التخطي إلى المحتوى الرئيسي

دعه يظهر..اتركه يسقط!



دعهُ يَظْهَرْ، اُتْرُكْهُ يَسْقُطْ.

يعتمد المصارع في رياضة الجودو على تهوّر المنافس، إذ يندفع هذا الأخير بثقله عليه لينفّذ خطوة المسك أو الدفع أو الرفع، فيقلب الأول قوة الاندفاع تلك إلى صالحه إذ لا يعارض مسارها بل يتحاشاها ويضاعف قوّتها نحو الفراغ، نحو الهاوية. وبالتالي فإن سياسة الاعتماد على تهوّر الآخر قد تكون من أنجح الاستراتجيات في هزيمة الآخر، فبعض الناس يملكن من الثقل والقوة والركيزة ما يجعل الصراع المتكافئ شبه مستحيل، وبالتالي فإن المهارة والمراوغة هما السبيلان الوحيدان للفوز.  يكمن إسقاط "نظريّة الجودو" أو "المصارعة" في عدّة ميادين، يقول نابليون "إيّاك أن تُعكّر خطوة متهوّرة من عدوك" فإذا أردت الفوز في بعض الأحيان، عليك أن تترك الأفضليّة للآخر، أن تعطيه مبدأ الاستفتاح، أن تترك له المجال بأن يظهر ما لديه، فمحاولة الكبت المستمرة على العدو قد لا تكون ذكية جدا إذا ما كان الخصم ساذجا، لمَ؟
لأن الخصم الساذج لا يدرك مدى سذاجته، وبمنعك إظهاره لها بشكل مستمر، هو يستغل –دون وعي- عدم معرفة العام والخاص بسذاجته، ويعتقد في نفسه ويعتقد فيه الناس أنه على درجة من الخطورة والقوة.  لذلك، أهم خطوات المعرفة هي الحكمة في تقييم الّآخر، تقييم الآخر وتصنيفه من خطر جدا إلى متوسط الخطورة إلى ساذج. إن هذا التقييم –الذي يحتاج إلى هدوء ووقت- يُغني عن إعطاء الآخر مكانة لم يكن يحلم بها. إن مقام –الشهيد البطل- لا يجب أن تُعطى جُزافا، والكثير منا يرش ألقاب البطولة لأشخاص لا يستحقون لقب إنسان حتى.    إن محاربة السذاجة والانحطاط من هذا القبيل، فمحاولة كبت السذاجة والانحطاط يعطيهما شيئا من القيمة لم تكن لتظهر بتلك الضخامة، كأن تضع ذبابتين في علبة كارتون كبيرة، ولأن الناس يحاربون الظلم إذا بدا لهم كذلك، ولا يبحثون ما وراء ذلك، فتُعطي دور المظلوم لمن كان لا دور له.  
لقد كنا نتصور إلى وقت قريب أن محاولة منع الحماقات من الظهور هو السبيل الوحيد في إيقافها، وقد كنا على خطأ جسيم جدا وجب الاعتراف به، بل كان علينا أن نُسرّع في إظهارها للعيان، وأن نُساهم بطريقة ما في أن يعرفها الناس دون ما إشهار واضح، لكي لا يتم اتهامنا بدعمها، إذ أن الهدف من ذلك هو إظهارها لا الترويج لها. 
 إن العالم يمشي بثقل نحو إشهار ما لا يصلح، وقد كنا نحن –المقاومون- نصدّ شتاء الصخور بأيدينا، عوض أن نترك تلك الصخور تحطّم كل شيء، لنريَ أن تلك الصخور ليست مطرًا بل عذابا. وقد يعترض البعض في قول إن المقاومة الفكرية تقتضي الصدّ والتضحية، ويتناسون أننا نقوم بذلك، لكننا لا نستعمل الحكمة بل نستعمل الغضب. فالحكمة تقتضي أن نترك الناس يعرفون ويتحسّسون خطورة أو سذاجة الشيء الذي نقاومه، لأن إخفاء ذلك على الناس هو فشل دعائي ذريع لحماة "الخير".
وكذا في الفكر والأدب والثقافة، فإن منع السذاجة من الظهور فكرة غير ناجحة، بل علينا أن نتركها تظهر للعيان، وأن نشجع على مطالعتها والاستماع إليها قبل أن نريهم البديل الذي بحوزتنا، لأن إعطاء الدواء لمن لا يعرف الداء يحوله من دعاية للخير إلى اتهام بالمُتاجرة. 
فعلينا أن نستقبل موجة الانحطاط استقبالا عادلا، كنوع من فسح المجال للتعبير، ونحن نعرف في قرار أنفسنا أن تلك الفسحة والترك هما السبيلان الوحيدان لنهايتها، فغير ذلك يجعلها تُعمّر –برمزيّة المقاومة- والتمرّد-، وإن إفراغ العنتريات الفارغة من محتواها لا يكون سوى بإفساح المجال للبطل الوهمي ليدخل ميدان الصراع. وقد تكون هذه الطريقة ناجحةً في عديد الميادين، فكلما وجدت "مدعيا لما لم يُعْطَهْ"، أعطهِ كل الوسائل وشجّعه على إبداء رأيه بكل الوسائل، سواءٌ بنشر فيديو، تأليف كتاب، تأسيس مجموعة، صفحة، جمعية أو حزب ما، واتركه يسقط لوحده. فإذا أثمر عمله فسيكون هذا دليلًا أن المشكلة الحقيقة ليست في أرباب السذاجة بل في مستهلكيها، وإذا لم يُثمر –غالبا بسبب الغباء المستتب الذي يتمتعون به- فهذا سيريحنا من فقاعة قد انفجرت قبل أن تصبح منطادًا.

المقال 371.
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...