الثلاثاء، 1 فبراير 2022

الأرواح المتمردة على مذا؟ خليل جبران



لست في مقام التعريف بجبران خليل جبران، فهو أحد أعظم كتاب القرن العشرين في العالم العربي، وواحد من أبرز الكتاب العرب المعروفين في العالم، ليسَ محلّاً للنزاع أن خليل جبران شخصية مليئة بالأناقة والهدوء والروح الفنيّة العالية، عدى العاطفة والشاعريّة المندفعة منه مثل مياه النّافورة. كذلك، ليسَ هناك محلّ للنقاش في أسلوب خليل جبران، أسلوبه راقٍ في التعبير، والسّرد والوصف، لنكن متّفقين، هذا حقّهُ، لكنني لست من المعجبين بأسلوبه، الأذواق والألوان لا يمكن النقاش فيها، العيب في ذمّ شيءٍ ليس في ذاته محلاً للذمّ، بل محلاً للذوق. 
قرأت لجبران كتاب النبيّ، وقد أعجبتُ به على عدميّته المفرطة، وقرأتُ الأجنحة المتكسّرة، ثم الأرواح المتمرّدة، فلم أستسغ ما قرأت في المجموعة القصصيّة للعنوان الأخير. كما توقّعت، خليل جبران لم يكن بدعة من المؤلفين الذين اختلطَت عليهم قُدسيّة الدّين مع قُدسيّة الحياة، فقد قرأت لعديد المُحافظين، أي أصحاب التيار اليميني، لا يُحسنون التوفيق بين الفكر النيتشيّ القاتل لفكرة الاله، والتديّن البحت الذي يبحثُ عن رضا الاله. لا يُمكن للفرد أن يلعبَ الدورين في نصٍّ واحد، وهنا، وفقط هنا اكتشفتُ في جبران ثغرة العاطفة التي تطمسُ الفكر والفلسفة وتضعها جانباً، تلك العاطفة والشاعرية المندفعة منه لها الأثر العظيم في التشويش بين حبّ الشريعة، والتمرّد عنها. انّه وكغيره من الروائيين ذوي الحسّ المرهف والفنّي، يميل مع ما يمليه القلب مثل ركوع السنابل صفاً مع النسمات، فقد تعبتُ وأنا أقرأ السطر تلو الآخر، وهو يختلق قصصاً لحالات شاذّة، ليبرّر أن المُشرّع يستعمل الشريعة لغرض سُلطويّ، بين هو ذاته مُذنب، ولو فتحنا الانجيل، فنجد أنهم يقولون على لسان عيسى عليه السلام "من لم يُذنِب منكم قَطُّ في حَيَاتِهِ فَليَرمِهَا بِأَوَّلِ حجر؟"، أي هو مع فكرة أن المُذنب لا يجب أن يُعاقب من مُذنبٍ آخر، وهنا نقع في فكر فلسفي قريب من المدرسة الآناركيّة، الآناركيون Anarchistes ، لا يعترفون بالنُظُم والدول، مشكلتهم الأساسية في الوسائل التشريعية، السماوية والوضعيّة، ولو صرّح جبران بأناركيّته لكانت فلسفته واضحة، فقد طغى في زمنه فكرة التمرّد على الدين، وكما ذكرت، لم يكن جبران نيتشياً خالصاً، ولا مدافعاً عن شريعة دينه، ومع ذلك، يريد ان يكون في الحياة اله.
تُزعجني فكرة ضبابية المؤلّف، واستعمال من كل بستانٍ وردة، ومن كلّ صبّار شوكة، ثم نمزج هذا لنضعَ نصّا يُغازل القراء، كيفَ لنصرانيّ ان يُسلّمَ بالزنا بحجّة الزيجة "جافة المشاعر"؟ّ، لنتّفق، هل الحبّ أولى أم الشريعة؟ هل يرّع جبران لنساء العالم الهروب من سقفهم الشرعيّ، للحبيب "الفقير المفعم بالحب والحنان"؟، هل تتذكرون عندما تكلمت عن الحريّة؟ قد قلتُ أنّها تحرّر من قيد من أجل قيد آخر، وهنا أقول، هو هروب من شريعةٍ لتشريعِ شيءٍ آخر. وكما أشرت، أقبل هذه النصوص من نيتشه وبرتران راسل وغيرهم من الملحدين الواضحين، الذين يضعون الدين بكامله في قفص الاتهام، بينما لا أستطيع فهم من يريد مسك العصى من الوسط. 
لم أقع في فخّ الأسلوب العظيم في السّرد، أنا باحث مُلحّ عن الفكرة، وفكرة أن الجائع يجوز له السرقة، وأن الحبيب يجوز أن يدخل غرفة امرأة متزوجة، وأن العروس تطعن حبيبها في يوم زفافها، ثم تطعنُ نفسها، لا أستطيعُ هضمها.
قرأت أن خليل متأثّر بنيتشه، وكان هذا واضحا فعلاً، لكنّه مدجّج بالعدميّة، بالاستياء من الناس والسلطة والتشريعات، مهووسٌ بالبحثِ عن الحجج للعاصي، دوّامة الغفران التي تمسّ مرتكب الفواحش، لستُ أعلمُ ان كان هذا المزج بين السمح النصراني الطاغي في نصوصه، مع فكرة التمرّد عن "كل شيء" تقريباً.. هو الشيء الذي جعلَ له القبول في الشّرق والغرب، الشيء الذي بقي عالقاً في ذهني، أنه لا يبحث عن الحلول في القصص، هو قيء مستمرّ ضد الظلم، غضب مُلتزم عفيف، غضب مُقدّس مبارك بنصوص انجيلية، لا تعترف الا بسقف العاطفة، وان كانت ذلك السقف هشّ. 
نعم، يجبّ المسيح ويحب الإسلام، وقرأت له أنه يرّق بين الرسالة والكهنة، كذلك فعل نيتشه وغيره، لكنه عجز كل العجز عن الخروج بحرف يفكّ شيفرة التناقض الذي يتصارخ بين أسطره، ولن يقرأ تلك التناقضات الا من قتل المؤلّف كليا، واعتنى بنصه فكرياً عناية جراحيّة قيصريّة، دون ان يسمح لنفسه ان ينام مغناطسيا مع قوة الكلمات.

#عمادالدين_زناف 
المقال 263

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق