التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حجة «رأي الأغلبية»



حُجّة الأكثريّة |   Argumentum ad populum

تُدعى كذلك حجّة الأشياء الأكثر شعبيّة، أو الدعوة للأكثريّة، أو سُلطة الغالبيّة، حجّة الرأي الغالب، وغيرها من التسميات والأوصاف التي تضعنا تماما في قلب أكبر المشاكل الاجتماعية والعلمية والدينية إذا أردت شمل الأمور المهمّة في حياة الفرد. 
وضعت فيديو في قناتي أين جمعتُ فيه أغلب الحجج الكاذبة التي "نستعملها" جميعاً، وفي الغالب دون دراية منا.  سأعرّج قبل الدخول في الموضوع عن قضيّة الحجّة والمحاجّة من الناحية المنطقية. الحجّة في الأصل هي حِيَل تربّينها عليها لتسهيل تعاملاتنا مع الناس، والخروج من الورطات أكثر من تبرير صحّة ما نقول. وغالباً، يتعلمها الطفل في المنزل من أحدِ الأبوين، فالكذب هو في الغالب عمليّة تكوين حجّة بشكل سريع للخروج من المأزق، وبشكل أوسع، هو محاولة إنقاذ الذات من الخطر، من خطر الموت بالمطلق.   فجسمنا يتعامل مع الأشياء والمحيط بشكل بدائي وقاعديّ، فمثلاً، يتدفّق هرمونا الأدرينالين والكورتيزول في الجسم عندما نتعرّض للخطر أو للقلق والتوتر المكثّف، ولا يفرّق العقل (النخامية الأمامية*، مركز الإشارة لتدفق الهرمونات) بين المزاح والحقيقة، ففرقعة كيس بلاستيكي ستسبّب نفس العمليّة الهرمونية التي تسبّبها طلقة رصاص حيّ قريبة منّا. كذلك، أسلوب النجاة بالذات من الخطر لا يتغيّر بين كذبةٍ بيضاء سخيفة، مثل القول بأنكَ لم تأكل التفاحة المتبقيّة في الثلاجة، وكذبة سوداء مجرمة، كالقول بأنك كنت تنصح الناس بالمخدرات لينسوا همومهم سريعاً. 
فعرفنا أن منطلق تكوين الحجّة لهو نفس المبعث، ألا وهو تبرير موقفك. فالمُحاور الجيّد ليس ذلك المتكلّم اللطيف والهادئ، بل هو الذي يتحكّم في طرق المحاجّة، حتى لو كانت حججه خاطئة، أو صحيحة لكن في غير محلها، كالاستدلال بآية ما في غير مكانها، ما يقال عنه (نعمَ الدليل، وبئس الاستدلال). والذي يتصدّر للمناقشة، يملك ثقة في أسلوبه في طرح الحجج، أكثر من الحجج نفسها، فأغلب من يفوزون بالمناظرات، هم أناس يسوقون الحديث إلى الأشياء التي يتحكّمون فيها. فتجد المُحاور ينقل الحديث إلى ميدانه دون أن يشعر خصمه، ويُسهب في الحديث، حتى يظنّ الطرف الثالث أنه يفحمه بالحجج. 
بعد أن تكلمت عن الحجة بشكل عام، أتكلم الآن عن حجّة يستعملها الأفراد حول أنفسهم أو حول غيرهم، ليبرّروا صِحّة ما يقولونه، بل ويجعلونه حجّةً في ذاته، فحجّة الأكثرية تُستعمل دائما، عندما يجد المرء نفسه محاصراً بالحقيقة التي لا يتبناها الغالبيّة، فيدفعه ذلك إلى بلوغ نقطة جودوين* سريعاً، بالقول أن الناس ليسوا على هذا، أجمع الغالبية على هذا الرأي، أجمعت الناس على صواب ذلك الإنسان، اتفق الجميع على صلاح ذلك الفرد، اتفق الجميع على فساد ذلك الفرد، الجميع يقوم بهذا الشيء، إنها العادات، إنها التقاليد، فكما يقول الشاعر*ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ، غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ، فالقول عند مستعمل هذه الحجّة هو قول الأغلبية، وهذا يسوقنا إلى مصائب كبيرة.
