لم يقولوا، ومنهم من يترجم بخيانة، ومنهم يُخفي ما لا يساعف مبتغاه، ويُظهر ما يواكبُ هواه. ونشهد كذلك مساعفةَ الذين لم يتحصرموا بعضهم بعضاً، فإذا عمّ الجهل خفّ، بل وقد يصيراُ حقّاً. وقد قال ابن قتيبة: لا يزال المرء عالمًا ما دام في طلب العلم، فإذا ظن أنّه قد علم فقد بدأ جهله. ولا يُخيّل لكم أن المتعالم سيقول إنه يعلم، بل شاعَ في الكثيرين "التواضع الكاذب"، أي، ينفون عن أنفسهم العلم، وهو ضرب عصافير بحجرٍ واحد، التنصّل من أي متابعة، التظاهر بالأخلاق، التلويح بالفضيلة، كسب ودّ العامّة والطيبين، ولكي يقال نعمَة المتواضعون من الجميع، لذلك تحدّثتُ عن الفراسة، فهي فقط من تكشفُ لكَ زيف هؤلاء، فكن مؤمناً بحق، تُرزقها.
ومن ظنّ العلمَ في نفسه فهو جاهل، ومن ظنّ العلم في أحدٍ، دون أن يتحقّق من علمه، فهو جاهل، ومن نشر ما لم يعلمه حق العلم، ولم يفهمه حق الفهم، فهو جاهل، ومن تابعهما على ذلك، فهو جاهل أيضا، حتى لو كان كل هذا المُحيط يشعّ في ظاهره نوراً وعلما. فما يدريهم أصدقوا أم كذبوا، وإن أعجبهم لسانهم وقولهم.
وفي هذا المقال رسالة شديدة اللهجة، مفادها الحثّ عن البحث والتتبع والتأكد من كل قول، كذلك الصّمت حتى يتأكّد أحدنا أن ما سيقوله حقّ، فإن كان في شكّ فليذكر أنه في شكّ للأمانة. ولا يكتب أحدنا ولا يتلفّظ بشيء، إلا إذا كان قادراً على أن يدافع عنه بنزاهة، أي، دونَ شخصنةٍ ولا عنفٍ، وكذا بالمصادر والبراهين.
ونصيحتي في آخر المقال، أن نتركَ عنا تضخيم الظاهر، ولنعتني بالبواطن، فإذا كانت سرائرنا باذخة بالعلم والأخلاق، فسوف تنضح في ظواهرنا، وسيراها المتنبّهون، أما من اكتف بتزيين الظاهر، فمصير كل علبة فارغة هو الانطواء في ذاتها يوما، وتصبح صغيرة جدا.
المقال 316
#عمادالدين_زناف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق