الحدسُ الكاذِب.. فِخاخ الذكاء البشري.
الحدس مَلَكة إنسانية وحيوانية، تُسمّى الغريزة عند هذا الأخير، وقد نُعنا بها أيضاً إذا اعتبرنا أنفسنا من نفس عائلة الأحياء فوق الأرض، دون فوارق فاصلة. غريزة الحيوان أعلى حَيويّة بكثير من غريزة الانسان، لأن الحيوان معرّض للخطر بنسبة كبيرة جداً، ذلك أنه عاجز على تحليل الحِيَل غير المُباشرة، الحيوان عاجز على تحليل مفهوم الكذب. إذا كان الكذب وسيلة إنسانية بَحتة، فهو بذلك يملك الأفضلية دائماً، توقّع الأشياء، وعدم تكرار التجارب السّابقة. قد يكون لبعض الحيوانات ذاكرة غريزية حيويّة عالية، تجعلهم يتذكّرون الخطر، لكنّها لا تكفي كي لا يقعون في فخّ تكرار المُخاطرة، ذلك أن غريزتهم هي التي تتولى قيادة سلوكهم، وأن فكرة عدم القيام بالواجب الغريزي لا تخطر في بالهم للحظة. وقد تربط بين الانسان والحيوان في هذه النقطة، حيث ان هناك أصنافاً من البشر تتحرّك غرائزياً، رغم مَعرفة العواقب، وكذب الواقع الذي يعيشونه، الا انهم يصمّمون على تكرار التجارب. الشيء الذي يفكّ الرباط مُجدّداً بين الانسان والحيوان، هو الضمير، النّدم، الحسرة، الغضب من الذات، الحزن العميق، الشيء الذي لا يشعُر به الحيوان إذا ما كرّر تجربته الغرائزية وفشل فيها، أو كاد ان يفقد حياته عند فعلها، ذلك أنه لا يرى نفسه الا في تلك الأفعال، بتلك الطريقة. أما الانسان، فهو يملك الاختيار في القيام بأمور أخرى، بأقلّ مجازفة، وأكثر دقّة.
يتعالى الانسان عن سائر المخلوقات بملَكة التفكير فيما سيأتي وتوقّعه والقدرة على تفادي المخاطر في كل مرة، عدم القيادة في حال ضباب كثيف، المشي فوق الرّصيف، النظر يميناً وشمالا قبل قطع الطريق، عدّ النقود بعد اشتراء الأغراض، والنظر فيما كان طرحُ البائع صحيحاً. كلها سلوكيات إنسانية لا يتقاسمها مع أي مخلوق، غير ان حماية هذه القدرة لهُ تبقى نسبية، أمام نسبة نباهة عالية من انسان آخر مثله، أو أمام حيوان يستعمل أسلوب المباغتة، فالعديد من البشر يتوقّعون المخاطر بالحدس البشري للأشياء، بينما يجب أن يفكّروا أيضا من وجهة نظر وغريزة الطبيعة أيضاً.
الانسان يترك لنظيره الانسان فرصة اثبات أنه أمين ومُخلص، يترك مجالاً للشّك في نواياه ومقاصده، يترك له مساحة التعبير عن كينونته وعن أفكاره، مجال ليستعمر كثيراً من مساحته الحيوية، قد يقاسمه غرائزه، وقد يقاسمه مشاعره، نستطيع القول ان الانسان له خاصية تسليم نفسه للإنسان الآخر دون أي خوف، أو على الأقل ليس دون مبرّر فعلي. ذلك ما لا تجده عند أغلب الحيوانات، أقول أغلبها لان الحيوانات الأليفة قد طوّرت مع مرور العصور غريزة التأقلم مع الانسان ومحيطه، لمصلحتها الباطنية الحيوية، للتكاثر والأكل بأمان، قد تعتبر الانسان حيواناً مثلها، حيوانٌ غير مؤذٍ. الحيواناتُ غالباً لا تُصادق بعضها الا نادراً، تتربّصُ لبعضها، تُهاجم بعضاً بأبشع الطُرق، هي لا تكذبُ لا في حقدها ولا في مودّتها، هذا ما يُفسّر تسليم الحيوان نفسه للإنسان المُسالم، تسليماً كاملاً، أو، مثل الجوارح والنمور، تسليما مؤقّتا قبل أن تُمزّقه في ساعة الحاجة، وذلك لا يُعدّ كذباً، اذ أن الحيوان لا يَعدُ أحداً، ولا حتى الحيوان الآخر.
يعتقد الكثير من الناس أن الثقة الإنسانية جزءٌ من ضُعفه ورحمته، غير أنها أمرٌ طبيعي لا يُمكن تجاوزه، فقد طوّر الانسان من نفسه ومن محيطه بثقته الكاملة بعشيرته وأهله. لا يمكن أن تتصوّر أن الأم أو الأب، في عالم الحيوان، قد يترك أبناءه لحيوان آخر لكي يدافع عن محيطه في الغابة، ذلك أن ليس هناك اتّحاد بينهم لحماية رقعة ما، وان حدث، لن يأتي غسق ذلك اليوم الا وتصارعوا ضد بعضهم لمن يملك ويقود تلك المساحة.
ما الحدسُ غير الشعور بأن الآخر يخبئ شيئاً مريبا لا يعكسُ سلوكه الخارجيّ، وما هو غير أننا نشعر بأن الامر سينجح رغم كل العوامل المادية التي تشير الى عكس ذلك، الحدس أعلى درجة من الغريزة، لكن الغريزة أكثر فاعليّة وأكثر منطيقّة من الحدس. ذلك أن الغريزة الحيوانية تعتمد على عوامل سلوكية متكاملة الأركان قبل الشروع في الهجوم، أو الهروب، أو التزاوج، أو المكوث. لكلّ صنف من الأصناف الحيوانية قواعِدَ دقيقة للقيام بخطوات حيويّة، الغريزة الحيوانية، بمنظورنا البشري، هي عمليّة علميّة، وليست عمليّة تخمينيّة، لا يُخيّل للحيوان الخطر، أو السّكون والراحة، بل هو يجزم بذلك، وبالأدلّة.
بينما يستعمل الانسان في حسه على بعض الأمور، غالباً ليس لها أي أساس علميّ ولا مادّي، أغلب حدسيات الانسان ترتكز على الخبرات والتجارب، ودوافع نفسية عميقة مثل الخوف والرهاب، أو سوابق علمية.
ونحن نعلم علماً يقيناً أن الذي يعلم، غير الذي لا يعلم، فالذي يستعمل الحدس، سيعتمد على كل ما كسب، وسيعتمد أيضا على كل ميوله النفسي ودرجة رهابه وخوفه أو أمله وتمنياته، واذا افترضنا أن الفوارق الانسية تكمن في درجة قربه من الصواب في كل مكتسباته وخبراته ومشاعره، فانّه حدسه في صواب كبير اذا ما كانت معدلات الأمر التي ذكرتها مرتفعة، وفي خطر كبير جداً، اذا كانت معلوماته خاطئة، تجاربه سيّئة، مع اعتماده على مخاوفه التي قد تكون اضطرابات نفسية عميقة وليست واقعاً، زيادة على رغبته في حصول ما يضنّهُ حدساً وليس الهاماً كما يريد أن يتصوّرهُ!
ان ما أكتبهُ لكم ليس الا محاولة وضع الحدس في مكانه الصحيح، وليس الاستغناء عنه، لأن الاستغناء على ملكة الحدس، هو استغناء عن الذكاء البشريّ. لكن علينا أن نعلم بأننا لسنا سواسية في فهم الأمور، وفي درجة الذكاء، وأن الأنا هي غالبا ما تتحكم في حدسنا، تمنيّاتنا قد تشوّش لنا الواقع، وتجعلهُ تجسّد أمامنا كما نطمح أو نهاب، فنخطئ خطئا فادحاً.
#عمادالدين_زناف
المقال 254
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق