التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المشاركات

عرض المشاركات من مايو, 2022

ثورو والفلاسفة دون فلسفة

”في يومنا، لا يوجد سوى أساتذة يملون الفلسفة على التلاميذ، ولا يوجد فلاسفة“.  هنري ديفيد ثورو من أبرز الفلاسفة الأمريكيين في القرن التاسع عشر، عُرف عنه حبّه للفلسفة القديمة، الفلسفة التي لم تطلّق الجسم والطبيعة، بل تتناغم معهم بشكل يجعل من الفيلسوف حالة، وليس نظريّة وقواعد تُدرّس. عيش ما نُفكّر فيه، تطبيق فلسفتنا، هو ما جاء في فلسفة ثورو، الرجل الذي انتهى به الحال في بيتٍ منعزل ببُحيرة بعيدة، لكنه كان بعيد المسكن، لا منعزلَ الناس، بعيداً عن النظام والسياسة، لا منقطعاً أناركياً.  لم يكن يدعو للتمرًد الفوضوي، بل لتجسيد كل فكرة وإصلاح وفلسفة. الفلسفة بالنسبة لثورو هي برنامج حياة لا يُحكى، بذلك، الفيلسوف الحقيقي ليس من يسرد ما قيل عن الفلسفة، بل ذلك الذي يسعد ببرنامجه الحياتي الذي بناه على أسس فلسفيّة متكاملة.  الفيلسوف هو الذي يستطيع تجسيد فلسفته بالنسبة لثورو. ليس على الإنسان أن يتقن مفاهيم مُعقّدة، ولا تفاصيل الميتافيزيقا، ولا الانطواء بعيداً، بل عليه أن يتحلى بنفس فكرة الرواقيين والآبيقوريين في جعل الفلسفة نظام حياة يومي. بالنسبة له، ميشيل دي مونتين مثال رائع للفيلسوف الذي...

أسرارُ المثقفين

"أسرار" أشهر المُثقفين في العالم! جميعنا نريد أن نملك تلك القدرة على الخَطابة والبلاغة والمحاجّة مع النباهة اللازمة والكاريزما التي تُغلّف كل ذلك، لكنّنا بين نارَين، أو لنقل بين كِذبتين أساسيّتين، الكِذبة الأولى التي تقول بأن الجميع قادر على فعل ذلك، كل ما علينا هو تعديل البرمجة العصبية لدينا ببعض التمارين والعادات الذريّة الكونية "الطاقَوية"، طبعاً علمتم عن من أتحدّث، أصدقائي منظمة "التغبية" البَشرية بكل فروعها. والكِذبة الثانية هل بالقول إن كل شيءٍ مقرون بالموهبة، فالموهوب لا يحتاج إلى التعب أو الدراسة أو الاجتهاد كي يصل إلى ما وصل إليه، وقد يحجونكَ بليونيل ميسي عبثاً، كأن ميسي لا يتمرّن ولا يجتهد على نضامٍ صحّي ليحافظ على لياقته.  في هذه المقالة، سأخبركم بأشياء اجتهاديّة يقوم بها المُثقفون الحقيقيّون، وضعي لـ "أسرار" كانَ لإثارة الانتباه لا غير.  أوّلا، يتّفق مُعظم العلماء والفلاسفة والفقهاء والباحثون بأن التركيز على المدى الطويل هو السّلاح الفتّاك لبلوغ أي هدف علمي أو فكري أو مبحثيّ، ذلكَ أن مُعظم الناس تنخفض قدرتهم على التركيز وتتلاشى سريعاً...

هوس الإنسان بـ ”الأنف“

ما سرّ تركيز العالم على جمال الأنف؟  وما الرسائل النفسية والعلمية والثقافية التي يُخبرنا بها أنف الآخرين؟ أوّل ما يكرهُه العديد من البشر في أنفسهم [صورتهم] هو أنفهم، أكثر من أي شيءٍ آخر مثل البدانة أو الصلع أو أمور أخرى. لأوًل وهلة، نعتقد أنه أمر مُتعلّق بالـ ”إستيتيك“، البحث عن اكتمال الحُسن.  فكرة اكتمال الحُسن وتقعيد قوانين وأبعاد خاصة له جاء بها الفيلسوف ألكسندر جوتليب بومجارتن، فقد أسس علم الجمال وعمل على تشييع نموذج عام ليُميز الناس الجميل من القبيح، ليس حسديا فخسب بل فكريا وروحيا وعمليا، الفكرة التي عارضها كانط أخلاقياً. لكن في الواقع، عدم إعجاب الفرد بأنفه أو بأنف غيره يحمل خبايا أخرى.  في سن المراهقة، السن الذي كنا نريد أن نبدو فيه بظهر جميل، في المتوسطة والثانويو، لم يكن أحسن سنوات حياتنا أنفياً، ذلك أنه سن الانتقال إلى مرحلة البلوغ وما تصحبها من حبوب وتغيرات فيزيولوجية غير متناسقة، شعر جعد، أنف كبير يتوسطه حب شباب أحمر فاقع.. كلها صور لم تسعادنا على كسب جرعة من الثقة في أنفسنا. هذه العقدة الصغيرة لاحقتنا بعد ذلك، إذ أننا كنا ننتظر تغيرا، وبالفعل العديد من الناس يتغيرون للأحس...

الكربون 14 والتاريخ

عودة للمقالات العلمية المشوّقة! ما هي قصّة كربون 14؟ يعرفهُ المختصّون على أنه وسيلة لقياس عُمر مُعظم الأشياء والحفريات، على أنّهُ ليس الوحيد في هذا.   كربون 14 يعمل على تأريخ المادة، فهو الوسيلة لإعطاء أقرب مُدّة ممكنة من تواجد هذه الأخيرة في الأرض، لكن دعونا نفكّكه للتقريب! الذرات المُحيطة بنا تحتوي على نواة ذرية تُدعى بروتون ونيترون وما حولها تُدعى الإلكترونات. في الحالة القاعدية، عدد الإلكترونات يساوي عدد البروتون، إذ هو ما يُحدد الطبيعة الكيميائية للذرة! أي، العنصر المحدد في الجدول الدوري للعناصر الكيميائية. مثلا، إذا كان هناك 2 بروتون فيُسمى الهيليوم H2e، 6 بروتون يُسمى كاربون C6، 8 بروتون يسمى الأكسيجين O8. بالنسبة للنيترون فالأمر مُختلف، عدد النيترون في الغالب يساوي عدد البروتون، غير أن هناك عدّة مُتغيّرات للعناصر، وتُدعى النظائر Isotopes، فإذا أخذنا الهيليوم كمثال، نجد أن نواته ثابتة البروتون (2 بروتون) لكن النيترون متغير من 1 إلى 8.  نجمع هذه النظائر ونُرقّمهم بعدد البروتون والنيترون.  نظريا هُناك العديد منها، لكن واقعياً، هي أقل بكثير، وغالبيّة النظائر الوا...

عدنان إبراهيم، بين الفكر والأحجية

إن المُطّلع على أحوال الفكر العربي والإسلامي ومُفكّريهِ حديثاً، لا يكاد يجد ما يشفي فضوله الكامل والشامل حول عدّة قضايا نفسية واجتماعية وعلمية وفلسفية وعلاقتهم المباشرة وغير المباشرة بديننا وتعاليمه، وتراثنا الفكري الإسلامي، العلاقة بين الماضي والحاضر والتطلّع على المستقبل. إلا أنّ هناك مُفكٍّر فلسطيني برَزَ منذ سنوات على منصة التواصل يوتيوب بخُطبهِ ومُحاضراتهِ وآراءه في عدّة قضايا مُباشرة وفرعيّة كانت وما زالت عُرضة للمساءلة في أذهاننا، العديد من المسلمون كانوا يتحرّجون من البوح ببعضها، نظراً لقِصرِ اطّلاعهم في تلك المواضيع "الضخمة". من منا لم يُصادف أحد مقاطع الدكتور عدنان إبراهيم، حول مواضيعَ مُربكة مثيرة لردود الفعل المُستحسنة والمُستنكرة، العديد منا قد اكتشفهُ بطرقٌ مُلتوية، عبر ردود الدكاترة الآخرين عليه، أو، هناك من كان يتعقّبُهُ منذ سنوات طويلة، فهو ناشطٌ في النمسا لأكثر من عشرين سنة. لن أستطيع مناقشة أفكار الدكتور عدنان إبراهيم في مقالة واحدة، ولا في عشرات المقالات، لأن المواضيع التي تناولها تكبُرُني، وتحتاج من كلّ فرد أن يجلسَ لها طويلاً، وهذا النوع من المناقشات يتع...

ما العلم والعلماء اليوم؟

العلم لا يتحرّك، البُحوث هي من تفعل! العالم لا يَقول وجدتُ، بل يقولُ وجدنا، ولا يقولُ سأبحثُ، بل يقولُ سنبحث، فالعالم لا يتحدّث عن أمرٍ يخصّه، بل عن شيء يخصّ الإجماع العلمي. القضيّة ليست في الخطأ العلمي، بل في التعامل مع الأبحاث العلمية بطريقة غير موضوعيّة.  العلماء لا يبحثون عن العلم، بل يبحثون في العلم، لذا علينا أن نعلم بأن العلوم غير مكتملة في ذاتها، بل هي تشبه القارورة التي تمتلئ شيئا فشيء بالأبحاث العلمية، والأبحاث العلمية قبل أن توضع في القارورة تخضع للتقطير والتصفية عن طريق المخابر، وقبل ذلك، عليها أن تكون أبحاثاً علمية بالأساس، وليس عبارة عن مقالات رأي. فالباحث عليه أن يدرسَ أسس البحث العلمي والمنهجية في الطرح العلمي، قبل العرض.  النقد في العلم هو أكثر شيء تعرّض للابتذال، قد يكون أحد أسباب هذا الابتذال هو شدّة التقارب بين العلم والعلماء مع المجتمعات، عكس ما كان عليه في السابق. ذلكَ أننا نجد أن عامّة الناس، أي غير المختصين ينتقدون الأبحاث العلمية بالميول العاطفي والحدس والرّغبة والانحياز المعرفي، وليس نقدا مبنيا على أبحاث علميّة أخرى تناقض الأبحاث الأولى. والمشكلة هُنا...

معنى التاريخ، هيجل وبن خلدون

معنى التاريخ، في الفلسفة الهيجيلية والخلدونية!  عندما نقرأ التاريخ من مصادره المتعددة، نكتشف شيئاً فشيء بان للتاريخ حركتين واضحتين، الأولى هي التغيّر، دون أن نحدّد إن كان ذلك تغيّراً جيّداً او سيّئاً، ذلكَ أن التاريخ كعلم لا يخضع للنظرة الأخلاقيّة، القول بأن التغيّر هو نفسه التطوّر، يعني أننا أخذنا انحيازاً في النظرة التاريخيّة، ورغم أن التطوّر في ذاته لا يعني تطوّراً إيجابيا، لكن ومع ذلك، يُعتبر مصطلح التطوّر انحيازاً معرفياً. التأريخ عمليّة حسّاسة ومُعقّدة، كذلك النظرة إلى التاريخ تعتبر عملية صعبة ومُعقّدة، وأعقد ما فيها أن يتجرّد الدارس من كل عواطفه ليتقبّل الحقائق بعدَ جمعِ المصادر. بالنسبة للفيلسوف الألماني، التاريخ خاضع لتسلسل زمني، ولا يمكن بأيّ حال أن نحكم على تاريخٍ مُعيّن من منطلق تاريخ آخر بعده، في ظروف وإمكانيات أخرى، يقول، أن ذلك التحوّل والانتقال التصاعدي التاريخي يجب ان يبدأ من نقطة دُنيا ويتصاعد، فهذا هو السبيل الوحيد الذي يعطي للتاريخ معنى ووجهة ومُستقرّ.  فلن يُفكّر الصّبي كالبالغ والكهل، والتفكير هثنا، ليس هو الذكاء والفطنة، إنّما التفكير على أسس التجارب، حي...

تحول الذكاء إلى غباء

عندما يُصبح الذكاءُ غباءً! كثيراً ما نُخلطُ بين الحكمة والثقافة والقدرة على الفهم والتركيز والقدرة على الحفظ والإدراك وغيرها من الأمور التي نجمعها غالباً في "الذكاء". من الصّعب ان نُعرّف الذكاء بالمُطلق، فكلّ العلوم تُعرّفه بنظرتها، علم الأعصاب مثلا يُعرّف الذكاء بأنهُ القدرة على الحركة العصبية السريعة في الدماغ، ما يُنتج استيعابا سريعا للأمور، في البيولوجيا، الذكاء هو القدرة على التعايش في أحلك الظروف الطبيعية، في السياسة، الذكاء هو القدرة على الاستشراف والتوقع، القدرة على تحليل الاحداث الماضية، واسقاطها على الحاصر ومن ثم الانطلاق وتوقع الأمور المقبلة، وذلك يعتمد على أدوات أخرى زيادة على الذكاء، مثل المطالعة.  في الفلسفة، الذكاء يكمن في المهارة في طرح الأسئلة واعطاء الأجوبة، القُدرة على الإقناع. أما في علم النفس، فالذكاء متفرّعٌ كثيراً، ذلك أن علم النفس يفكك الذكاء بين المكتسبات والأمور التي نتعلمها، بين المهارات وبين الخداع، بين الذكاء الرياضي والذكاء الاجتماعي والذكاء العلمي، والذكاء العاطفي، والذكاء التربوي عوالم وتباعد، ذلكَ أنّ الذكي علميا ليسَ بالضرورة ذكي اجتماعيا، فق...

لا أحد يفكر من نفسه

لا أحد يفكّر من نفسه، لا أحد.  السؤال الذي يتكرّر علينا دائما هو "لماذا لا تفكّرون من أنفسكم"، " لماذا تشيرون إلى المفكرين والفلاسفة والعلماء والمؤرخين"، "كما فكّروا هُم، فكّروا أنتم"، إلى آخره من الملاحظات التي تأتي من حينٍ إلى آخر.  قبل البداية في شرحِ لمَ لا يوجدَ أحد فوق الأرض يُفكّرُ من نفسه، علي أن اوضّح أن الكُتّابُ ثلاثة أنواع، النوع الأوّل الكاتب النبيل، الذي لا يسرق أفكار الأولين والآخرين، المشهورين منهم ولا المخفيين، النوع الثاني الذي لا يتذكّر من قال هذه ومن قال الأخرى، يتذكّر الأفكار العامّة ولا يكرّر نفس أسطر الجميع، كاتبٌ لا يتعمّد السّرقة، لكنه لا يجتهد في البحث عن أصول الأفكار، والنوع الثالث، الكاتب السارق، الذي لا يشير إلى مفكر ولا عالم ولا فيلسوف ولا مؤرخ إلا خُصاصة، عليكَ أن تحذر من الذي لا يذكر أهل الفكر، ذلكَ أنك أمام سارق مُحترف، يُريد أن يظهر بمظهر النبي الذي يوحى إليه.  التفكير من الذات يعني التفكير من خارج هذا العالم، من خارج الكون، ذلك أن الذي يعيش في كوننا هذا متأثر بتتابع الأفكار والتاريخ والثقافات والحضارات والأمم، مُلزم بتجار...

الاستياء من النجوم

الاستياء.. أو ذلكَ المرض العُضال.  لا يرى الناس في الاستياء عيباً، بل يبرّرون هذا الشعور في أنه طبيعة إنسانية، ذلكَ أننا نمل سريعاً ونريدُ أشياء أخرى. لستُ أعارض هذا التعريف، هو فعلاً شعور إنساني، والإنسان ملّال بطبعه، غير أنه تعريف ناقص، الاستياء شعور إنساني يتطوّر سريعاً إلى عادة مرضيّة. سأشرح سبب اختياري لهذا الموضوع. كُنتُ أتابع إيلون موسك منذ مدّة، تعرفونه، الرجل الذي تجيدونه في كل مكان ويملك كل شيء يريده. تحدّثتُ عنه في كتابي الشفق، حول النيورالينك وأبعادها وتوابعها على الإنسان. عالجتُ وانتقدتُ هذه القضية من الجانب العلمي فقط، ذلكَ أنني لا أخفي إعجابي بشخصيته وطريقته الساخرة. طريقة تعاطي الفرد مع شخصية علمية أو فكرية أو مسؤولة تحتاجُ لبعض من الذكاء والفطنة، ذلكَ أن الإعجاب المُبرّر والحكيم، ينتجُ فائدة وتفريق بين الشخص وأفكاره، أما الإعجاب العشوائي والمتهور ينتج استياءً وكرها. أذكر هذا المثال، لأنني أجد أن الكثير من الناس يُعجبون بشخصية ما بشكل عشوائي غير مُبرّر فكريا ولا علميا، أي غالبهُ إعجابٌ بالشخص ذاته، وليس بما يقدّمه، وحتى لو كان الإعجاب حول ما يقدمه، فغالبا يكون إعجاب...

التارديغراد وحدود القوة

التارديغرادا حيوانٌ لا يُقتل ولا يُرى ولا يحتاج شيئاً للعيش.. مُرعب أليسَ كذلك؟  الرعب الحقيقي لا يكمن في الأمور التي نُدركُ أنها مرعبة سلفاً، ولا في الأمور التي نريد أن نخلع حجاب الغموض عنها، فلا مفاجئة عندما نتصوّر الأسوأ والأغرب، لكن في العلم، الرّعب أكبر بكثير، عندما تكتشفُ أن كائنا مجهرياً أقوى من كل الكائنات فوق الأرض، بسنين ضوئيّة. سوفَ أقسّمُ هذا المقال إلى الشق العلمي كبداية، ثم الشق الديني، ثم الفلسفي والاستنتاج.  اكتشف العالم الألماني يوهان أوغست جويزي هذا الكائن الحي سنة 1773م، لكنّهُ لم يكن يعلم قوّة هذا الكائن، فقد عملَ على تصنيفه ووصفه. أسماه بعدَ ذلك العالم الإيطالي لازارو سبالانزاني بـ Gradus، والتي تعني الكائن البطيء باللاتينية.  يُعتبر من فصيلة الحيوانات (مفصليّة الأرجل) التي تتضمن كل الحشرات والعنكبوتيات، وكذلك يُصنّف في نوعيات (إكستريموفيل، أليف الظروف القاسية).  لا يتجاوزُ طول هذا الكائن المُرعب الـ1 مم، أو أقل من ذلك! تابعوا معي الظروف التي يمكنهُ أن يعيش فيها بلا أيّة مشاكل تُذكر. درجة حرارة +340° فوق الصفر، و -273° تحت الصفر. يتفوّق على الإنس...