التخطي إلى المحتوى الرئيسي

The matrix المصفوفة- جون بودريار




أعودُ بكم لـ the matrix مجددا في هذا المقال،  لشرح العالم الوسطي الكائن بين الحقيقة والخيال،  تحليل مُفصّل لكتاب simulacres et simulation، الكتاب الذي يجب أن يطالعه الجميع.
يُعد كتاب المُصطَنع والاصطناع لجون بودريار هو الكتاب الأب والأم وكل ما يوحي للأبوّة لفكرة المصفوفة الذي ركّزتُ عليها كثيرا هذا الأسبوع، وكذلك في كتابي الشفق سابقا. لكنني لم أضع تحليلا مخصصا للكتاب عينه، وها قد أتت الفرصة لتأخذ فكرة عمّا فاتك، إذا لم تكن قد اطّلعتَ عليه بعد.  قبل الحديث عن الكتاب، عليّ الإشارة أن فكرة فيلم ماتريكس برمّتها جاءت من رحم أفكار هذا الفيلسوف الفرنسي، الذي ينتمي بشكل أو بآخر للفلسفة التفكيكية، وبشكل عام لمجموعة الـfrench theory الذين خصصتهم بمقال في السابق يمكنهم مطالعته في مدوّنتي.   يبدأ فيلم ماتريكس بمحادثة كتابية بين من ستُعرف لاحقًا بـ ترينيتي، واندرسون (نيو)، في نفس ذلك المشهد يظهر لنا في الشاشة كتاب & simulacres   simulation،كإشارة واضحة لصاحب الفضل في هذا التحليل الخطير لما سيصبح عليه واقعنا اليوم.  في نفس المشهد، رأينا إشارة ثانية عبقريّة، وهو أن نيو استعمل ذلك الكتاب كصندوق يخفي فيه أقراصه وبعض المال، وذلك بصناعة فراغ من صفحاته، أما الصفحة المقابلة فهي تتحدّث عن "Nihilism العدميّة" التي هي تمثل خلفية كل هذا العالم الجديد. لحدّ الآن ما زلت أتحدّث عن الأمور الشّكليّة، لأن فيلم ماتريكس لم يكن وفيا لفلسفية وتحليل بودريار، كما جاء في تصريحاته قبل وفاته سنة 2007.  الحديث اليوم عن الكتاب وليس عن فيلم ماتريكس، لكن علي أن أجيب سريعا لمَ لم يكن ماتريكس وفيا في أوّل ثلاثة أجزاء (الجزء الرابع الذي صدر سنة 2021 ورغم عدم نجاحه لكنه أكثر جزء وفيّ للكتاب والفكرة الأصيلة). بشكل عام، يقول بودريار أننا سنعيش في عالم لا نفرق فيه بين الحقيقة والخيال، بالمحاكاة التي ستشوّش علينا اليقظة والحلم. بينما في ثلاثيّة ماتريكس، عالم ماتريكس مستقل عن العالم الحقيقي، فلم يوفق المنتجون في ايصال ذلك التشويش، ما عدى الجزء الرابع كما أسلفت، أين لم يكن واضحا لنيو أين هو.  الآن وبعد أن انتهينا من الفيلم، سنتحدّث عن الكتاب. 
Simuclares هو الاصطناع، نعيش في زمن الرمزية، فالعديد من الناس ذهبوا ضحيّة القالب لما انتشر من منافع الباطن، كيف ذلك؟ في السابق كان الناس يشترون القهوة، ثم انتقلوا شيئا فشيء إلى أنواع عديدة من القهوة، ومن تمّ طغت عديد المؤسسات التي استحوذت على المجال (المقاهي) مثل starcbucks، فأخذت هذه المؤسسة وغيرها تغير من شكل ولون القهوة، ثم بدأت تُخلط القهوة بعديد الأشياء الأخرى، مع اعتقاد الناس أنهم يشربون القهوة، إلى أن تغيرت المادة الأولية من القهوة إلى خليط من الأسماء عند هذه الماركات العالمية. Simulation هي المحاكاة، والمحاكاة هنا تعني محاولة تقليد الطبيعة، بيدَ أننا نعلم أن المحاكاة عند أفلاطون تشوّه الطبيعة ولا تقلدها، وهي عند بودريار وسيلة للتشويش في رؤية الحقيقة، خاصة إذا لم يظهر الفرق بينهما عكس ما أراد فيلم ماتريكس اظهاره، أن تشرب القهوة ليس مثل أن تظن أنك تشرب القهوة، وأن تشرب القهوة، ليس كما تشتري "ماركة" تستحوذ على مادة القهوة، كل هذه اللعبة تدون بين المُصطنع والمحاكاة أو الاصطناع.  هذا بالنسبة للعنوان، أما عن الكتاب، فقد تحدث عن تدفق المعلومات الذي أفقد المعلومة مفهوميّتها وقيمتها. فقد تحدثت في منشور سابق عن خطورة تيك توك وأساليبه السريعة، وتداخل المشاعر والمشاهد المنهمرة كالشلال، الذي يجعلنا لا نعطي الحدث والمعلومة والعواطف حقها، ما يجعلها غير حقيقية، بل مجرد محاكاة لما هي عليه، لأنها تمر عبر عدة أشياء الكترونية، والتفاعل معها لا يكون سوى بنفس الطريقة الالكترونية.  الأخبار التي كانت تغزوا التلفاز والكمبيوتر لم تعد تُقاس مع تلك التي تغزو المواقع و الهواتف، مع قدوم ثورة الذكاء الاصطناعي، لم تعد القضية في المعلومة المشوشة والمدكوكة بشكل مزعج، بل في فهم المعلومة، لأن المعلومة دون معلم وشارح لها لا معنى لها ولن تُسفر عن تقدم معين للذي تمر من أمامه تلك المعلومة، يقول بودريار أن الكثير من المعلومات يقتل المعلومات، لأن هذا لا يتماشى مع أسلوب العقل الانساني في الوعي والادراك والهضم والتفعيل بعد ذلك. المحاكاة عوضت الواقع، مثلا صرنا نبحث عن الرضا الالكتروني أكثر منه الواقعي، فجعل الآخر يعتقد أنك في ايطاليا صار أحسن من الذهاب لايطاليا حقيقة، وفي يومنا، تستطيع أن تقول أنك هناك، مع إثبات ذلك عن طريق صناعة صور وفيديوهات مفبركة، وبالتالي لا حاجة لأي عمل حقيقي، واذا أسقطنا هذا لاشيء في أمور أخرى فسوف نجد أن من يريد أن يظهر كمفكر سيسرق أفكار غيره ويُحوّرها ليجعلها تبدو كأنها له، وإذا أردت أن استفزّ أكثر، سنرى أن الروايات لم يتبّق منها إلا القالب، ومنه تلك الإشارة الذكية من فيلم ماتريكس عندما صوّروا كتاب simuclares مُفرغا من محتواه، وفي مكانه أقراص ونقود. تشعّب المعلومات أفرغ الحياة من المعنى، لأن المعلومات أرقام متتابعة، لكن سريعا ما تصبح الأرقام خالية من كل مشاعر، فالضحايا والتضخمات والخسائر والزيادة والنقصان عبارة عن أعدادا تتوالى حتى أصبحت لا تزعج أحدا، والدليل المعروف هو الفلسطينيين وعدد ضحاياهم المتكرر منذ عقود، الأمر الذي أصبح شيئا عاديا عند المشاهدين، وقليل ما يؤثر عليهم ذلك لاعتيادهم.  إذا، نفهم أننا في قلب عالم جديد من المحاكاة للواقع، وليس واقع حقيقي، وهي المصفوفة التي يمثلها نيو وفريقه خير مثال، وكل هدفه هو الخروج منها بأقل الأضرار.  الخطر الذي أشار إليه بودريار هو التطابق الخطير بين الواقع والافتراض، لان الافتراض هو توهم الواقع في حياة الكترونية رقمية، ونحن نعلم أن الأرقام معرضة للتخريب والتشويش والاختراق والفيروسات، وبهذا سوف يفقد الإنسان قدرته في السيطرة على محيطه المادي، بعد أن كان صانعه وسيّده. التحكم في الافتراض أصبح صعبا جدا، لأن المصفوفة لا تفتأ تلاحق صاحبها حتى تُدخله إليها بالكامل، فيصبح مسجونا فيها وهو لا يعي ذلك، فكل من يستعمل تيك توك لا يدرك أنه داخل المصفوفة، وغيرهم من تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة.
هذا المقال لا يدّعي أنه قد ألمّ بكل مواضيع الكتاب، بل هو حثّ للأصدقاء ليطالعوه لأنه من الكتب الثقيلة جدا والصادمة بالحقائق، دون أي استعمال لنظرية المؤامرة أو ما شابه، بل هو كتاب فلسفي واجتماعي بحت.

المقال 336
#عمادالدين_زناف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ابن بطوطة.. الذي لم يغادر غرفته

ابن بطوطة، الرّحالة الذي لم يغادر غرفته. مقال عماد الدين زناف. ليسَ هذا أول مقال يتناول زيفَ الكثير من أعمالِ المؤرخين القدامى، الذين كانوا يكتبون للسلاطين من أجل التقرّب منهم، ومن ذلك السعيُ للتكسّب، ولن يكون الأخير من نوعه. الكتب التاريخية، وأخص بالذكر كتب الرّحالة، هي عبارة عن شيءٍ من التاريخ الذي يضع صاحبها في سكّة المصداقية أمام القارىء، ممزوجِ بكثيرٍ من الروايات الفانتازيّة، التي تميّزه عن غيره من الرحالة والمؤرخين. فإذا اتخذَ أحدنا نفس السبيل الجغرافي، فلن يرى إلا ما رآه الآخرون، بذلك، لن يكون لكتاباته أيّ داعٍ، لأن ما من مؤرخ ورحّالة، إلا وسُبقَ في التأريخ والتدوين، أما التميّز، فيكون إما بالتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي، أو بابتداع ما لا يمكن نفيُهُ، إذ أن الشاهد الوحيد عن ذلك هو القاصّ نفسه، وفي ذلك الزمن، كان هناك نوعين من المتلقين، أذن وعين تصدق كل ما تسمع وتقرأ، وأذن وعين لا تلتفت إلا لما يوافق معتقدها أو عقلها.  الهدف من هذا المقال ليس ضربُ شخص ابن بطوطة، لأن الشخص في نهاية المطاف ما هو إلا وسيلة تحمل المادة التي نتدارسها، فقد يتبرّأ ابن طوطة من كل ما قيل أنه قد كتبه، ...

مذكرة الموت Death Note

إذا كُنت من محبّي المانجا و الأنيم، من المؤكد أنه لم تفتك مشاهدة هذه التُّحفة المليئة بالرسائل المشفّرة. هذا المسلسل اعتمد على عدّة ثقافات و إيديولوجيات و ارتكز بشكل ظاهريّ على الديكور المسيحي، في بعض اللقطات و المعتقدات. المقال الـ104 للكاتب Imed eddine zenaf / عماد الدين زناف  _ الرواية في الأنيم مُقسّمة الى 37 حلقة، الشخصيات فيها محدّدة و غير مخفية. تبدأ القصة بسقوط كتاب من السّماء في ساحة الثانوية موسوم عليه «مذكرة الموت» ،حيث  لمحه شاب ذكيّ يُدعى ياغامي رايتو، و راح يتصفحه، احتفظ به، رغم أنه أخذها على أساس مزحة ليس الّا، و بعد مدّة قصيرة اكتشف ان المذكرة "سحريّة"، يمكنه من خلالها الحكم على ايّ كان بالموت بعد اربعين ثانية من كتابة اسمه و طريقة موته بالتفصيل. لم تسقط المذكرة عبثاً، بل اسقطته شخصية تُسمى ريوك، من العالم الآخر، وكانت حجة ريوك هي: الملل والرغبة في اللعب. كلُ من يستعمل مذكرة الموت يطلق عليه اسم " كيرا".  بعدها تسارعت الأحداث بعدما أصبح "كيرا" يكثّف من الضحايا بإسم العدل و الحق، فقد كان منطلقه نبيلاً: نشر العدل و القضاء على الجريمة في الأرض....

أخلاق العبيد، نيتشه والمغرب الأقصى

مفهوم أخلاق العبيد عند نيشته، المغرب الأقصى مثالا. مقال عماد الدين زناف. فريدريش نيتشه، حين صاغ مفهومه عن «أخلاق العبيد» في مُعظم كتبه، لم يكن يتحدث عن العبودية الملموسة بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي، أو بمعنى تجارة الرّق. بل تحدّث عن أسلوب في التفكير نِتاجَ حِقدٍ دفين وخضوع داخلي يولد مع الأفراد والجماعة. إذ بيّن أن الضعفاء، العاجزين عن تأكيد قوتهم، اخترعوا أخلاقًا تُدين الأقوياء، فرفعوا من شأن التواضع والطاعة فوق ما تحتمله، حتى أنها كسرت حدود الذل والهوان. ومن هذا المنطلق يمكن رسم موازاة مع خضوع شعب المغرب الأقصى لنظام المخزن. إذ أنها سلطة شكّلت لعقود علاقة هرمية تكاد تكون مقدسة بين الحاكمين والمحكومين. وما يلفت النظر هو أنّ هذا الخضوع لم يُقبل فقط بدافع الخوف والريبة، بل تَمَّ استبطانه كفضيلة بل وعمل أخلاقيًا. فالطاعة أصبحت عندهم حكمة، والعبودية وَلاءً، والاعتماد على الغير، أيًّ كانت مساعيه في دولتهم عبارة عن صورة من صور الاستقرار. نيتشه قال «نعم للحياة»، لكنها استُبدلت بـ«لا» مقنّعة، إذ جرى تحويل العجز التام على تغيير الظروف إلى قيمة، وتحويل الذل إلى فضيلة الصبر، وعندما عبّر قائلا...