ألكسي دي توكفيل، رحلة من العالم القديم إلى العالم الجديد.
"عندما أفكر في عواطف الناس الصغيرة في أيامنا هذه، في حزن أخلاقهم، مدى سعة نورهم، طهارة دينهم، لطف معنوياتهم وأخلاقهم، وكذا عاداتهم الفظيعة، لا أخشى أن يلتقوا بزعماء متسلّطين بل بأساتذة، أرى حشداً لا حصر له من الرجال المتشابهين والمتساوين، الذين ينقلبون على أنفسهم دون أن يشعروا بمتعة صغيرة ومبتذلة في ملءِ أرواحهم، وفوق هذا يرتفع إليهم من يهتم بمفرده بضمان غضبهم ومراقبة مصائرهم. تلك القوة المطلقة والتفصيلية والمنتظمة واللطيفة، تشبه السلطة الأبوية التي إذا كانت مثلها (مثل سلطة الأب) تُعِد الأفراد لسن الرشد، ولكنها تفعل عكسَ ذلك، فهي تسعى فقط إلى إصلاحهم بشكل رجعي في طفولتهم، فهو تُحب تجديد شباب المواطنين، لأنها تعلمُ أنهم يريدون فقط أن يفرحوا."، "المساواة هيئت الرجال لكل هذه الأمور، بل وهيئتهم للمعناة، والنظر لهذه المعاناة على انها أمر جيّد."
كانت لدى ألكسي نظرة مستقبلية في محلها بالنسبة للسياسة الغربية العامة، وقد تضمّ كتابه (الديموقراطية في أمريكا) كل تلك النظرة المُقارنة لفرنسا التي تركها، مع شمال أمريكا وصولاً الى كيباك وقبائل السكان الأصليين، كان يرى نشأة بلد لم يتعدا عدد سكانه الاثني عشر مليون نسمة، بينما تخطّت فرنسا آنذاك حاجز الخمسة وثلاثون مليون نسمة، وهذا سنة 1830م.
رحلة ألكسي لم تكن عن عبث، راحَ يدرس الطريقة الأمريكية الجديدة في العمل السياسي الديموقراطي، بلد ناشئ على ثوابت مُغايرة لما كانت عليه اوروبا في تلك الحقبة، بقي مع صديقه غوستاف في أمريكا عشرة أشهر، لم يكن هناك كسائح، او كمتابع لعادات وتقاليد الناس هناك، لكنه ذهب كعالم اجتماع، يدرس الاختلافات الجذرية العميقة بين العالم القديم، والعالم الجديد الذي سيقود العالم.
نشأ ألكسي في مقاطعة توكفيل في نورموندي الفرنسية، من عائلة ثرية وعريقة وتابعة للمَلكية، ولد سنة 1805 في المرحلة الامبراطورية الاولى لفرنسا، كان الابن الثالث غير المرغوب فيه من أمه، لأنه رأت فيه انه مُتوحّد وقد يكونُ شاذاً أيضا، وكانت تقول ساخرةً أنه قد يصبح يوماً امبراطوراً. كما هو مُوضّح، لم تكن الامبراطورية مرحباً بها في العائلة، وقد نُفي أباه الى انجلترا.
درسَ في كلية الحقوق، في سنة 1827م، وُليّ قاضيا في محاكم فارساي وهو في سن الثانية والعشرين، وفي هذه المرحلة تعرّف بصديقه غوستاف، الذي شاركه رحلته الى أمريكا.
الأجواء السياسية لم تكن تشجّع "المَلكيّين" على البقاء في فرنسا، فقد كانت تلك الرحلة فرصة للابتعاد قليلاً. لكنّه طلب من المسؤولين أن يعطونه منحة للتحقيق والدراسة في أمريكا، فقد استطاع ان يقنعهم بانه يريد معرفة "ما يخطط" له الأمريكيون و"يستخبر" تحركاتهم، الأمر الذي نجح. في طريقهم الى امريكا، وفي تلك الساعات الطوال في الباخرة الكبيرة، استغلا ذلك الفراغ في القراءة،
حيث طالعا كتب جورج باتيست سيه في الاقتصاد السياسي.
استقرا في بداية الأمر في برودواي بمنحة عائلية، أوّل ردّة فعل لألكسي كانت شديدة النّقد والانكار، هذا ما كتبهُ في 14 ماي 1831م "ها نحنُ إذا في نيويورك !، شكلُ المدينة غريب جداً بالنسبة لفرنسيّ، بمعنى آخر هي غير مريحة. لا كآبة، لا سنّارات صيد، كأننا في ضاحية ما، داخل المدينة مصنوع بالطوب، شكلها رتيبٌ جداً. لا يوجد في المنازل افريز، ولا دَربزين، الطُرق غير مستوية، لكنها مليئة بالأرصفة للمترجّلين". نيويورك لا تشبه فرنسا تماما، لا في عاداتها ولا تقاليدها اليومية، يقول ان الأمريكيين يأكلون أشياء عديدة، ويلقون في امعاهم أموراً غريبة.
وصف حالة النساء والحرية التي يتمتعون بها قبل الزواج، تلتقي وتتعرف بالرجال بشكل عادي، لكن بعد الزواج ينقلب الأمر، وهذا بحكم الديانة التي يطبّقونها. التديّن الواضح عند للأمريكيين أثار انتهباه ألكسي، كان يراهم كطائفة بروتستنتية متشددة، الأمريكي يركّز كثيراً على مصلحته من العمل الذي يقوم به، وليس فقط العمل دون مساءلة. انه مجتمع واضح جداً ويعلم ماذا يُريد.
كان مستغربا أيضا من انعدام شغف المواطنين هناك بالسياسة، مقارنا ذلك بفرنسا التي كانت تمر بأكبر أزماتها السياسية، كان مستغربا من التحضّر عند الأمريكيين، خاصة عندما حضر ذكرى عيد استقلالهم يوم 4 جويلية 1831 في ألبانيي عاصمة نيويورك. شعر عندئذ بالانتماء والروح الوطنية غير العادية عندهم، وقد دوّن كل ذلك ليدرسه بشكل مُعمّق.
عندما تم دعوته لزيارة مؤسسة ترعى أصحاب الجنح لأقل من ستة عشر سنة، قال إن هؤلاء يعيشون مثلنا تماما.
عمل المساجين أيضاً لم يتركه دون استغراب، وقد دوّن ان هذا النوع من الأفكار يستحيل ان تنتقل الى فرنسا، أما فكرة الزنازين فقد أعجبته، لأن السجون في فرنسا كانت في قاعات كبيرة تجمع كل المساجين.
التقى بالسُّكان الأصليين لأمريكا، معتقاُ أنه سيقابل متوحّشين على رؤوسهم ريش، ولم يكونوا كذلك، بل كانوا متحضّرين ومختلطين مع الغرب الأمريكي، ولا تجد لديهم لباس مختلف عن الآخرين الا في تفاصيل صغيرة.
أرسل نفسه الى ما أسماه " خمس عشر يوماً في الصحراء"، أين اصطدم بهنود حمر، بحيث تركهم يقودونه الى حيث شاءوا، وتصارع فيها مع دبّ هائج، الى غيرها من الأحداث البعيدة عن الحضارة. راحَ يدافع عن حقوق الهنود الحُمر بعد ذلك في عدة مواقف. قال إنهم ليسوا لهذه الحضارة، بل هي تقتلهم.
وصل كندا واكتشف أن في كيباك العديد من الفرنسيين الذين حافظوا على التقاليد الفرنسية الأصيلة، وقد كان ذلك مريحا بالنسبة له، فقد استعاد توازنه بمرافقتهم تلك الفترة. غادروا بعدها الى بالسيلفانيا، الى المجتمع الراقي هناك، أين كانت العبودية هناك قد انتهى عهدها، لكنها بقيت تتميز بالتمييز العنصري الذي أثار حفيظة ألكسي دي توكفيل.
أواخر نوفمبر رحلوا الى سانتسناتي في أوهايو، أين وقعت لهم عدة مشاكل وقد تم انقاذهم منها، يقول الكسي انها أحدث مدينة شاهدها في حياته، فقد كانت مكسوّة بالأشجار والغابات الى عهد قريب.. هي لا تًشبه ما نعلمه عنها، هي مدينة تشبه المصنع المفتوح.
16 جانفي 1832 حطّوا بواشنطن، تم دعوتهم لحفلة على شرفهم من سفير فرنسا هناك، الذي بدوره قدّمهم للرئيس جاكسون أندريو، عادوا بعدها الى نيويورك في فيفري من نفس السنة.
عدد النسخ الأولى من كتابه (الديموقراطية في أمريكا) لم تتجاوزالـ500. كان كتاب عبارة عن دراسة ووصف دقيق لكل التفاصيل، وضع المقارنات، وفي بعض الأشياء، يضع قصصاً قريبة من الرواية داخل كل هذا العمل.
تميّز الكسي بنظرياته السياسية من رحلته لأمريكا، عكس العديد من الكتاب والروائيين والمفكرين والسياسيون الذين كانوا منبهرين ومكتشفين أكثر من دارسين. كان هدفه هو الذهاب الى أبعد نقطة في أمريكا واكتشاف الخبايا. أراد ان يرى ما سوف تكون عليه الولايات المتحدة قبل أن تكون! أي أن يرى البلد الذي سيسيطر على العالم، فقد توقّع ذلك وأضاف الى أمريكا روسيا! في سابقة عبقرية.
حياة الفيلسوف معقّدة وفيها الكثير من التفاصيل المثيرة، فقد عانى كثيرا من عائلته ومن نزواته أيضاً، الى ان أحب امرأة انجليزية تُدعى ماري، وقد قام بعدة أمور كي يتزوج بها، وعندما شعر باستحالة ذلك، لأنه كان سيُحرم من الإرث من عائلته، وكما نعلم، فان أبناء الأثرياء لا يملكون صنعة معينة غير ما درسوا او الكتابة، وقد كان هذا دافعاً آخراً له كي يسافر لأمريكا.
كان يريد ان يكون مثل قريبه 'عمّه' بالقرابة العائلية الكاتب والروائي المشهور شاتنوبريون، أراد أن يصبح كاتبا ويقتات بهذه الصّنعة، كي يستطيع ان يتزوّج بماري.
المقال 245
#عمادالدين_زناف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق