علم الكلام، الجزء الثاني.
هو ما يسمى علم التوحيد كذلك، فهو يرمي إلى ٌثبات وحدانية الله بالاستعمال الوسائل المنطقية والنقلية. لم يكن المسلمون في عهد النبي عليه صلوات الله بحاجة لهذا العلم، ذلك أن كلام الله وحديث النبي وفهم الفقهاء من الصحابة وأهل البيت كانَ كافياً، علاوة ان العرب في تلك الحقبة كانوا على الفطرة، وكان لسانهم العربي عالياً وسليماً ليس فيه لحنٌ ولا كلمات أعجمية. ثم تغيّر الوضع عندما بدأت الفتوحات وتوسع دولة المسلمين، وكانَ اسلام الشعوب بين قبول حقيقي واستسلام، فتصادم المسلمون مع عقائد أخرى كانت راسخة في تلك الشعوب، مثل الزرداشتية عند الفرس، والمسيحية واليهودية في الشام ومصر وغيرهما، والبراهمة وأديان الهند وغيرهم. علاوة على هذا، تسللت الفلسفة في المجتمعات المسلمة، وطغى الفكر المشائي الأرسطي، وبرز فلاسفة مسلمون، وفرق تقبل أقوال اليونانيين، كما ذكرت في مقالتي الأولى عن علم الكلام. فكانَ من المنطقي أن يتصدّى لكل هذا علماء مسلمون متمكنون في كل تلك الأفكار والشُبَه، فمن غير المعقول أن تناقش شخصاً بشيءٍ لا يؤمن به، فانتقلَ المسلمون من الاكتفاء بالأدلة النقلية، إلى الخوض في الأدلة العقلية.
من بواعث علم الكلام الفتنة التي وقعت بين المسلمين وفرقة المُعتزلة، التي ادّعت أن القرآن مخلوق، وراحَت تُجبر علماء الفقه على الخوض في الامر بطرق عقلية في استقراء النصوص، فتكلّم الخلف فيما سكت عنه السلف. وقعَت مشاكل أخرى بين المسلمين، مشاكل في قراءة النص القرآني، بعد أن كانت تفهم على الفطرة، أصبحَت هناك فرق توهم تشبيه الله بخلقه، وأخرى تنفي عنه ما ورد، فتخاصم الفريقان بين الاثبات، أي اثبات ما هو في الآيات كما هو، التفويض، أي أن يتم تمريرها كما جاءت دون الخوض فيها، أو التأويل، وهو تفسيرها بأرقى المعاني في لسان العرب، بما يرتكز على الثوابت النصية.
ظهر بعد ذلك إخوان الصفا وخلان الوفا، وهم مجموعة من المفكرين المتخفين بأسماء مستعارة، خوفاً من تعرضهم لأي مكروه، إذ كانوا ينشرون أفكاراً هي مزيج بين الفكر الفلسفي، المعتزلي، والباطني، يتكلمون عن الجن والملائكة والايمان والحكمة، جعلوا لجماعتهم ثوابت وأسس، وكانوا يشبهون الجماعة السرية، غير أنهم كانوا مسالمين، عكس الفرق الأخرى التي جاءت بعد قرون، مثل فرقة الحشاشين، التي حارب الناس بالمنطق والدين والسلاح.
بقيَ علم الكلام في تطوٍّ مستمر بين من يدافع عن بدعته العقلانية، وبين من يردّ عليها بنفس السلاح، فسبب هذا فتن ومعارك كبيرة، بين المذاهب والتيارات والطوائف، وصنع طوائف وجماعات متطرفة جديدة. ظهرَ الأشاعرة بعد مدة، وقد كان أبو الحسن الأشعري معتزليا قبل أن يود إلى صفوف السنة، وصار داعياً لها، وقد كان ومن بعدهم ميزيناً، فلا هم يُبقون العقل عن النقل مثل المعتزلة، ولا النقل عن العقل مثل فرقة من الحنابلة. حدثت بينهم وبين الحنابلة مشاحنات عديد مجدداً، فاتهم الحنابلة الأشاعرة بتعطيل صفات الله، واتهم الأشاعرة الحنابلة بالتجسيم والتشبيه، وخلّف ذلك انشقاقا جديداً.
جاءَ أبو حامد الغزالي، كفارس رافع لعدة أعلام، فقد كلّف نفسه بالرد على الملاحدة، والفلاسفة، والباطنية، والمجسّمة، ثم عمدَ في آخر حياته على انكار علم الكلام، وأن لا حاجة للناس به، أي أنه دعاهم للعودة إلى منهج السلف الأولين.
ورغم أن هذا العلم لم يعد دارجاً على الألسنة، ولا يعرف الناس ما الاشاعرة من المعتزلة إلا من تعمّق، غير أن علم الكلام لا يزال قائما، فكل الكتب لا تفسر القرآن، ولا تشرح الأحاديث، فهي تصنّف في علم الكلام، من أول كتاب لأبي حنيفة (فقه الإمام الأعظم)، إلى آخر كتاب في مجال (الإسلام عقلا ونقلا).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق