التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الأرواح المتمردة على مذا؟ خليل جبران



لست في مقام التعريف بجبران خليل جبران، فهو أحد أعظم كتاب القرن العشرين في العالم العربي، وواحد من أبرز الكتاب العرب المعروفين في العالم، ليسَ محلّاً للنزاع أن خليل جبران شخصية مليئة بالأناقة والهدوء والروح الفنيّة العالية، عدى العاطفة والشاعريّة المندفعة منه مثل مياه النّافورة. كذلك، ليسَ هناك محلّ للنقاش في أسلوب خليل جبران، أسلوبه راقٍ في التعبير، والسّرد والوصف، لنكن متّفقين، هذا حقّهُ، لكنني لست من المعجبين بأسلوبه، الأذواق والألوان لا يمكن النقاش فيها، العيب في ذمّ شيءٍ ليس في ذاته محلاً للذمّ، بل محلاً للذوق. 
قرأت لجبران كتاب النبيّ، وقد أعجبتُ به على عدميّته المفرطة، وقرأتُ الأجنحة المتكسّرة، ثم الأرواح المتمرّدة، فلم أستسغ ما قرأت في المجموعة القصصيّة للعنوان الأخير. كما توقّعت، خليل جبران لم يكن بدعة من المؤلفين الذين اختلطَت عليهم قُدسيّة الدّين مع قُدسيّة الحياة، فقد قرأت لعديد المُحافظين، أي أصحاب التيار اليميني، لا يُحسنون التوفيق بين الفكر النيتشيّ القاتل لفكرة الاله، والتديّن البحت الذي يبحثُ عن رضا الاله. لا يُمكن للفرد أن يلعبَ الدورين في نصٍّ واحد، وهنا، وفقط هنا اكتشفتُ في جبران ثغرة العاطفة التي تطمسُ الفكر والفلسفة وتضعها جانباً، تلك العاطفة والشاعرية المندفعة منه لها الأثر العظيم في التشويش بين حبّ الشريعة، والتمرّد عنها. انّه وكغيره من الروائيين ذوي الحسّ المرهف والفنّي، يميل مع ما يمليه القلب مثل ركوع السنابل صفاً مع النسمات، فقد تعبتُ وأنا أقرأ السطر تلو الآخر، وهو يختلق قصصاً لحالات شاذّة، ليبرّر أن المُشرّع يستعمل الشريعة لغرض سُلطويّ، بين هو ذاته مُذنب، ولو فتحنا الانجيل، فنجد أنهم يقولون على لسان عيسى عليه السلام "من لم يُذنِب منكم قَطُّ في حَيَاتِهِ فَليَرمِهَا بِأَوَّلِ حجر؟"، أي هو مع فكرة أن المُذنب لا يجب أن يُعاقب من مُذنبٍ آخر، وهنا نقع في فكر فلسفي قريب من المدرسة الآناركيّة، الآناركيون Anarchistes ، لا يعترفون بالنُظُم والدول، مشكلتهم الأساسية في الوسائل التشريعية، السماوية والوضعيّة، ولو صرّح جبران بأناركيّته لكانت فلسفته واضحة، فقد طغى في زمنه فكرة التمرّد على الدين، وكما ذكرت، لم يكن جبران نيتشياً خالصاً، ولا مدافعاً عن شريعة دينه، ومع ذلك، يريد ان يكون في الحياة اله.
تُزعجني فكرة ضبابية المؤلّف، واستعمال من كل بستانٍ وردة، ومن كلّ صبّار شوكة، ثم نمزج هذا لنضعَ نصّا يُغازل القراء، كيفَ لنصرانيّ ان يُسلّمَ بالزنا بحجّة الزيجة "جافة المشاعر"؟ّ، لنتّفق، هل الحبّ أولى أم الشريعة؟ هل يرّع جبران لنساء العالم الهروب من سقفهم الشرعيّ، للحبيب "الفقير المفعم بالحب والحنان"؟، هل تتذكرون عندما تكلمت عن الحريّة؟ قد قلتُ أنّها تحرّر من قيد من أجل قيد آخر، وهنا أقول، هو هروب من شريعةٍ لتشريعِ شيءٍ آخر. وكما أشرت، أقبل هذه النصوص من نيتشه وبرتران راسل وغيرهم من الملحدين الواضحين، الذين يضعون الدين بكامله في قفص الاتهام، بينما لا أستطيع فهم من يريد مسك العصى من الوسط. 
لم أقع في فخّ الأسلوب العظيم في السّرد، أنا باحث مُلحّ عن الفكرة، وفكرة أن الجائع يجوز له السرقة، وأن الحبيب يجوز أن يدخل غرفة امرأة متزوجة، وأن العروس تطعن حبيبها في يوم زفافها، ثم تطعنُ نفسها، لا أستطيعُ هضمها.
قرأت أن خليل متأثّر بنيتشه، وكان هذا واضحا فعلاً، لكنّه مدجّج بالعدميّة، بالاستياء من الناس والسلطة والتشريعات، مهووسٌ بالبحثِ عن الحجج للعاصي، دوّامة الغفران التي تمسّ مرتكب الفواحش، لستُ أعلمُ ان كان هذا المزج بين السمح النصراني الطاغي في نصوصه، مع فكرة التمرّد عن "كل شيء" تقريباً.. هو الشيء الذي جعلَ له القبول في الشّرق والغرب، الشيء الذي بقي عالقاً في ذهني، أنه لا يبحث عن الحلول في القصص، هو قيء مستمرّ ضد الظلم، غضب مُلتزم عفيف، غضب مُقدّس مبارك بنصوص انجيلية، لا تعترف الا بسقف العاطفة، وان كانت ذلك السقف هشّ. 
نعم، يجبّ المسيح ويحب الإسلام، وقرأت له أنه يرّق بين الرسالة والكهنة، كذلك فعل نيتشه وغيره، لكنه عجز كل العجز عن الخروج بحرف يفكّ شيفرة التناقض الذي يتصارخ بين أسطره، ولن يقرأ تلك التناقضات الا من قتل المؤلّف كليا، واعتنى بنصه فكرياً عناية جراحيّة قيصريّة، دون ان يسمح لنفسه ان ينام مغناطسيا مع قوة الكلمات.

#عمادالدين_زناف 
المقال 263

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...