نيتشه الذي لا يزال يُفهم بطُرُق عشوائية، أو بالأحرى، يُفهَم سطحياً وبانحياز تأكيدي مُسبق عندَ القارئ والباحث. لفهم فلسفة نيتشه علينا أن نعرف أهم النواضيع التي تحدث عنها نيتشه، نذكر منها الإنسان الأعلى، العود الأبدي، العدمية، الأخلاق، أخلاق العبيد.. وغيرها، ثم نعرف بواعث الحديث عنها من خلال سيرته، ومن خلال تطوره الفكري. من المهم أن نتدرّج في فهم الفيلسوف، لأن الفيلسوف نفسه يتدرّج في بناء نظرياته.
اخترت اليوم الحديث عن الأخلاق، بزاوية جديدة، لكنها لا تعبر بشكل مباشر على خلاصة فكره، بل هي عبارة عن لمسات نيتشاوية.
_
الحقيقة أن الكثير من الناس لا يستطيعون فعلَ الشّر، لأن الشّر يحتاج فعلاً وإصراراً كي يصل المرء إلى ذروة مُبتغاه، لا قولاً فحسب، فمن أراد الشر واستطاع القيام به ولم يفعل، فذلك المتخلق، وأما من أراد ولم يستطع، فذلك أرخص الأشرار. الشرّ يحتاج تخطيطاً وقلباً جلفاً وعقلاً مشبّعاً بفكرة أن الجميع وسيلة لإرضاء شهوة الذات.
فتجد العاجزين عن الشر، هؤلاء الرعديدون الجبناء، الحالمون بالشرّ، العاجزون عن فعله، يتكلمون بلسان الخَير، فذلك خيرٌ من لا شيء.
لأن الحديث الخيّر يَصلُحُ كثيراً في توسيق صورة الذات عكس الحديث السيّء، إذا كان على المرء فعل شيء يصب في مصلحته الشخصية على حساب محيطه، فإن عليه سحق الآخرين في صمت تامّ، أما من لم يستطع، فعليه أن يعوّض جُبنَهُ وخبثهُ بلسانٍ رُطب، لينال رضا المُحيط إلى حين، وذلك أضعف المكاسب بالنسبة له؛
أما بالنسبة للمجتمعات، فإن الحديث في الخير يجعل من صاحبه إنسانا خيّراً طيباً مباشرةً، وقد يصبح نجمهم في الأخلاق والخير دون أن يلمسوا منه فعلاً حقيقياً. أما فعلُ الشر، فيجب أن يمسّهم مسّاً حتى يصبح شراً حقيقياً، وإلا فسوف يكون ذلك الشر محلّ انتقادٍ في ألسنتهم، قصص تُحكى، ليجعلوا أنفسهم في مصفّ الأخيار في تلكَ الأخبار، إلى أن يحدث حدثٌ ليفصل في توجههم الباطن.
الحديث في الخير يغطّي فجوة إرادة الشّر المُبطنة، وعلى قول سينيكا: أن تمتنع عن فعل الشر، غير أن تكون عاجزاً عن فعله!. والحقيقة أن أهل الخير الحقيقيون غير متبجحون، أهل الخير هم الأقل شهرةً في هذا المجال، ذلك أن صاحب الخِيار المتجذّر والقناعة الراسخة لا يحتاج لإذاعة ذلك، الذي يحتاج لإذاعة خيراته مفتقرٌ للعِرفان لا أكثر، هو شخص لم يمدحهُ أبواه فراح يبحث عن مدائح الناس، كعقدة أبدية.
ولا يتغذى المتخلّق بالمدائح عن شيء واجب في الأصل، نعم، أن لا تقوم بالشر هو واجب وليس خياراً. فالمتخلّق مكتفٍ بذاته، لا يريد بذلك إغاضة أحدٍ، فهو لا ينافس الفاسد. خيرهُ غير مُوجّه للشر، بل هو خيرٌ كامل، خلق قائم بذاته لا يأبه للشر كثيراً.
الأخلاق والخيرات لم تُخلق لردّة الفعل، إنما هي أصل، والشر جاء ليعكّر ثبات ذلك الخير، فالشر هو ردّة فعل مستمرّة تحوم حول بؤبؤ الخير الأصيل. إن الأخلاق، وإن كانت أساس العيش الكريم والحكيم، إلا أنها الأكثر عرضة للتشويه والصناعة المقلدة رديئة الجودة، يلبسُ ظاهر الأخلاق كل أخرق شرير، فلا أحد من الناس يسوّق لنفسه برداء الشر..
وهذا ما جعل الأخلاق حديث الفلاسفة، فهم لم يختلفوا في جوهرها، بل في حواشيها ومقلديها ومدعيها، في من هو الأحق بها . وكيف يُعرّفها تعريفاً صحيحاً يتفق عليه الخلائق.
المقال 327
#عمادالدين_زناف
_
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق