📌الولادة الثالثة!
لقد تعلّمنا ونحنُ صغار بأننا يجبُ أن نحبّ المُعلّم، فللمُعلّم الفضلُ في بناء قاعدتنا العِلمية والفكريّة، ثم تعلّمنا أن نُحبّ المُدرّب، مُدرّبنا في الرياضة التي نُمارسها، في مُعلّم الموسيقى، في شيخِ المَسجد الذي يُساعدنا على القراءة غيباً وفهم القرآن، وبعد أن يشتدّ عضضنا ويَتَقَعقعُ صوتنا، نتعلّمُ حُبَّ من لم يُطلَب منّا حُبّه، وهو نوعٌ من الولادة الثانية للفرد، بعد الخروج من رَحم أمّهِ، يَخرُجُ من رَحِمِ التَّوجيه العائلي، ويَختارُ من يجدِهُ قُدوة ومِثالاً، من يراهُ يتمثّلُ في ذاتِه المُستقبليّة، وهنا يُطيلُ البقاء أغلبُ الناس، ويَعجزون عن اقتحام الولادة الثّالثة: التحرُّر مِمّا تهواهُ النّفس، والبحثُ عن ما ينفَعُها!
بين الهَوى والتعلّم خيطٌ رفيع، رغم التباعد بين المُصطلحين، وقد يَقَعُ الفُضوليُّ في تعلّمِ ما يهوى، وليس تعلّم ما يحتاجهُ، فكيف يكون ذلك؟ وما المُشكلةُ في ذلك!
عندما ينطلقُ أحدنا في الحياة، بعد ”الولادة الثانية“، وينتهي من حبّ مُدرّس الموسيقى، وشيخ المسجد، ومُدرّب الكارتيه..لأن الاختيارات الأولى غالباً ما تكون بتأثيرٍ من المُحيط العائلي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كنظرة أولى للصبيّ للعالم الذي وترعرع فيه، أو ما يقومُ بفعله ذلك المُحيط، فإذا كان الوالدُ موسيقياً، أو رياضياً، أو شيخاً فقيهاً، سيَبحثُ الابن عن تلك السيرورة المنطقية، عن إعجابٍ حقيقي واقتداء، أو، لكي لا يَخذُلَ محيطه، وكل هذه الأفعال تنتهي بعدَ حين عندَ غالبية الأبناء.
ينتهي التقليد، لكن لا تنتهي عنده تلك الرّغبة في البحث عن الصورة المِثالية ”الشخصية، كما يراها هو“ لتتبّع خطواتها، فلا يملك إلّا استعمال نفس الطّريقة السابقة لكي لا يبقى دونَ توجيه، والاقتداء بأحدهم وجعله ”كَ المُرشد“، مع الشّعور بالتحرّر من الاقتداء التلقائي (العائلي) والانتقال إلى الاقتداء الاختياري (الآخر).
لكنّ العمليّة ليست انتقالاً، أي، لم تصل لدرجة الولادة الثّالثة، بل هُو وَهمٌ يُشبه الوَهم الأوّل، لإنّ تلك النّظرة الطُفوليّة لم تتغيّر! نظرة أن الآخر بطل خارق وجبَ تقليدهُ، أو في أسوء الأحوال، العمل على أن نصبحَ ”مِثلهُ“ في المَدى البَعيد..وليس مِثل أنفسنا! كشخصٍ مُستقلّ تماما عن الشخص الآخر!
”كُن على سجيّتك“ نيتشه، وقبلهُ كيكرغارد!
ما المُشكلة في ذلك؟
هُناكَ عدّة مشاكل! أوّلها هو خسارة إنسان آخر، فقد وُلد لنا مستنسخٌ جديد! كذلك خسارة أفكارٍ جديدة! خسارة مواهب دفينة لم يكتشفها في ذاته! لانغماسه في الآخر، خسارة ناقدٍ آخر لتلك الشخصية!
ما الولادة الثالثة بالتحديد؟
هي الخروج إلى العَلن، والإعلان عن وجود شخصٍ ما، في مكانٍ ما، يتكلّم بلغة ما، ويُزعجُ من حوله..لأنّه لا يُرضي ولا يَرضى إلّا بحفنة من الأفكار، ويُجادل ويَطبُخُ غيرها!
”يا لِتلك المُبالغة يا كاتب المقال“
أعلمُ علمَ اليقين أن الأمر أشبه بالمثالية الأدبية عند الكُتّاب الذين ينساقون وراءَ أفكارهم المَليحة إلى غاية الإعجاز، لكنّ الحقيقة أنّ الولادة الثالثة نادرة جدّاً.. فهي لمن توقّفوا كثيراً، لمن امتحنوا كلّ ما يروقهم، وما يطيب لهم، ولمن امتحنوا ما تهوى أنفسهم من ميول فكري! فعِندما تُجب بشيء تنغمسُ فيه، غير أن الذي وُلد لثالث مرّة يرفعُ سقف إعجابه بأي شيءٍ، وإن أُعجب تجاوزَ اعجابه سريعاً للبحثِ في أشياءٍ أكثر تحدّي واكثر تنافسيّة مع ذاته
Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق