التنميط، بين العفوية والاستعمال المتباين.
(المقال تفكيكي وبّناء.)
في هذه الصورة رسمة لي، لمُمَثّل ليس بتلك الشّهرة عند الشباب، نستطيع أن نُسمّيه مُمَثّل ما قبل نيتفليكس. هو ماندي باتينكين، المعروف بدور المُحلل النفسي السلوكي جايزون جايدن في أوّل مَوسمين (2005- 2007) من مُسلسل العقول الاجرامية، Esprits Criminels.
سلّط كلٌّ من المخرج والمساعدين وكُتّاب السيناريو الضوء على ما يُسمّى بتنميط الجاني، فقد كانت كل مواسمه عبارة عن مُلاحقة المجرمين، خاصة منهم القتلة المتسلسلين، بطريقة ما يسمى التنميط، ينقسم الفريق الى عملاء متخصصين في مجال معيّن، على سبيل المثال، نجد منهم من هو متخصّص في التحركات عبر المواقع الجغرافية، وفي السوابق العدلية والاجتماعية، في أنواع الجريمة (عاطفية، انتقامية، رُهاب، ساديّة..)، الاحصائيات وما يُعلم في الموضوع (مثلا في مُجرمي الحرائق)، وكذا طبعا تحليل السلوك الجسدي للمُجرم، أو السلوك النفسي. نقاط التشابه بين الضحايا هو أهم ما يوصل هؤلاء للجاني عادةً، فالمُجرم ورغم عبقريّته، لا يمكنه الا أن يُرضي رغباته، التي غالباً لا يمكنه مقاومتها، وبالتالي، فهو عادةً يكرّر نفس الأساليب والسلوكيات في كل مرّة، هذا ما يَدعو في كثير من الأحيان لاستعمال التنميط، عوض استعمال الأساليب التقليدية مثل البحث عن البصمات والدلائل الملموسة.
عملية التنميط، أو ما يُسّمى عند الغرب بالـ Profilage، هي طريقة علمية في تشريح الشخصية التي تستوجب علينا هذا، أو مجموعات معينة مثل العصابات أو الطوائف الايديولوجية، أو في نطاق أكبر، الدول والحكومات والمجتمعات. وقد استعملت عدة دول قوية عمليات نفسية مُعقّدة، وتجارب غير إنسانية، مثل تجربة ستانفورد، وأخرى طُبّقت في سجون أبو غريب في العراق، للوصول الى تفاصيل النفسية الإنسانية وكيفية التحكم فيها بدقّة ودون خطأ. وعلى إثر ذلك التنميط، استعمل الخبراء النفسيون التابعون للدولة العظمى أشياءً مثل العلاج بالصّدمة، خاصة فيما يخص الاقتصادات، واستعملوا أيضا القوة الناعمة فيما يخص تمرير الأيديولوجيات، ومازالت هذه الأمور تعمل الى يومنا في صورة المواقع الاجتماعية.
أما التنميط في عالم الاجرام، فقد ظهر في خمسينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، على يد الدكتور جايمس بروسل، الذي استعانت به الشرطة بعد سلسلة تفجيرات في قاعات السينما بنيويروك بين سنوات الـ40 الى الـ56، وبتحديد نمط المجرم، تم القبض عليه أخيراً. ومع نجاحها في كل مرة، الا ان القُضاة لا يعتمدون على أدلّة هؤلاء المحللين، لذلك فهم يعملون بجهد للوصول الى الأدلّة الكلاسيكية (بصمات وآثار) لكي يستطيعوا تحويل المُتّهم الى القضاء، فالحدس والمنطق التحليلي والذكاء لا يعتبرون دليلاً علميا، خاصة في أمور حساسة مثل القضاء، رغم كل ما يشير لنجاحهم.
قبل الحديث عن التنميط في حياة البشر، يمكننا تقسيمه الى نوعين، تنميط تخميني، أي يعتمد حصراً على حدس وذكاء وتجارب المحلّل السُلوكي، وهذا ما نجده في مسلسل The mentalist، أين يعتمد بارتيك جاين عن ذكائه الجينيّ في حل القضايا، بينما هناك تنميط علمي الذي تكلمت عنه في بداية المقال، وهو نقيضه، رغم انهما يفضيان الى نفس النتيجة ما لم يقدمان الأدلة الملموسة، الا ان التنميط العلمي لا يُمكن الا التسليم له كليا، أما التخمين، فلا يمكن الاعتماد عليه الا برغبة شخصية في تصديقه، أو تكرار نجاحاته في المجال.
نحنُ نقوم بهذا كل يوم، نحلّل ونقوم بتنميط كل الأشخاص، هذه الدراسات السلوكية تعمل على استكشاف القوانين والمبادئ التي تتحكم في سلوك الأفراد، الا اننا نقوم بهذا بشكل عشوائيّ، وغالباً، بشكل غير علمي، فكلّ تحليلات الناس أساسها غير موضوعي، فالجميع يعمل على حماية ذاته أولا وقبل كل شيء، وهذا ميكانزيم نفسي دفاعي مهم جداً، لأننا إذا وثقنا بالمجهول، فالعواقب تبقى حبيسة الحظّ، ولسوء الحظّ، الأمور والمشاعر السيّئة منتشرة أكثر من الأمور الطيّبة. كذلك هناك من يقوم بتنميط ضحاياه، بمعنى انه يدرس نوعية الأفراد التي يريد التحكّم فيها لأغراض تجارية، مثل روّاد التنمية والتطوير وتجّار الانستاغرام وكل ما هُوَ مُغري للناس فاقدي البوصلة، أو لإشباع رغبات جنسية فيما يتعلّق بالمنحرفين. ذلك أن التنميط عمليّة طبيعية متواجدة في كل ما هو حيّ، فالتأقلم على سبيل المثال، هو أسلوب الحيوانات والنبات في تنميط المحيط قبل المكوث فيه.
هل التنميط عمليّة شرّيرة أم خيّرة في نهاية المطاف؟ -العلم بشكل عام، لا يخضع للتقييم الأخلاقي، بل ما يُفعل به هو الذي يخضع لهذا، اذ أن كل اختراع تكنولوجي في كلّ مجال هو تقدّم انساني لا يمكن الا الافتخار به، لكن الغرض منه هو ما يجعله خيراً أو شرّاً، كذلك استعمال الذكاء والعبقرية لأغراض معينة، إذا كانا في خدمة الحق فها أمر مُبارك، وإذا كانا في خدمة الشّر فهما ما نسمّيه بالشيطانيّة. وفي سبيل تحقيق الرغبات، لا يقف العديد من البشر عند الخير والشر، فهم يُوظّفون التنميط غالبا في التحكّم في الناس. لكنّ التنميط في ذاته وسيلة مُميّزة بل وأساسية في تحقيق الأهداف النبيلة، فمن له تجارة معينة او منصبه يقتضي منه الكتابة والكلام، هو مطالب بعمليّة تنميط من يُوجّه لهم الحديث، فمن غير المعقول أن يكتب في الجريمة فب أدب الأطفال، ولا في قصص الأطفال للراشدين.. على سبيل المثال.
تحديد الأهداف الشخصية هو أساس كل مشروع ناجح، لكنّ الأساس لا يكفي، فالأعمدة هي البداية فقط لبناء منزل، المنزل يحتاج لمختصّ في تركيب الغاز، والخيوط الكهربائية، وانابيب المياه، والطلاء، وقبل كل هذا، لهندسة مُميّزة حسب الغاية والميول.
#عمادالدين_زناف
المقال رقم 250 🏅
#عمادالدين_زناف
المقال رقم 250 🏅
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق