لم يَعتبر هنري بيلي ”ستيندال“ نفسهُ روائياً قطّ، حتى إن روايتهُ مرّت مرورَ الكرام، في تلك الفترة، أي في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، لم تكن الرواية أحسن الأجناس الأدبية للتعبير عن فكرٍ وفلسفةٍ ورأيٍ ما.
كانت تعتبر جنساً بعيداً عن الوضوح والعقلانية، لم يكن الوحيد الذي لم ينل حصّته من العرفان، إنما معظم الروائيين في تلك الفترة بفرنسا. رواية الأحمر والأسود، عبارة عن سرد أحداث بين 1827 و 1830، هي مرآة للأحداث السياسية والاجتماعية في تلك الفترة.
الأحمر يمثل كل ما هو قوة وسيطرة وسلطة، أما الأسود فهي الكنيسة والأخلاق والطيبة. عالمين متباريين، أو لنقل أنه انتقال فرنسا من مرحلةٍ إلى أخرى، من مجدِ نابليون، إلى حكم الباباوات والدين في القرن التاسع عشر.
رواية ستيندال اعتمدت على فيلسوف واحد تقريباً، نستطيع القول أنها متأثرة بفكر جون جاك روسو، لم يُخفي المؤلف ذلك، فقد اعتمد كثيراً على أقواله في كل أحداث الرواية.
تروي أن هناك رجل بسيط يدعى جوليان سوريل، الذي شغل منصب مدرس أطفال لعائلة غنية في المحافظة، استطاع أن يوقع الأم ”دورينال“ في حبه، ووقعت بينهم علاقة محرّمة. تلك العلاقة فجّرت حسد وغيرة كل تلك المحافظة، ما جعله يرغب في الابتعاد، بل والعمل جاهدا على أن يصبح قسيساً.
رغم خلفيته الاجتماعية وطبقته البسيطة، رغم تواضع عائلته، إلا أنه كان رجلاً مثقفاً جداً، والأهم من ذلك، كان متحكما باللاتينية بشكل كبير جداً، وكان ذلك مفصلياً جداً في مستقبله القريب.
تلك المعرفة هي الأخرى أثارت حسد زملائه، زيادةً على أنه شديد الذكاء، متعال وغير متعاطف..، ثقافته الدينية وعلمه باللاتينية جعلته مقرباً عند القساوسة.
نستطيع القول أن جوليان رجل واقعي ماكيافيلي وبراغماتي، فقد وضع كل محاسنه المعنوية في خدمة أهدافه، لكنه في نفس الوقت حساس جداً، وكلما أغرى امرأة وقع في حبها. طموحه كان بكسب مكانة تثأر له عن كونه مجرد خادم لعائلة ثرية، وقد وجد في الآب بيرار مساعداً قوياً له، جعله حافظ أسراره، متنقلا معه في الأماكن الارستقراطية الراقية في باريس. تأثر بذلك العالم كثيراً، وأصبح يشبههم تماما، عالم يجذبه، لكنه يثير استياءه أكثر من شيء آخر. فقد كان يعشر برفض الآرستقراطيين الشباب له، بل ويشعر بسخريتهم أيضا، لمعرفتهم بأصوله، ولشكله وأسلوبه المنغلق.
استطاع رغم ذلك اثارة شغف وحب ابنة الماركراف -منصب عسكري-، فوُلدَ له صبيّ منها، وقد كان ذلك لكي يزخر بقرابة النبلاء، وأخذ شهادة ضابط، وليس حباً فيها.
هذه الحياة ولدت غضباً للأم -حبيبته الاول السيدة دورينال- فراسلت الماركراف، وأخبرته أن جوليان رجل طموح فحسب، كاذب ومناور، مستعد لتوسل كل الطرق من أجل شهواته ورغباته. فعندما سمع جوليا بذلك، عاد إليه وحاول قتلها، لكنه أصابها فقط، وهي كذلك، اعترفت له بأنها ما زالت تحبه.. الحب الذي كان متبادلاً بحق. -تفادياً لحرق النهاية سأتوقف هنا-
هذا الكتاب فتح عدّة قضايا سياسية وفلسفية، ربما سيد القضايا هو الميريتوقراطيا، او ما يسمى حكم الأكثر أحقية، في زمن بين فترتين، لم تكن فرنسا تعترف بهذه الفلسفة السياسية، هناك من يولد نبيلاً، ومن يتربى قسيساً، وهناك من يولد فقيراً بسيطاً، لا فرصة له في الارتقاء اجتماعياً.
كانت فترة نابليون بونابارت، هي القوسين اللذان اقتحما هذا العالم، فقد كان نابليون نفسه ميريتوقراطيا، وقد مرّ بذلك فعلاً، ارتقى في كل الرتب إلى أن أصبح إمبراطوراً.
وبين من كانوا مدافعين عن حكم الكنيسة والأخلاق الدينية والأرستقراطية النبيلة، والليبراليين الذين يقدّمون البرلمان والحوار على كل شيء، الميريتوقراطيين، المدافعين عن تساوي الحقوق، يرسم ستيندال قصة جوليان الذي أراد أن يدافع عن حقه في الصعود الإجتماعي.
دافع ستيندال بقوة عن الليبرالية، إمبراطوري، نابليوني حتى النخاع. جوليان صورة للشباب الرومنسيبن الذين يسعون لتحقيق أهدافهم مهما كلف الأمر.
الإمبراطورية النابليونية في فترة حكمه، عطّلت حكم النبلاء والارستقراطيين، وأعطت نفساً جديدا للشباب لكي يطمحوا لتقلّد المناصب والعمل على أهداف تتجاوز ما رُسم لهم.
رواية ستيندال تعكس الإرادية السياسية والنفسية للشباب، السياسة في بلوغ المناصب، والنفس في تغذية شغف الوصول.
التراجيديا حسب ستيندال، هي أن الميريتوقراطية مجرد حلم، نظام سياسي مستحيل أن يتحقق.
المقال 247
#عمادالدين_زناف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق