ان من أبرز علامات التدهور والانحطاط الأدبي -اذا ما حصرنا حديثنا عن الأدب- في العالم هو صدارة كُتُب التطوير الذاتي والتنمية البشرية كأكثر الكُتُب مبيعاً. هذه الظاهرة تَشرح مدى نزول المستوى الثقافي عندَ الأفراد والمجتمعات، تشرحُ كذلك مدى الكَسَل الذهني والفكري عند جيل تربّى على تَقليد الآخرين، وكذا نزول قيمة العلوم الماديّة والنفسية وكذا الأجناس الأدبية التي بُنيَت على أسسها الصُّلبة حضارات وشعوب.
انّ تفوّق كُتب التطوير الذاتي على غيرها من الكُتب يُعتبر إشارة على أنّ الأدب يعرفُ تراجعاً مُرعباً من الناحية الفكريّة في كل العالم، وأنّ السّهولة أصبحت المُراد والغاية عند المؤلفين والقُرّاء، بعدَ أن كانت السّهولة شيئاً مُعاباً في كلّ الحَضارات.
في هذا المقال، سأعملُ على هَدم التطوير الذاتي بكل بساطة. اعتماداً على بعض الحُجج العلميّة والمنطقيّة، واعتماداً أيضا بشكل عام على كتاب (التطوير غير الذاتي: نجاح الخَديعة) للمُفكّرة الفرنسية جوليا دي فوناس.
في بداية الأمر، "التطوير الذاتي" ليس بنوعٍ أو جنسٍ أدبي، فلا علم النفس تطوير ذاتي، ولا الفلسفة تطوير ذاتي. هو عبارة عن نصوص نَثرية، عبارة عن مقالات تَصُبّ في نفس الفكرة، عرَف بدايته سنوات العشرين في البدان الأنجلوساكسونيّة، "ترسّمَ" هذا المفهوم كدخيل في سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي الى غاية ظهور ما يسمى PNL (برمجة لغوية عَصبيّة) في سنوات السبعينات، الأمر الذي صعّد وأشهر التطوير الذاتي الى ضعف ما كان عليه.
كما شرحت في مقالٍ سابق عن دجل التنمية البشرية، التطوير الذاتي لا يختلف عنها في نسخ ولصق عدّة أفكار فلسفية ونفسية ودينية بطريقة عشوائية توهم بأن المُتحدّثَ مُلمّ بكل تلك الأشياء، المؤلّف في التطوير الذاتي يضع نفسه محل "المُعالج النّفسي"، زيادةً على أنّهُ لا يملك شهادة في علم النفس، هو يستعمل فوق ذلك ما يُسمّى "علاج نفس المقاهي" psychanalyse de comptoir.
ربّما لا يتعمّد الكثيرُ منهم في مخادعة القُرّاء، قد نجد الكثير منهم يُريدُ فعلاً تقديم شيءٍ ما، لكنّ لا يستطيع التكلّم في الطبّ سوى الطبيب، ولا يستطيع أن يقوم بالجراحة سوى الجرّاح، حتى لو كنا نملك ثقافةً طبيّة، فذلك لا يضعنا في محلّ الطبيب والجرّاح، ولن يقبل أحدٌ أن يتمّ شقّ بطنه أو جمجمته من شخصٍ يملكُ ثقافة طبيّة، مكان طبيبٍ مُختصّ. فلمَ يختلفُ الأمر مع الفلسفة وعلم النفس والفقه؟ لمَ يتساهل الناس في القراء لأشخاصٍ يدّعونا الإحاطة بأشياء تحتاجُ اختصاصاً حقيقيا؟
يقولُ ابنُ رشد، اللحية لا تنصعُ الفيلسوف، ونقول، المئزر لا يصنع الجرّاح، والثقافة النفسية لا تصنع الأخصائي العياديّ.
المؤلفين في التطوير الذاتي يُشبهون مازج الأغاني في الحَفلات، فهُم يظهرون بشكل العارف بالموسيقى، غير أنّهم ليسوا هم المُغنّين، بل كلّ ما يقومون به هو مزج الأغاني مع إضافة تعليقات سخيفة في أغلب الأحيان.
مُحاربة السلبيّة، العمل على التفكير الإيجابي، أو ما يُسمى "علم النفس الإيجابي" هو هدفهم الأسمى، غير أنّ هذه العمليّة تنكر الواقع، وتُبعد صاحبها عن الحقيقة بكلّ أبعادها. نُكران أو استنكار الواقع فكرة عدميّة تقودُ الى الجنون، ونحنُ نرى في العالم الغربي ان محاربة الواقع هو في الحقيقة محاربةٌ للطبيعة، فقد قادَ هذا التفكير الى كُل الانحرافات التي نعيشُ في أحضانها اليوم. مٌحاربة الواقع بالتسويق للإيجابية المطلقة يقود الى تغيير وتحريف الواقع، تحريف العلوم والأفكار والأديان لصناعة واقع جديد يتماشى مع الرّبح المادّي البحت.
عوضَ مواجهة الواقع، يصنعونَ ما يسمى ديكتاتورية الفرح، فرض الإيجابية بالقوّة، عكس الحقيقة التي تتربّع على التراجيديا، أنّ كلّ شيء فانٍ، سواءً كان جيداً أو سيّئاً. هذا ما يُذكّرني في فيلم equilibrium، حيثُ يُصوّر لنا مجتمع المستقبل الذي يَعتمد على تعاطي الحُقن لإماتة كل أنواع المشاعر، وبإماتة المشاعر بالمُطلق، فرحاً كانت أو حزناً، كما يصوّرون، تنتهي متاعب الانسان وخاصة "أحزانُه".
يُقال دائماً ان التطوير الذاتي يُساعد ويُريح القُرّاء، أي يُشعرهم بالتحسّن، فلمَ يتم انتقاده؟
حُجّة " الشعور الجيّد" هي حُجّة سيّئة جداً فلسفياً وحتى دينياً. ذلكَ أن الذي يتعاطى المُخدّرات أو الكحول أو التبغ يشعر كذلك بالسعادة والراحة، المختل يشعر بالسعادة عندما يستفعل بالنساء أو الأطفال. ليسَ لأنّكَ تشعر بالسعادة والراحة يعني أن ذلك الأمر جيّدٌ في ذاته، يقول سبينوزا: لا نختارُ الجيّد لأننا نحبّه، بل لأننا نُحبّهُ سنعتبرهُ جيّدا. إذا حكمنا على كلّ ما نحبّه بأنه أمرٌ جيّد فستكون الحياة سهلةً على الجميع، بل وأسوأ من ذلك، ستصبحُ خراباً حقيقياً، انّ كثيراً من الذي نعتبرهُ جيّدا عن حبّنا لهُ ينقلبُ مضرّا ومهلكاً. باسم الجيّد والمُريح صنع الانسان المآسي في الأرض.
يتغنّى مؤلّفو التطوير بالذات وتطويرها، مُستعملين في ذلك استدلالات فلسفية –في غير محلّها-، كتكرارهم لمقولة منسوبة لسقراط –اعرف نفسك بنفسك-، غيرَ أن فلسفة اليونان لم تَكن تدعو لتطوير الذات بهذه المقولة، بل كانت تدعو لمعرفة الذات وسط المحيط والعالم الذي يحيط بك، وهذان مفهومان مختلفان تماما، فالإنسان الاغريقي الحكيم يبحث عن مكانته في –الكوسموس- ولا يبحثَ على أن يتسيّد الكون. كذاك يستعملون الفكر الرّواقي للتسويق للتأمّل، غيرَ أن الرواقية تخالف منهجهم جذريا، ذلك أن الرواقية تدعو لقبول الواقع كما هو، اما التطوير الذاتي يدفعك على نكران الواقع، الرواقية تدعو الى تجاوز ما لا يمكنك تغييره، بينما التطوير يدفعك على تغيير كل شيء، بمجرّد استعمال حجّة في غير محلها وهي "الإرادة"، هل عليّ أن أشرح بان ارادتك في التحليق لا تكفي كي تطير حقاً؟
يعمل المؤلفون في التطوير الذاتي الى صناعة "الشعور بالذنب" لدى مُريديهم، لأن الباحث عن تطوير ذاته يجب أن يحتقرها أولا كي يبحث عن تطويرها، فلا يبحث عن التطوير المُتكوّرُ يلفاً. وهذا ما يعملُ عليه كل المدربين، فهم يسوقون العادات السيئة "الإنسانية" لكي يرى القارئ نفسه فيها، قبل أن يسردوا لهُ القواعد الجديدة كي يصبح خارقاً. وهذا ما يجعل أكثر مريدي التطوير الذاتي من باحثين عن تطوير ذاتهم الى باحثين عن معالج نفسي ينقدهم من الكآبة التي صنعوها في أنفسهم اتّباعاً لتلك الأفكار. فالباحث عن تطوير ذاته مقلدا لكل ما يقوله مدرّبه، سيشعر بالكآبة أكثر من غيره لأنه يعتقد أن كلّ الظروف الماديّة موجودة حوله، لكنّه أفشل مما كان يعتقد، فيدخل في دوّامة أكثر خطورة.
يستدرجون مريديهم بقول أن فيهم شيءٌ مميز يجب أن يعملوا على إبرازه، غير أننا المميز كغيره يحتاج إلى علم وليس لمعرفة ميزته.
يسوقون فكرة استرجاع الأمور والتحكم فيها، غير أننا لا نتحكم في شيء إلى في الأفعال الآنية.
يعدون مريديهم أنهم سيكونون أكثر جرأة في اتخاذ القرارات، غير أن القرارات تحتاج إلى معرفة وعلم أكثر من الجرأة، تستطيع أن تتهور بقول لا أين يجب قول نعم، لكنك لن تحسن إدارة النتائج.
تسويق الإرادة على أنها كلّ شيء يعمل عكس مفهوم الإرادة، لان إرادة القوّة عند نيتشه لا تعني إرادة المناصب والمال والنجاح في تكوين مؤسسات وإدارة الأعمال والزواج بأحسن النساء، ليست هذه الإرادة فلسفياً، الإرادة تتجاوز المادة، ذلك انّ الانسان خليط بين الغايات المادية والغايات الروحانية المشاعريّة، وكما يقول بروس لي، لا تُفكّر بقدر ما تَشعُر. الانسان عبارة عن مركّبات مُعقّدة لا تعقل تلك السهولة في الإرادة المادية، وان المادّة والنجاح أبسط بكثير من تركيبة الانسان المعقّدة.
خديعة "الصداقة" بين المؤلف والقارئ تنجح في كلّ مرّة، لأن المؤلف يلبس ثوب الناصح، مع اعتماده على طريقة الأخ الأكبر الذي يحتقرك ويحتقر تركيبتك كانسان مستقل لتجاربه دون ان تشعرَ بانه يفعل ذلك. يختار الناس الصديق للنصيحة لأنهم يخافون من الحُكم، ولا يحبّون سلطة العالم والمُتمّكن، لأنهما محقّان، والناس تخشى الحقيقة. ان يذهب أحدنا الى الطبيب النفسي عوض صديق يعني أنه قبل فكرة أنه يُعاني، غير أن من ينحرفون الى التطوير الذاتي لا يقبلون فكرة أنهم يعانون نفسيا بل يعانون ماديا.
هدم التباين بين المستويات العقلية والقدرات النفسية والاختلافات الثقافية في أسطر التطوير الذاتي، تجعله تطويرا آليا غير ذاتيّ بالمرّة، فهو يخاطب الآلة أكثر مما يخاطب جنس البشر، وهذا نوع من احتقار الاختلافات، الأمر الذي لا تقوم به العلوم تماما.
مرض التطوير الذاتي أصبح يولد لنا براعم لم يتطوّروا بعد، لا ذهنيا ولا جسدياً ولا تجريبياً، فقد أصبح المطوّر الذاتي نجماً في ذاته وليس ناصحاً لهم، وكل هدف البراعم الآن هو أن يصبحوا ناصحين ومدرّبين هم كذلك.
وبهذا، أعلن شهادة وفاة التطوير الذاتي اليوم 10.02.2022
فانا لله وانا اليه راجعون.
#عمادالدين_زناف
المقال 267