الجمعة، 10 ديسمبر 2021

فشل العلماء آخر سنتين



بعد سماعي لحوار طويل للعالم الفيزيائي الفرنسي إتيان كلاين، شدّني كثيراً حديثه عن آخر سنتين والأحداث التي مررنا بها. آخر سنتين كانتا نقطة تحوّل حقيقي في منظرونا للعلم بشكل عام، وللتعميم العلمي بشكل خاص، في الحقيقة، يُعتبر إتيان كلاين من أهم العلماء المعممين للفيزياء في الأوساط الفرنسية والأوروبية. تحدّث إتيان عن حاوره مع صديق له، أكسل كان، عالم مثله، كان في آخر مراحل مرضه ولم يكتشف ذلك أبداً، فقد كان يعيش بشكل عادي، بل انّ سرعته في المشي كانت تفوق معدّل سرعة مشي الانسان العادي (المكتمل صحياً). كان موضوع حديثهما هو العلم والأبحاث العلمية في آخر سنيتن، فقد عبّر له عن قلقه العميق مما حدث ويحدث، وقد قال لهُ: إتيان، قد أفسدنا كل شيء نحنُ العُلماء! والسؤال الذي بقي يصول ويجول فيعقل إتيان هو، هل هو محقّ؟ 
 السؤال الذي وجبَ ان يُطرح، ابّان هذه الأزمة الصحيّة، هل أخطأ العلماء في العملية البيداغوجية للتعميم العلمي، التي كانوا مُطالبين بها، علينا التذكير بأن هناك نوعين من التعميم، هناك ما هو ثقافي، وهناك ما هو واجب، أي شرح الوضع الراهن للشعوب، لتبرير أي خطوة استشفائية أو سياسية أو اقتصادية. العلم الشعبي قاعدة أساسية للتواصل بين العلماء والشعوب، خاصة في الظروف الحرجة. الأسلوب السائد الذي كان يراه ويتبنّاه إتيان في التعميم هو الأسلوب الكلاسيكي المعروف، تأليف كُتب في المجال، كتابة مقالات، تقديم مُحاضرات بيداغوجية، وقد أثمر هذا في ادخال العديد من الناس في مجال البحث العلمي. لكن، ومع نجاح التعميم، يبدو ان هناك فخّ بدأ يتنامى شيئاً فشيء، وهو الانحياز التأكيدي، يقول اتيان: مُشكلة التعميم، إذا أردنا تسمية هذا هكذا، هو انه لا يؤثّر ولا يصل الا للذين يميلون أصلاً للعلوم، للمهتمين حقاً بها، وهذا ما شكّل نقطة تصادم في هذا الظرف، أي آخر سنيتن، لأن مُعظم الناس لا يهتمون بالشؤون العلمية، ودفعةً واحدة تغيّر الأمر بشكل سريع جدا، ولم يسمح ذلك للعلماء بتطوير بيداغوجية جديدة في تعميم العلم.  هناك شيء آخر يمكن تسميته بانحياز النجاة، أي أن المُعمّم لا يلامس الا الذين لم يتعرضوا لصدمات نفسية في المواد العلمية والمعرفية، صدمات جعلتهم يفرّون من العلم، مع اقتناعهم العميق بأن العلوم ليست لهم وليست ميدانهم وليست موجهة لهم. العالم يعمل على تفكيك المعلومة ثم يُعيد تركيبها بطريقة تجعل العامّي قادراً على استيعابها، عن طريق بناء استراتيجية تتأقلم مع محيطه ولغته ومستوى المتلقين. القاعدة الأساسية في التعليم هو الوقت، إذا لم يَكن المتلقّي مستعداً للجلوس لمدة معيّنة من الزمن، مثل قراءة مقال طويل، أو محاضرة تفوق الساعة ونصف، أو كتاب من مائتي صفحة، فلن ينجح معه الأسلوب العلمي، ولا التعميم العلمي. فهو يرى نفسه غير معنيّ. 
المُعمّم الذي يتأقلم بشكل كبير جدا مبالغ فيه مع الشعبوية، ويحصر المعلومات الكبير في دقيقتين، يقع فيما يُسمّى بسلطة الحجّة، أي أنك تجمع الحجج بشكل يجعل السامع أنه مضطرّ بأن يفهم تلك القضية بذلك الشكل، فالتكثيف يستدعي استعمال مصطلحات جامعة لعدّة معاني، تلك المعاني التي يجب ان تُفصّل! 
التكثيف الذي وقع فيه العلماء، أوقعهم في الانحياز المعرفي، والانحياز التأكيدي، وسلطة الحجة في الآن معاً، ولم يعد التعميم في هذه الحالة أمراً يساعد المتلقّي، بل يوجّههُ لاختيار مفهوم عن آخر. قبل التفكير فيما يجب فعله، علينا أن نعلم ما حدث، طريقة طرح العلم والأبحاث في ملف واحد قد أفسدت العديد من الأمور، ودليل هذا أن هناك دراسة لدانيال كوهان، أوضحت أن في فرنسا، نسبة الثقة في كلام العلماء قد نزلت بشكل كبير في بضعة أشهر فقط (حوالي عشرين نقطة عن المعدل المعروف). 
يقول ايتيان، كانت لدينا فرصة ذهبية لعمل بيداغوجي مُميّز في هذه الفترة، مع هذه الشراهة للمعرفة التي عرفها العالم، سواءً بدافع الخوف، او لسعة الوقت في مراحل الحجر، لكننا أضعناها كلياً بالصراعات الشخصية وتضارب المعلومات والسرعة في الحديث عنها.  كان علينا أن نشرح للناس طبيعة كل علم، وطريقة الوصول الى المعلومة حسب العلم، فليست نفسها طرق تعميم الفيزياء والطب، كما هو حال علم الاجتماع والنفس والتاريخ. الى حد الآن، لا علم معظم الناس ما هو تأثير بلاسيبو في الطب، كذلك ما هو تأثير التجربة المكرّرة العمياء. لا يعلم الناس الفرق بين الصدفة والعلاقة والسببية، ثم نلقي لهم معلومات بغير وعاء يحتويها. 
وضعنا حوارات علمية لعامّة الناس، وكان جزءا منها يميل الى العاطفة والشعبوية في قالب علمي، مما جعل القضية من علمية الى تشجيعات جماهرية لعالم ضد آخر، أو علم ضد منظمة، وهذا قد شوّش كثيرا على عملية التوضيح، وأدخل في نفوس العامة "مجدّداً" الشك فيما يتم قوله ونشره، حيث أصبح "تضارب المصالح" هو المصطلح الأكثر شيوعاً بين الألسنة، برد أن كل من يتكلم من العلماء يحمل مصالحاً حكومية أو مع شركات معينة تسوق لأشياء معينة. 
في الأخير، الأمر الذي اختلط على الجميع آخر سنيتن، هو البحث العلمي والعلم في ذاته، هناك أموراً قد تم الإجابة عنها علنيا وليس محلّ بحث علمي، وهناك أمور قيد البحث، بينما يضعنا خلط الملفات هذا في أزمة ترتيب الأوراق أولا قبل الشروع في شرح ما يحدث. 
ان الاعلام والناس بشكل عام، يحبون الذي عندما يتم طرح أسئلة عليه، يُجيب حالاً، أو أنه يظهر على أنه يملك كل الأجوبة. أما العالم الذي يقول لا أعلم، أو لا نعلم بعد، أو الامر قيد الدراسة، فلن يتم محاورته مجدداً، لأنه لا يروي عطشهم، فعلينا معرفة ان العلم ليس مادة لصناعة الجدل.

#عمادالدين_زناف 
المقال 244

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق