التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الأخلاق عند نيتشه


عودة للمواضيع الجديّة..  مقال مكثّف ومُهم جداً كمدخل لفهم مسألة الأخلاق في فلسفة نيتشه.

نيتشه الذي لا يزال يُفهم بطُرُق عشوائية، أو بالأحرى، يُفهَم سطحياً وبانحياز تأكيدي مُسبق عندَ القارئ والباحث. لفهم فلسفة نيتشه علينا أن نعرف أهم النواضيع التي تحدث عنها نيتشه، نذكر منها الإنسان الأعلى، العود الأبدي، العدمية، الأخلاق، أخلاق العبيد.. وغيرها، ثم نعرف بواعث الحديث عنها من خلال سيرته، ومن خلال تطوره الفكري. من المهم أن نتدرّج في فهم الفيلسوف، لأن الفيلسوف نفسه يتدرّج في بناء نظرياته.

اخترت اليوم الحديث عن الأخلاق، بزاوية جديدة، لكنها لا تعبر بشكل مباشر على خلاصة فكره، بل هي عبارة عن لمسات نيتشاوية.

_
الحقيقة أن الكثير من الناس لا يستطيعون فعلَ الشّر، لأن الشّر يحتاج فعلاً وإصراراً كي يصل المرء إلى ذروة مُبتغاه، لا قولاً فحسب، فمن أراد الشر واستطاع القيام به ولم يفعل، فذلك المتخلق، وأما من أراد ولم يستطع، فذلك أرخص الأشرار.  الشرّ يحتاج تخطيطاً وقلباً جلفاً وعقلاً مشبّعاً بفكرة أن الجميع وسيلة لإرضاء شهوة الذات. 

 فتجد العاجزين عن الشر، هؤلاء الرعديدون الجبناء، الحالمون بالشرّ، العاجزون عن فعله، يتكلمون بلسان الخَير، فذلك خيرٌ من لا شيء.  

لأن الحديث الخيّر يَصلُحُ كثيراً في توسيق صورة الذات عكس الحديث السيّء، إذا كان على المرء فعل شيء يصب في مصلحته الشخصية على حساب محيطه، فإن عليه سحق الآخرين في صمت تامّ، أما من لم يستطع، فعليه أن يعوّض جُبنَهُ وخبثهُ بلسانٍ رُطب، لينال رضا المُحيط إلى حين، وذلك أضعف المكاسب بالنسبة له؛   

 أما بالنسبة للمجتمعات، فإن الحديث في الخير يجعل من صاحبه إنسانا خيّراً طيباً مباشرةً، وقد يصبح نجمهم في الأخلاق والخير دون أن يلمسوا منه فعلاً حقيقياً.    أما فعلُ الشر، فيجب أن يمسّهم مسّاً حتى يصبح شراً حقيقياً، وإلا فسوف يكون ذلك الشر محلّ انتقادٍ في ألسنتهم، قصص تُحكى، ليجعلوا أنفسهم في مصفّ الأخيار في تلكَ الأخبار، إلى أن يحدث حدثٌ ليفصل في توجههم الباطن.   

 الحديث في الخير يغطّي فجوة إرادة الشّر المُبطنة، وعلى قول سينيكا: أن تمتنع عن فعل الشر، غير أن تكون عاجزاً عن فعله!. والحقيقة أن أهل الخير الحقيقيون غير متبجحون، أهل الخير هم الأقل شهرةً في هذا المجال، ذلك أن صاحب الخِيار المتجذّر والقناعة الراسخة لا يحتاج لإذاعة ذلك، الذي يحتاج لإذاعة خيراته مفتقرٌ للعِرفان لا أكثر، هو شخص لم يمدحهُ أبواه فراح يبحث عن مدائح الناس، كعقدة أبدية.

  ولا يتغذى المتخلّق بالمدائح عن شيء واجب في الأصل، نعم، أن لا تقوم بالشر هو واجب وليس خياراً. فالمتخلّق مكتفٍ بذاته، لا يريد بذلك إغاضة أحدٍ، فهو لا ينافس الفاسد. خيرهُ غير مُوجّه للشر، بل هو خيرٌ كامل، خلق قائم بذاته لا يأبه للشر كثيراً. 

الأخلاق والخيرات لم تُخلق لردّة الفعل، إنما هي أصل، والشر جاء ليعكّر ثبات ذلك الخير، فالشر هو ردّة فعل مستمرّة تحوم حول بؤبؤ الخير الأصيل.  إن الأخلاق، وإن كانت أساس العيش الكريم والحكيم، إلا أنها الأكثر عرضة للتشويه والصناعة المقلدة رديئة الجودة، يلبسُ ظاهر الأخلاق كل أخرق شرير، فلا أحد من الناس يسوّق لنفسه برداء الشر..

 وهذا ما جعل الأخلاق حديث الفلاسفة، فهم لم يختلفوا في جوهرها، بل في حواشيها ومقلديها ومدعيها، في من هو الأحق بها . وكيف يُعرّفها تعريفاً صحيحاً يتفق عليه الخلائق.

المقال 327
#عمادالدين_زناف 
_

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...