التخطي إلى المحتوى الرئيسي

محاولات دي مونتين



...ما زالات تُزعجني ترجمةُ عنوان كتابه بـ «مقالات»، عِوض تجرمته بـ «مُحاولات» أو «تجارب»، لا صلة بين Essai و Articles. إذا أردنا التكلم عن نوعية الكتاب، هنا نعم ممكن أن سميه أنه عبارة عن مقالات، رغم أن المقال أو المقام، لم يكن أسلوباً أدبيا بعد، بل كانت جل الكتب تنتهج طريقة المأثورات أي Aphorismes وليس المقالات أي Articles.
أسلوب كتابته هو أصل الجنس الأدبي الأكثر شهرة في فرنسا وهو L'Essai، اذا أردنا القول أنها مقالات، فلين، لكن ليس هناك كتاب لاوبحمل مقالات، كل الكتب عبارة عن مقالات! لكن essai هي تجربة فكرية، أو محاولة فكرية.
لا علينا، لنتجاوز هذا، دي منتين هو أب الفلاسفة المتنورون وفلاسفة العصر الرومنسي، لكنه لم يكن فيلسوفاً، والنقطة الفاصلة التي لم تجعله فيلسوفاً تكمن في ابتعاده عن تأسيس نظرة للحياة.
  بمعنى أنه رجل يتكلم كثيرا، يعبر عن أفكاره، وما يشعر به، يترجم ما يراه، يفسره، ينتقده، لكنه لم يصع أسس فكرية واضحة لكي يُسمى فيلسوفاّ.
جاءَ مونتين في فترة حساسة، فترة انتفاضة علمية مع نظريات كونية جديدة، فترة دينية صعبة مع بروز البروتستانت، وكذا فترة التحرر الفكري الفلسفي وبزوغ الحركة الإنسانية، في القرن السادس عشر.
لم يكتب بخط يده كتاب المحاولات، بل قصّه كله لمن معه، ودوّنت عنه، كاين يفكر بصوت عال في مكتبته الشهيرة المحفوظة إلى يومنا في فرنسا، يفكر ويملي، يكرر ما قاله، يناقضه، ينتقد نفسه، يشرع في قول وينسى ما أراد قوله.. الكتاب عبارة عن تعبيرات عفوية، مواضيع ليست لها صلة ببعضها، هو أول كتاب في هذا النوع الأدبي الذي تفرعت منه الخواطر والمقالات والمقامات.
فكره يتعلق بالتلذذ بالحياة وقبولها مهما كانت صعبة ومعقدة،  أن يصنع كل فرد المجد لنفسه، أن يرتاح ويتناغم مع نفسه، أن يقبل الشر والخير، أن يجرب دائماً، وهذا هو معنى اسم الكتاب، التجربة والمحاولة، في التفكير والعمل. 
وقد قال، علينا أن نقبل سطحيتنا بكل عمق، جملة أخذها عنه نيتشه، العظمة عنده في محاولة النجاح بما نستطيع ويتوفر عندنا، ما نستطيع فعله، وعلينا كذلك قبول حياة عادية! نعم، نحن نشبه الجميع وعلينا تقبل هذا.
ليس هناك أسخف من أن تعتقد نفسك أحسن من الجميع، وليس هناك أجمل وأجود من قبول ما أنت عليه، وما خلقت له.
عندما نرى أن الخياة بسيطة، وأننا بسطاء، سنستمع بكل شيء حولنا، نسمات الهواء، كوب قهوة مع صديق، ابتسامة غريب.. كلها تسعدنا، أما من يرى نفسه أعلى من هذا، غلن يصل للأعلى ولن يسعد بما لديه.
استغلال الحاضر، هذا ما يجب فعله دائماً.
يقول أن مهما جلسنا في أعلى العروش، سنبقى جالسين على عجزتنا، وهنا تكمن بساطتنا وصغرنا.
تعرض مونتين لحادث سقوط من حصانه أثناء رحلة اصطياد، شعر من خلالها لحضور الموت في تلك الأثناء، تذكر الموت يجعلنا نعيش أحسن! ذاكرة هذا الحديث تذكره بأن عليه العيش حالاً، أن يستغل حاضره.
أريد أن أعيش، فتأتي الموت لتجدني أعتني بحصاني.
إقبل الموت، ولا تفكر فيها.
هو مفكر الحركة، كل شيء يتقدم، كل شيء سيصبح، دائما.
لا تستاء من العالم فهو لن يتغير، ولن يتأثر.

#عمادالدين_زناف 
المقال 248

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...