التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تكليـف من هَـمّ للتأليـف!



تكليـف من هَـمّ للتأليـف!

يعتمد المؤلّفون في أيامنا على سلاحين دون غيرهما في تحقيق المراد من الأدب، أوّل سلاحٍ هو اتقان الكتابة، من إملاء ونحو وصرف وجمع، أي، كتابة جُمل صحيحة خالية من العيوب النحوية وغيرها. والسّلاح الثاني، هو سلاح الخيال، إطالة يد التفكير لملامسة حواف النجوم الكواكب، والغاية منه الحوم حول الإبداع والتقرب منه. لكنّهم، وللأسف ضيّعوا العديد من الأسلحة الأخرى التي لا يستقيمُ لهم مخطوطٌ دون استخدامها. 
فقد يتوهّمُ القارئ أن النّص الأدبي قد بلغَ الذروة إذا ما لامس المؤلف شيئاً من البلاغة، غير أنّه غالبيّة القرّاء، لا يعلمون أين يكمن اللّحن بالضبط في المؤلفات الجيّدة نحوياً ولغويّاً، وخيالاً وفكراً، ذلكَ أنّه لا يظهر لهُم عيباً، غير أنّ النّص فيه ملل قاتل، وتكرار لا يليق بمن انتصبَ لهذه الوسيلة الراقية. فأين يكمن الخلل واللحن، في النص الظاهرُ فيه الامتياز؟ 
أوّلا، لا يعتني الكتاب الجدد بالثراء المُعجمي، فهم لا يجدون حرجاً في تكرار نفس المصلح في نفسِ الفقرة غيرَ مرّة، ويكرّرون المصطلحات لوصف أشياء مختلفة، في مواضع متفرّقة، في أزمنة وأمكنة متشتتة! فلا يعتنون بحقبة النّص، وأرضية الخيال الذي أتوا به، ولا يعتنون ببناء لسان الشّخصيات، فلا يختلف عندهم لسان المثقف من الشيخ من الصبي، ولسان الكفيف من الحدق من الأعرج والقويم. ففقر المصطلحات عيبٌ يخدشُ النصوص خدشاً، ولا يشعرُ بتلك الخدوش إلا المُتبحّر في جُزر الأعلام. 
ثانياً، نجد أن المؤلفين الجدد لا يعتنون بشموليّة المعرفة، فنرى الواحد منهم إذا همّ في الحديث عن حيّ في مدينة مترامية من الوطن، يرمي نصه بأسلوبٍ متهلهل، يحاول أن يطبِقَهُ على حيّهِ، مبرّراً للقارئ أن فقر المحيط، من فقر المصطلحات والمفاهيم والأفعال. وهذا لا يكون سوى سبب للضعف المعرفي. ذلكَ أن المؤلف النبيه، يصنع نصوصاً فاخرة في غرفة لا أثاثَ فيها، نورها شحيح، مسجونةٌ تحت الأرض، لا صوتَ يصلها سوى خشخشة على استحياء. فالمتربةُ هنا تكمن في تهالك المعارف عند المؤلف، والاختباء وراء ظرفيّة المكان، فقد وجدتُ أن معظمهم، يختفون وراء الحوارات الطويلة جداً، ليُخفوا وصف الخلفية والمحيط.
ثالثاً، نجد أن الخيال هو أكثر ما يثير عواطف القراء، فشدّ المؤلفون الرحال إلى خيالٍ مُطلق، مُعظمه يفقدَ كل معانيه مع توالي الصفحات، لم؟ لأنهم اشتغلوا بالخيال، ونسوا أن أهم ما في الخيال هو الرسالة، أي، العمل على الخيال البنّاء، وليس الخيال المثير، فالخيال وسيلة لا غاية، فعندما يصبح الخيال غاية في نفسه، تتوقف بل وتضمحل كل المعاني، ويصبح الكاتب عبارة عن حاشٍ للخيالات ليس إلا، يعمد على الإطالة في وصف القبيح أو الجميل، دون غاية تنقل من معنى إلى معنى، فحال الخيال غير البناء، كسفينة تمشي دون وجهة معينة، فتتمايل يمينا وشمالا، تنتظر من الحظ أن يضعها في أقرب يابسة ممكنة، وهذا يعيب النصوص، ولا يستطيع القارئ أن يشخّصها. 
رابعاً، في الفقرات السابقة عبتُ عليهم النقص المعرفي، الآن أعيبُ غياب التوسّع في الثوابت العلمية. فقد كتبت عدة مقالات في الخصوص، مثل موضوع، لا فلسفة دون فهم الفيزياء! فالعيب سيظهر جلياً في الذي لا يعلم البديهيات العلمية، وسوف ينكص إلى أعيننا وينخرها عندما يسهب في وصف معين يتطلب منه معرفةً علمية، قبل أن تكون له معرفة أدبية، فهي تسمح له بالإبداع في وصفه وصفا بليغاً. فقد تصفُ شجرة الزيتون بما ليس فيها، فنقرأ وصف شجرة التفاح، في نص يتكلم عن الزيتون، فإذا لم تكن لك دراية في الفروقات بينهما، فلا تقحم نفسك في هذا، وانأى بنفسك عما تجهله، حتى تتعلمه علما صحيحا.
هذا جزء يسير من العيوب التي أراها تتكرّر، ولستُ أدّعي أنني لا أقع فيها، ولكن أحثّ نفسي وإياكم على أن نعمل بإتقان في أي مجال نخوض فيه، اتباعا لوصية خير الانام، عليه صلوات الله وتسليمتاه.

المقال 304
مادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...