فقد يختار الناس الأمور الطيّبة، وهذا أمر حسن، فقد يختارون بالصدفة رجلاً حكيما ليقودهم إداريا وفكريا وعلميا، وفي غالب الأحيان لا يفعلون، ذلك أن التخصصات تحتاج متخصصين، وليس لرأي الغالبيّة، إلا إذا أزحنا موضوع الإمارة، الذي يُحتكم إليه بتصويت الأغلبية. 
حجة الشعبويّة هي سفسطة تُفسد كل الحوارات، وليس فيها نصيب من العلم، ذلك أن العلم والنص لا يحتكم للرأي، ولا ينساق للهوى، بل يعتمد على الصحيح، حتى لو خالفه كل من في الأرض، لكن المصالح تمنع رواج الصحيح إذا لم يتقبله الناس، فالإعلام وبعض صناع المحتوى في كل المجالات، لا يبحثون عن الحقيقة، بل يبحثون عما يُثير الأغلبية. عندما يكون الرأي الغالب هو مصدر مال وقوت، فلن يصبح للحق والعلم مكان، فإذا أصابوا شيئا من العلم، فاعلم أنه علم اتفق عليه غير المتعلمين، عن علم بصدقيّته، أو عن جهل بأنه ينافي ما يريدونه.  أصبحت الإشهاريات تعتمد هذه الحجة بطريقة فاضحة، فكل صحيفة تدّعي أنه الأولى في المبيعات، وكل عطر ولبس وأكل وآلة تدّعي شركاتهم أنهم الأكثر رواجا والأكثر اقتناءً واستعمالاً، فتسقط حفنة من الناس في ذلك التسويق الرخيص الناجح، وتلك الحفنة تجلب مجموعة، وتكبر كرة الثلج التي تتدحرج شيئا فشيء وهي تكبر وتكبر، وقد بدأت من كذبة سخيفة ساغت على الناس. 
والخطر الكبير يكمن في أن هناك أطباء وفقهاء ومفكرون، يستعملون حجة انهم متبوعون من نفر كبير من الناس، ليبرّوا صحة مسلكهم، ويُبرّر لهم ذلك بنفس الحجة، فالناس يقولون، انظروا! قارب فلان المليون متابع، كيف يكون مخطأ وهو مشهور هكذا!
أو يُقال، انظروا، هو متبوع إذا هو روائيّ رائع، إذا هو فيلسوف عظيم، إذا هو عالم مُعتبر، إذا هو مفتي قويم. ويتجاهل الكثير من الناس أن الرجال، في أي تخصص كان، يُعرفون باتباعهم الحق (والعلوم والحقائق)، وليس الحق هو من يتبعُ "شهرتهم وذيع صيتهم"! وهناك من يعتمد فوق هذا حجة التكرار حتى القيئ ARGUMENTUM AD NAUSEAM، وهو تكرار الشيء حتى يعتقد الناس أنه الحق المبين.
فاحذروا من حجة الرأي الغالب والشائع، فهي غالباً مسلك غير علمي، وكما يقول سبحانه وتعالى: أغلب الناس لا يعلمون، لا يفقهون، لا يعقلون.. 

___________________  

* تقوم النخامية الأمامية بعملها عن طريق إفراز عدد من الهرمونات والتي تقوم بدورها بالتأثير على الأعضاء الهدف كالكظر والغدة الدرقية والعظام والأقناد
* نقطة جودوين هي فكرة للصحفي مايك جودوين، صنعه ليشير إلى بعض الناس يريدون إنهاء الحديث بوصفك بشيء مشين، كقول أنك نا.زي.
*الشاعر دريد بن الصمة.

المقال 306
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...