السياسة والفلسفة.
توطئة.
السياسة
يعود أصل مُصطلح السياسة Politics في الأصل هو فن إدارة المدينة، أصل الكلمة من Polis أي المدينة عند الاغريق، ففن ادارة المدينة هو أساس السياسة، الانسان السياسي homo politicus هو من يصنع علم يجمع بين الإدارة والفن والبلاغة والتدوين والمراقبة والعديد من الفروع الأخرى. ما صنع هذا الشيء هو التزايد الديموغرافي، أي تطوّر الشعوب من القبائل الى دولة المدينة الى دولة تجمع عدة مُدن الى الامبراطوريات وصولا الى الدولة القُطريّة، وبما في ذلك شعوبها واختلاف ثقافاتهم ومعتقداتهم وحاجياتهم. العمل السياسي يعود الى الحضارات القديمة، لكن التنظيم السياسي، وصناعة العلوم المتعلقة بالسياسة لم يبدأ الى مع الفكرة الاغريقي المُستمد من تعالم مصر القديمة، والذي عرف تطوّراً هائلا ابّان العصر الروماني بكل مراحله "الملكي والجمهوري".
الفكر السياسي.
مع بروز الحضارات، عرفت كل واحدة منها فكراً سياسيا مختلفاً عن الآخر، فهناك حضارات قامت على فكر ميتافيزيقيّ، وبهذا فان سياسة تلك الحضارة خضعت لهذا المنشأ، وهناك حضارات قامت على أسس ماديّة، بكل فروع الفكر المادي (مثل الأعراق والطبقات الاجتماعية)، وهناك من قامت على أسس دينية، وبهذا تعمل على سياسة توحيد الكلمة على أساس دينيّ، ودول أخرى قامت على أسس تاريخية ثقافية. وبهذا، فان الحضارة أو الدولة القُطرية تعود في سياستها دائما الى سبب النشأة، أو جذور نشأتها.
خلفيات الفكر السياسي.
تعود الفكرة السياسة العامة كما أشرت الى جذور أو مسببات بروز تلك الدولة، فالمسببات الأولى تُلاحق سياسة الدولة في كل سياستها الداخلية والخارجية، فبالنسبة للإمبراطوريات في العصور الوسطى على سبيل المثال، فقد قامت جلها على أساس طَبقي وعرقي بغلاف ديني، هذا الفكر السياسي يدفع دائما الى التوسّع على حساب الآخر (الذي يرى أن الآخر أدنى منه في كل شيء)، وهذا الفكر يعمل على فكرة فرض الخير واقصاء الشّر، والخير والشّر في ظل هذا النظام، هو حسب ما يراه الحُكام وصنّاع تلك السياسة، وليس يعتمد على أفكار الخير والشرّ العامّة (الغريزية).
صدر الموضوع .
ما وراء الخلفيات السياسة، من يصنع الفكر؟
لكل سياسة فلسفة خاصّة، ولكل فلسفة سياستها في التطبيق، كما أشرت في التوطئة، فان السياسة قائمة على أسس قيام الدولة أو الإمبراطورية أو الحضارة، قائمة أيضا على ظروف وزمن تلك النشأة، أي أن مع بروز كل دولة، هناك فلسفة سياسة طاغية في ذلك الزمن، وان تلك الدولة أو الإمبراطورية ستقوم على فعل أمرين لا ثالث لهما، اما الاتحاد مع الفلسفة العامة للعلاقات الدولية السياسية، أو القدوم بفلسفة سياسة جديدة، أي، فرض المنظور الخاص (الفكر السياسي، الفلسفة السياسية) على كل العالم.
هناك سبيلين لفرض الفكر الدولة السياسي على العالم، اما بالقوّة الرادعة (السلاح والاقتصاد)، أو القوة النّاعمة (الدعاية والأفلام). لكن قبل هذا كلّه، من يقف وراء هذا البناء الفكري المُكتمل؟
صناعة الفلسفة وعرض البضاعة.
وراء البناء الفكري للدولة رجل، قد يكونُ الملك ذاته، أو وزيراً، أو قاضياً، أو كاتبا لها، أو قد يكون مستشاراً. ولقد علمنا دور ريشارد بروس شيني –ديك شيني-، نائب رئيس الو.م.أ جورج والكر بوش، في كل الحروب التدخلات التي قادتها البلاد في فترة 2001 الى 2009. هذا الرجل الجمهوري كان وراء كل القرارات الحاسمة، رغم انه ليس هو صاحب السلطة العليا سياسيا، ولا عسكريا. كذلك الحال في كل العصور والحضارات، وراء سلطة بابل قانون ملكها حامورابي، من يناقش مصدر أحكامه؟ لا أحد.
لم يكن الامبراطور ماركوس اوريليوس الا رجلا رواقي الفلسفة، فقد يكون مجرّد خادم لفكرة فلسفية تُعاكس ما يرغبه لذاته.
ولو أخذنا الديانة النصرانية كفلسفة توسّع عند إمبراطوريات العصور الوسطى، لعلمنا أن فلسفة الكنيسة هي من كانت تقود السياسة العامة لأوروبا. وصولاً الى الفلاسفة المتنورين، فقد كان بناء الجمهورية الفرنسية (بالنار والحديد) نتاجاً لتراكم أفكار كل الفلاسفة الفرنسيين من ديمونتين مرورا بمونتيسكيو وباسكال وديكارت وفولتير الى غاية روسو الذي أصّل لكتاب صار هو انجيل السياسيين في تسيير سياسة المجتمعات وهو "العقد الاجتماعي". وقد عرفت ألمانيا (بروسيا سابقا) نفس الفكر للمرور بالعالم الى سياسة جديدة.
السياسة الحداثية وما بعد الحداثة في أوراق الكتب.
عندما كتب كارل فون كلاوزفيتز، الجنرال والمؤرخ، كتابه من الحرب، فلم يعلم حقيقةً أنّه قد أصّل لفلسفة عسكرية وسياسة ومنهج اداري أوسع من مجاله بكثير. فقد وضع أسسا لمتابعة الحرب بالسياسة، بعد نجاح أو فشل الحرب العسكرية. وقد ترك الرجل أفكاراً عميقة في عدة رؤساء صنعوا تاريخاً لهم.. مثل لينين، قائد الثورة البولشيفية، وايزنهاور، رئيس الو.م.أ.
الجميع يعلم ان السياسة تعتمد على مجموعة من الأدمغة التي تعتني بتسيير أمور الاقتصاد بكل فروعه، والإدارة بكل فروعها أيضا، لكن يحدثُ ان يكتبُ شخصٌ واحد كتابا او عدّة كُتبٍ، ليقود لمرحلة سياسية وفلسفية جديدة، فمن لا يعرف كارل ماركس والتأصيل للماركسية، وآدم سميث والتأصيل للراسمالية، النيتشية والتأصيل للقوة (التي أخذت كمرجع للناز.ـيّـين والفاـ.شيين)، أو بردون الذي رسم الحركة الآناركية، فكلها سياسات لاقت رواجاً، وأثرت في كل الدولة الناشئة أيضاً، التي اختارت الموالاة عوض القدوم بفلسفة جديدة.
صناعة الفلسفة قبل السياسة.
على الدول أن تصنع فلسفةً قبل أن تُطالب بالعمل السياسي، الانتخاب عمل سياسي يبدأ وينتهي في أقل من دقيقتين، أما التأصيل للفكر السياسي فقد يحتاج لعقود. ان العمل السياسي هو نهاية فكر وفلسفة سياسية، اما السياسة السياسية فهي مصالح ذاتية لا تعنى بالمصالح العامة، ولا لمستقبل كيان الدول.
خاتمة
السياسة كائن زئبقي، لا نستطيع أن نلمسه ولا أن نخاطبه، السياسة نتاج أفكار وتوجهات، خاضعة لظروف واختيارات حاسمة، وما لم نستشعر أهمية ما يبني السياسة، فلن يُغيّر العمل السياسي شيئاً، ولن تُغيّر تلك الإرادة لبناء سياسة لامعة، دون علم وفلسفة متأصّلين.
#عمادالدين_زناف
المقال 243
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق